غبطة البطريرك يوحنا العاشر في أمسية نسمات أنطاكية
أكتب إليكم من شرفةٍ تطل على قاسيون، مع نسمات الصباح الساحرة، على الرغم من أننا في أوائل تموز، فقد رحلت موجة الحر الحزيرانية (المشهودة عالميا) لكن إلى حين عودةٍ قريبة ينضج فيها العنب والتين والرُّطَب.
***
كوكبة 1984.. الزملاء مرايانا
في الأدب الغربي رواية مثيرةٌ للكاتب الايرلندي إريك آرثر بلير (الذي كان يوقّع باسم جورج أورويل) عنوانها 1984، نشرها عام 1948، وتنبأ فيها مبكراً جدا بأغلب ما وصلنا إليه من تقنيات تحاصرنا.
والمصادفة ههنا هي أن 1984 هو عام تخرّجي وكوكبة من الزملاء والزميلات في كلية الطب البشري بجامعة دمشق العريقة.
أربعة عقود مضت كالخيال ولم نرَ (بمعظمنا) بعضَنا بعضا، فنحن بضع مئات تفرقوا في ديار الأرض، مرّت على كل منا أحداث وحكايات. كثيرون اشتهروا بين كبار الأطباء والأساتذة الوطنيين والعالميين، والأكثرية صارت أجدادا، فيما سقط نفرٌ على الطريق مبكرا بمرض أو بحادث أو بكوفيد، مأسوفاً على فراقه.
والحق أنني أعلم كل ذلك صدفةً من زميل هنا أو هناك، إذ اخترت ألا أكون كائنا (فيسبوكيا) (أو وجيهاً كما تحلو لي ترجمة الكلمة) مقتنعا بما قاله الفيلسوف والباحث الروائي الإيطالي امبرتو ايكو صاحب رواية اسم الوردة الشهيرة ونوبل للآداب الأشهر، لأبدو في مجتمعي كحامل السلّم بالعرض أو السابح عكس التيار.

عندما أخبرتني زميلة عزيزة أن (ثلّة) منا سوف تجتمع مساء الخميس 28 حزيران في محل شهير بالهواء الطلق، فرحتُ كما لم أفرح من قبل، وكنت أظن نفسي عصيّا على الفرح. كأنها إثارة الرواية التي بدأت حديثي بها، فما سرّ هذا الفرح الطفولي؟
إنها العودة إلى الذكريات الجميلة.. إلى أيام الشباب الفاعل المتفائل المقبل على الحياة بلا هموم تذكر، مع احتضان الأهل والدراسة المجانية بالمطلق التي عزّ نظيرها في غير أمكنة. كل منا الآن يرى زميله أو زميلته في مرآته، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، فلا نرى حتى علامات تقدّمنا في السن، و لو أنني لم ألحظ فروقا مهمة، أو قولوا: هي عين المحب.
مثل حلم جميل، بدأ توافد الزميلات الناضجات الأنيقات (كنّ ثماني) الواحدة تلو الأخرى، وكنت الزميل الوحيد بينهن (لتعذر حضور آخرين)، ترافقني (أم العيال) فتشعر معي بالفخر وهي تتعرف إلى الزميلات اللاتي جلستُ وإياهن على مقاعد الدرس ست سنوات، ووقفنا معا على أسرّة المرضى نتعلم دروس الطب والحياة، على يد أساتذة كرام لا يتسع المجال لتعدادهم في هذه العجالة، وإن ذكرنا في المقال السابق واحدا من أهمهم، بسبب ظروف علاجه القلبي، وأعني الأستاذ الدكتور إياد الشطي حفظه الله.

وتمر ساعتان ونصف من بانوراما تلخص أربعة عقود من الفراق، من الطب والأدب إلى الفن والحياة، إلى الأبناء والبنات والأحفاد، والمصادفة هنا هي أن معظم فروعنا بعيدة عن الوطن في دراسة أو اختصاص أو عمل.
كانت أمسية جميلة جدا، على الرغم من بساطتها وعفويتها المطلقة بغياب أي مكياج، وغياب أي مدخن فينا (عكس جيراننا في الطاولات) افترقنا بعدها على أمل اللقاء، بعد أن تبادلنا عنواناتنا وأرقام هواتفنا (عنوانات هي الجمع الصحيح لعنوان).
حنين إلى المنزل الطبي الأول..
صباح الأحد 30 حزيران 2024 ، توجهت إلى مستشفى المواساة، المستشفى الذي قضينا في جنباته وقاعات تدريسه وبين أسرّة مرضاه سنوات من عمرنا الغض. عادت إلى ذاكرتي جلسات الخميس الصباحية الصاخبة وأهم أبطالها الأستاذ الدكتور فيصل بك الصباغ (كما دعاه الجميع وأجلّوه)، وكان رحمه الله ملك التدريس الممتع والقفشات المنشّطة التي تزيل الهم عن القلب.
وقفت على باب المستشفى فتذكرت يوما من عام 1984 صورت به أستاذين عزيزين اجتمعا صدفة، وهما من امتحناني في الأمراض الداخلية (ولجنتهما المسماة لجنة الوزراء هي الأصعب، أ.د. مدني الخيمي وزير الصحة و أ.د. محمد علي هاشم وزير التعليم العالي)، وتذكرت صورنا مع الأستاذ عبد الحي عباس (أستاذ الأنف والأذن والحنجرة الشهير) في حديقة المستشفى، وكذا مع الأستاذ صباغ سالف الذكر.

