الطبيب مضغوط والوقت مهم
بقلم: بول هسيه
ترجمة وتعليق: د. غالب خلايلي
عندما قرأ زميل الدراسة الدكتور علاء العجيلي مقالي عن (التدوين الطبي) المنشور يوم الجمعة 16 آب 2024 في موقع تأمين ومصارف، أثنى على المقال، وأرسل لي مقالا منشوراً في الولايات المتحدة قبل عدة سنوات بعنوان: (كيف خلقت سياسات الحكومة (الأميركية) الكارثة المتمثلة في السجلات الصحية الإلكترونية؟)، يكاد يتحدث عن نقاط مقالي ذاتها، وإن أهمل موضوع الغش الذي يمارسه بعض الأطباء، إلا أنه كاد يتهم حكومة بلاده بالغش عندما سرعت فرض نظام مرهق للأطباء، فولد خديجا قاصرا ونما معاقا. وقد رأيت ترجمة المقال للقراء الكرام، للتأكيد على المعاناة في الوسط الطبي، لصالح أناس خارجه، مشيداً بالأخ الدكتور علاء العجيلي، اختصاصي القلب في أميركا، ونجل الأديب الراحل عبد السلام العجيلي، رحمه الله.
***
كان من المفترض أن تجعل السجلات الصحية الإلكترونية (EHRs) الحياة أسهل للمرضى والأطباء.
للوهلة الأولى، يبدو هذا واضحًا إذ يمكن فقد السجلات الورقية أو إتلافها، كما أن خطوط الأطباء تكاد تكون غير مقروءة، فتصعب قراءة الملاحظات أو الوصفات الطبية المكتوبة بخط اليد، وهنا قدمت السجلات الإلكترونية وعدًا بالكفاءة والأمان ضد الفقدان، وسهولة نقل البيانات بين الممارسين والمستشفيات.
ومع ذلك أظهرت مقالتان حديثتان الضوء على مشاكل خطيرة في السجلات الصحية الإلكترونية قد لا يكون عدد من المرضى على دراية بها، على الرغم من أن الأطباء الممارسين يعانون معها يوميًا.
- في مقالة بعنوان “الموت بألف نقرة: أين ذهبت السجلات الصحية الإلكترونية؟”، كتبها فريد شولتي وإيريكا فراي، وصفت كيف تعيق السجلات الصحية الإلكترونية ممارسة الطب في كثير من الأحيان، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى الطريقة التي تم بها فرض السجلات الصحية الإلكترونية على الأطباء والمستشفيات من خلال الضغط الحكومي.
- كما وصف الدكتور أتول جواواندي، وهو جراح في جامعة هارفارد ورئيس مبادرة أمازون/ بيركشاير هاثاواي/ جي بي مورجان تشيس الصحية الجديدة، التأثير الضار للسجلات الصحية الإلكترونية على الممارسة الطبية في مقالة نشرت في مجلة نيويوركر بعنوان “لماذا يكره الأطباء أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم”.
إن كلا المقالين يستحق القراءة بالكامل. ولكن في هذا العمود، أردت تسليط الضوء على بعض النقاط التي برزت لي:
1) لعبت الحكومة الفيدرالية دوراً رئيساً في فرض السجلات الصحية الإلكترونية على الأطباء.
في عهد الرئيس أوباما، فرضت الحكومة الفيدرالية مجموعة متنوعة من الحوافز الاقتصادية على الأطباء والمستشفيات لتبني السجلات الصحية الإلكترونية كجزء من “حزمة التحفيز” لعام 2009. وكما لاحظ شولتي وفراي: لن يكون الأطباء مؤهلين للحصول على إعانات فيدرالية (مبلغ يصل إلى ما يقرب من 64000 دولار على مدى فترة من السنوات) إلا إذا كانوا “مستخدمين مفيدين” لنظام معتمد من الحكومة.
ومن جانبهم، كان على البائعين تطوير أنظمة تلبي متطلبات الحكومة، فاشتكى مجتمع بائعي السجلات الصحية الإلكترونية (وكان آنذاك صناعةً متهالكة بقيمة 2 مليار دولار) من قائمة المتطلبات، لكنه كان على استعداد للاستفادة كثيرًا من حقنة الحكومة البالغة 36 مليار دولار، لدرجة أنه هب للتنفيذ. وكما قال روستي فرانز، الرئيس التنفيذي لشركة NextGen Healthcare المتخصصة في تقديم خدمات السجلات الصحية الإلكترونية: “لقد كانت الصناعة في وضع يسمح لها بإنجاز المهمة، ولابد وأن أحقق هذه الأهداف، ولهذا السبب سأقوم بتنفيذها”.