على الباب صادفت شابا رقيقا طلبت منه أن يصورني بهاتفي مُظهِرا المدخل ورائي، لأعرف بعدها أنه طالب طب في سنته الأخيرة. صعد معي الدرج، فإذا به يسألني من غير مقدمات: ما رأيك بأن أسافر؟!
قلت: إن كنت تبغي مزيدا من العلم تخدم به وطنك لاحقا فيا حبذا.
ومشينا معا في ردهات المستشفى، وكانت نظيفة منيرة، وصعدنا مرورا بالإدارة فقسم الأشعة إلى الأجنحة المختلفة التي نسيت مواقع بعضها، فتذكرت المرحوم الأستاذ صلاح عثمان عند رؤية القاعة المسماة باسمه ودروسه المميزة، ثم افترقنا عند قسم أمراض العيون، لأعود أدراجي إلى منزلي وقد استبد الحرّ بالجو وبي.
وقبل المواساة، كنت في جولة سريعة على طوابق مستشفى الأسد الجامعي، علني أصادف صديقا ما من غير ميعاد. ولأن من عادتي صعود الأدراج حتى بوجود المصاعد والكهرباء، اختبارا لتحملي، فقد صعدت الطوابق السبعة بهمة معقولة، مرتاحا قليلا عند الطابق الخامس. ألا ليت الشباب يعود يوما.
على أن هذا الصرح لم يكن من ضمن ذكرياتي الدراسية، لكنه يشكل بعضا من ذاكرتي بدءا من يوم افتتاحه 1987 ومرورا بأعزاء عولجوا به: والدتي مريم خلايلي يوم القلب المفتوح وتبديل الشرايين التي تكلست (على يد الدكتور غسان معسعس) عام 2004، ووالدي خليل يوم إصابته بذات الرئة عقب تبديل مفصل الفخذ ورحيله عن ثمانين عاما سنة 2012، رحمة الله عليهما.

كنز سوري اسمه دار الأوبرا
هي دار الأسد للثقافة والفنون، وهي حقا صرحٌ رائع جميل أنيق، في جانب من جوانب ساحة الأمويين قرب السيف الدمشقي الشهير. وفي جنبات هذا الصرح تخرّج مئات وربما الآلاف من العازفين والممثلين (في المعهد العالي للموسيقى والمعهد العالي للفنون المسرحية)، وفيه أنشطة في قمة الروعة على مدار العام.
في الماضي الجميل كانت مثل هذه الأنشطة تقام في المراكز الثقافية الأجنبية، كالفرنسي والألماني والاسباني…. التي لم يبقَ منها مركز، تماشيا وأوركسترا عالمية، لكن الحاضر بدا لي أجمل بكثير مع كفاءات وطنية خالصة.
وقد صادف وجودنا عدة أنشطة نذكر منها:
-نسمات أنطاكية اللطيفة الساحرة. منظر لا أبهى ولا أجمل في دار الأوبرا بدمشق مساء السبت 29 حزيران 2024 حيث تقاطر الناس في أبهى طلاتهم وحللهم وكامل حيويتهم ليستمعوا ويستمتعوا بتلك النسمات. غصت القاعة بالحضور، وأخذت الفرقة الأوركسترالية (أوركسترا اورفيوس بقيادة أندريه معلولي) الأنيقة بملابسها البيض والسود أماكنها، وأخذ مغنو كورال الكنارة الروحية ومغنياتها مواقعهم، ولم يبق سوى أن يطل غبطة البطريرك يوحنا العاشر يازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس ليبدأ الحفل، والذي أقيم بمناسبة عيد الكرسي الرسولي الأنطاكي المقدس. وكان من ضيوف الأمسية مغنية الأوبرا الرومانية كاتالينا يونيلا كيلارو، وتضمن برنامجها ألحاناً منوعةً منها الوطنية والدينية والوجدانية بتعدد نماذجها بين الموسيقا البيزنطية والعربية.

كانت الأمسية غنية بالفن والمعلومات الغائبة عن الجمهور في ظلّ تكاثر الإذاعات والفضائيات والمواقع التي يغني كل منها على ليلاه، فيما يكاد الفن الراقي الصافي أن يندثر.
كان كل ذلك لي مفاجأة مبهجة تذكّر بأيام دمشق الجميلة الساحرة، لنردد: تفاءلوا بالخير.. تجدوه. {تفاصيل الأمسية لمن يرغب:
https://www.facebook.com/story.php?id=100064812935834&story_fbid=876232281213862 }
-ثلاثية البيانو والفلوت والكلارينيت. مساء الأول من تموز 2024 قدمت ثلاث عازفات يانعات في عمر الورد (ياسمين محمد، جودي سليمان، سيما الشهابي) أمسية موسيقية كلاسيكية راقصة هي قمة في الأداء والإحساس، حيث أبدعن في عزف المقطوعات الشجية بإحساس كامل راق، تم فيه مزج أصوات الآلات الثلاث بطريقة مبتكرة غير موجودة بالأصل، بعد تدريب دام ستة أشهر، وكم يفرح المرء عندما يعرف أن العازفات درسن في ظروف الحرب الدائرة، وأن حديثا دار مع بعضهن بين لنا تمسكهن بالوطن وعدم رغبتهن بالسفر. هذا وعي يثلج الصدر نرجو أن يعم كل بلداننا. لمزيد من التفاصيل:
https://m.facebook.com/photo.php?fbid=99506340573530&vanity=100057196400802
وبانتظار أمسية قريبة للمؤلف الموسيقي وعازف البيانو المعروف عالميا الأستاذ غزوان زركلي بعنوان: رحلة موسيقية من النمسا إلى إسبانيا، أرجو لكم كل أمنية طيبة. دمتم بخير.
غالب خلايلي
دمشق 3 تموز 2024