ويلقي هالامكا، الذي كان من أشد المؤيدين للمبادرة في كل من إدارتي بوش وأوباما، باللوم على الضغوط في إطلاقها السريع بقدر ما يلقي باللوم على قائمة الرغبات المفرطة. ويقول: “إن الانتقال من التنظيم إلى منتج قابل للاستخدام على نطاق واسع في أيدي الأطباء في غضون ثمانية عشر شهراً، أمر سريع جدا. إنه أشبه بطلب إنجاب تسع نساء لطفل في غضون شهر واحد”.
2) لم تكن العديد من ميزات السجلات الصحية الإلكترونية مدفوعة باحتياجات الأطباء، بل كانت مدفوعة بالبيروقراطيين والمسؤولين الحكوميين غير المشاركين في رعاية المرضى بشكل مباشر.
لاحظ شولتي وفراي: كان لدى الجميع أفكار عظيمة للسجلات الصحية الإلكترونية. كانت إدارة الغذاء والدواء FDA تريد أن تتبع الأنظمة معرّفات الأجهزة الفريدة للغرسات الطبية track unique device identifiers for medical implants ، وكانت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC تريد أن تدعم مراقبتها للأمراض، وكانت مراكز الرعاية الصحية تريد أن تضمن مقاييس الجودة وما إلى ذلك. قال موستاشاري: “كانت لدينا جميع الأفكار الصحيحة التي ناقشتها اللجنة “، لكن لم يتفق الجميع على أنها كانت الأفكار الصحيحة. وبعد فترة وجيزة، أصبح “الاستخدام الهادف” “meaningful use” اختصارًا مهينًا لكثيرين في برنامج حكومي مرهق، جعل الأطباء في كل زيارة يعيدون وضع علامة في مربع يشير إلى حالة التدخين (وغيره، مما لا ضرورة لتكراره).
3) يجد الأطباء الممارسون أن أنظمة السجلات الطبية الإلكترونية عبء ثقيل.
استشهدت الدكتورة جواواندي بتجربة صديقتها وطبيبة الرعاية الأولية الدكتورة سوزان سادوغي حول إحباطاتها: إنها تشعر بأن هذا النظام جعل الأمور أسوأ بالنسبة لها ومرضاها. ففي السابق، لم تكن سادوغي تضطر إلى إحضار المهام إلى المنزل لإنجازها. أما الآن فهي تقضي عادة ساعة أو أكثر على الحاسوب بعد أن يذهب أطفالها إلى الفراش. إن تجميع المعلومات المهمة حول تاريخ المريض في بعض الأحيان أكثر صعوبة مما كان عليه عندما كان عليها أن تقلب رزمة من السجلات الورقية. كانت الملاحظات المكتوبة بخط اليد للأطباء موجزة ومباشرة. ولكن مع أجهزة الحاسوب، فإن الاختصار هو لصق كتل كاملة من المعلومات (تقرير تصوير كامل من صفحتين، على سبيل المثال) بدلاً من تحديد التفاصيل ذات الصلة. ويتعين على الطبيب التالي أن يبحث في عدة صفحات للعثور على ما يهمه حقاً. وإذا ضربنا هذا في عشرين مريضاً في اليوم، فسوف ندرك مشكلة سادوغي.
إن عيوب قابلية الاستخدام تحبط الأطباء وقد تضر بالمرضى. استشهد شولتي وفراي بتجربة طبيبة في قسم الطوارئ: في كل مرة تصف فيها مسكن الألم لمريضة، سواء أكانت تبلغ من العمر 9 أعوام أم 68 عامًا، يأتي تحذير أنه (قد يكون من الخطير إعطاء الدواء لامرأة حامل). يجب على الطبيبة، التي لا تسمح لها مؤسستها بالتعليق على الأنظمة، أن تتجاوز التحذير بمزيد من النقرات. قالت: “هذا مجرد طرف صغير من جبل الجليد“.
يقوم طبيب الطوارئ المتوسط بإجراء 4000 نقرة على الماوس على مدار نوبة العمل، وأن احتمالات القيام بأي شيء 4000 مرة دون خطأ ضئيلة. وأضافت: “الواجهات مربكة للغاية وخرقاء”. “إنها تدعو إلى الخطأ”.
4) تسهم السجلات الصحية الإلكترونية بشكل كبير في إرهاق الأطباء: إذ يتوجب على العديد من أطباء الرعاية الأولية والطوارئ قضاء ساعتين أمام شاشة الحاسوب مقابل كل ساعة يقضونها مع مريض.
في مقالة حديثة نشرتها مجلة Health Affairs، درس راج راتواني وزملاؤه تأثير السجلات الصحية الإلكترونية على معنويات الأطباء وكانت النتائج قاتمة: إن وضع علامة صح في المربعات، والبحث اللامتناهي في القوائم المنسدلة، كلها جزء مما أسماه راتواني “العبء المعرفي cognitive burden ” الذي يرهق أطباء اليوم ويدفع أعدادًا متزايدة منهم إلى التقاعد المبكر. كما ألقى آشيش جها، أحد المشاركين في تأليف دراسة هارفارد، باللوم بشكل كبير على “النمو في السجلات الصحية الرقمية المصممة بشكل سيئ، والتي تطلبت من الأطباء قضاء المزيد من الوقت في مهام لا تفيد المرضى بشكل مباشر”.
ومن المثير للاهتمام أن الدكتور جواواندي يرى أن إرهاق الأطباء Burnout مرتبط ارتباطًا وثيقًا بطول الوقت الذي يقضيه الطبيب في التدوين: “اكتشف فريق في عيادة مايو أن أحد أقوى مؤشرات الإرهاق هو مقدار الوقت الذي يقضيه الفرد في القيام بتوثيق الحاسوب. وفيما يقضي الجراحون وقتًا قصيرًا نسبيًا من يومهم أمام الجهاز، يقضي أطباء الطوارئ الكثير منه بهذه الطريقة. ومع انتشار التحول الرقمي، يشعر الممرّضون وغيرهم من العاملين في مجال الرعاية الصحية بتأثيرات مماثلة نتيجة بقائهم مقيدين بالشاشات”.
5) عيوب السجلات الطبية الإلكترونية ليست متأصلة في التقنية، بل ترجع إلى سياسات الحكومة.
وكما قال أحد أطباء الطوارئ لشولتي وفراي: إن الأمر لا يتعلق بأننا مجموعة من المتخلفين عن استخدام التقنية. فأنا أملك جهاز آيفون وحاسوبا، يعملان بالطريقة التي يفترض أن يعملا بها، ثم يتم تزويدنا بهذه الأدوات المرهقة للغاية والمعرضة للخطأ. هذا أمر فرضته الحكومة. لم يكن هناك وقت حقيقي لترك الأفضل يصعد إلى القمة؛ بل كان على الجميع أن يتدخلوا ويختاروا ما يناسبهم وينفقوا عشرات الملايين من الدولارات على نظام يقتلنا ببطء. وعلى النقيض من ذلك، فإن أنظمة الأشعة الرقمية التي أعمل بها في الممارسة اليومية ممتعة. تنافس الباعة المختلفون لتقديم الميزات والواجهات التي تجعل حياة الأطباء أسهل، ولهذا اشترت المستشفيات والأطباء أنظمة الأشعة التي تحقق أكبر قدر من الملاءمة الطبية والاقتصادية ــ وليس بسبب أوامر الحكومة. ونتيجة لذلك، تم اعتماد أنظمة الأشعة الإلكترونية بطريقة منظمة، حيث شقت أفضل الأنظمة طريقها إلى مكاتب الأطباء والمستشفيات على أساس الممارسين الذين يتصرفون بحرية بناءً على أفضل أحكامهم العقلانية.
والخلاصة: إن قصة السجلات الطبية الإلكترونية ودور الحكومة في هذه الكارثة تحذير للأطباء والمرضى. فعندما حاولت الحكومة تعطيل قوى السوق الحرة الطبيعية، خلقت وحشاً يضر بالأطباء والمرضى على حد سواء. ومع بدء الساسة في مناقشة مزايا “الرعاية الطبية للجميع”، فمن الحكمة أن يتذكر الناس كيف انتهت الأمور في المرة الأخيرة التي حاولت فيها الحكومة تحويل النظام الصحي، وربما تعتمد حياتنا حرفياً على ما نتعلمه من هذا الدرس.
=========================================
- بول هسية Paul Hsieh: كاتب المثال في 1 نيسان، 2019، وهو طبيب ذو اهتمامات طويلة الأمد بالسياسة الصحية وأخلاقيات الطب واقتصاد السوق الحرة. مؤسس المشارك لمؤسسة الحرية والعدالة.
- مترجم عن: https://www.forbes.com/sites/paulhsieh/2019/03/31/how-government-policies-created-the-current-disaster-of-electronic-health-records/