المبنى المهجور بعد ازدهار في حديقة مونتربال
بعد انتهائنا من استراحة محلّ الأجبان “الطبيعية” الذي حدّثتكم عنه وعن أسعاره ومائه العزيز العذب، انطلقنا جنوباً في رحلة أربع ساعات نحو مونتريال، كبيرة مدن كيبيك، وثانية كبريات المدن في كندا بعد تورونتو المتأمركة (وتاسع كبريات مدن أميركا الشمالية).
وصلنا مساء قبل الغروب الذي يتأخر إلى التاسعة، وحللنا في نُزُل جميل واسع في شارع حيوي قديم، وبدا لنا أنه كان مَعْرِضاً فنياً (تعثّر أصحابه؟!)، إذ ما زالت عدّة لوحات زاهية معلقة على الجدران.
ومن أهم ميزات هذا النزل نظافتُه، وبرودتُه الفائقة (التي تُسعد مرافقينا المعتادين على البرد، فيما تجعلنا نرتعش)، وتوفّرُ كل ما يمكن أن يحتاجه النزلاء، بما في ذلك الواي فاي (لا قدّر الله انقطاعه)، ولا ينقصه – مثل كل المباني الكندية والغربية عموماً – سوى الشطّاف في الحمّام (مما لا يحتاج إلى مزيد من الشرح، والتساؤل: لماذا؟ وإلى متى؟)، وربما الدفء الأسري الذي يكاد يندثر حتى في شرقنا المتباهي معظمُه بأوهام، بدليل التخلّف الرازح فيه.
وبعد استراحة قصيرة قرّرنا، بعد بحث “مغوغل”، تناول عشائنا في مطعم أفغاني يدعى (خيبر)، والحقّ أنه كان ذا طعام مميز، بدءاً بخبزه الشهي (المعروف جدّاً خليجياً في مخابز أفغانية متواضعة)، ومروراً بأصناف المقبّلات التي لم نعهد مثل طريقتها (من الباذنجان، واليقطين..) ثم وجبات الرز “المغنّج” بألوان من الأعشاب والبهارات واللحم، وانتهاء بالمهلبية والشاي الأخضر بالهيل.
جولة في مونتريال
ظُهر اليوم التالي كنا في دعوة “إفطار غداء Branch” عند أخت زوجتي المهاجرة القديمة إلى أميركا الشمالية، وكانت مائدة سخيّةً بحقّ، ناهيك عن ترتيبها وأناقتها البرتوكولية الفائقة، تلتْها رحلةٌ إلى حديقة وسط مونتريال، قرب جسر جاك كارتييه (فوق نهر سان لوران، وكارتييه اسم بحّار فرنسي مستكشف عن الذهب والمعادن بتكليف ملك فرنسا) حيث ألعاب الأطفال ومحلات العرض ووجبات بوتين الشعبية (1) وغيرها، وفي نهايتها ميناء قديم قرب برج الساعة الشهير، لكن ما لفت نظري حقيقةً هو بناء في الحديقة كان عامراً بالبشر والموسيقى والاحتفالات قبل ثلاث سنوات، لكنه اليوم صدئ الأبواب المغلقة، باهت الألوان، لا حياة فيه، فقلت: سبحان مغير الأحوال الحيّ الذي لا يموت.

بعدها تمشّينا في شارع سان بول Rue St-Paul النابض بالحياة والزاخر بالكثير من التجارب، من فناني الشوارع، إلى المقاهي ومحلات الحلوى ومتاجر الهدايا، ولا تعدم فيه المشرّدين Homeless بلحاهم البيضاء الكثة وكلابهم الرابضة على الأرض، وسط كمّ مدهش من البشر يتمشون، صبايا جميلاتٍ كأنهن خرجن للتو من مجلة أزياء، وشباناً وسيمين، ونساء ورجالاً وعجائزَ في تمام الأناقة.. ذكرني ذلك إلى حد ما بمماشي الصالحية والحمراء في الشام، وجِوار أبو رمانة والمالكي، والقصاع، لكن دون مشهد المشرّدين وكلابهم، مع فارق آخر مهم في بلادنا ألا وهو شيوع الأراجيل والتدخين الذي يعمي العين والقلب ويخنق الرئات بلا وعي ولا مسؤولية حتى من قبل أطباء، يقابله الحشيش برائحته النتنة في بلاد “الفرنجة”.
وفي اليوم التالي كان لنا موعد قبيل الظهر مع مطعم لبناني متواضع قدّم لنا المآكل المعروفة من فول وفلافل وفتة حمص (تسقية) وبيض مقلي وزيتون ومناقيش، فكان إفطارا شاميا بامتياز، ما لبثنا بعده أن زرنا حديقة واسعة الأرجاء (وما أكثر الحدائق ههنا)، لنتوجّه بعدها إلى مخزن العطور الأنيق الذي تديره مضيفتنا، ثم لنخرج بجولة في مونتريال باتجاه جامعتي مكغيل وكونكورديا الشهيرتين.
وفي اليوم التالي، الجمعة الأول من آب، عُدنا أدراجنا الى قواعدنا في مسساجا تورنتو، في رحلة ستّ الساعات (هكذا لغوياً)، وصادفنا في الطريق الدولي عددا من الحوادث المرورية التي أحدثت ازدحاما قاتلاً في الجهة الأخرى، سيارات شبه واقفة الى ما بعد مدّ النظر، كأنك في طريق الشارقة – دبي وغيرها من الطرق المزدحمة، وعندما حططنا الرحال في البيت، توجّهت ابنتي وابنتاها إلى منزل عائلة صديقة لجلب “ليلي”، القطة الشقية التي اشتاقت هي الأخرى لبيتها.

الدراجات الهوائية والكلاب في مونتريال
وفي مونتريال المدينة ذات الطابع الفرنسي، تجد كثيرا من الشوارع المرقّعة، بل كثيرة الرقع، التي تذكّرك ببلادنا، كما أن فيها مسارات مخصصة للدراجات الهوائية على يمين الطريق، لتجد شلالا من راكبي الدراجات وراكباتها، بسرعة ينبغي للمشاة الانتباه لها، ولا يقصر هؤلاء برنّ أجراسهم عند اللزوم، وطرح السلام عليك بود عندما تلتفت لهم. إن استخدام الدراجات شائع، توفيرا ورياضة وحماية للبيئة، ولهذا تتوفر الدراجات أيضا لمن لا يملكونها، في مجمعات تجدها في تطبيق هاتفي، تستأجر الدراجة بما يقارب اثني عشر سنتا بالدقيقة، وتتركها في مكانها المخصص حيث تصل.
الظاهرة الكندية الأخرى هي شيوع تربية الكلاب والتنزه بها في الشوارع (أهي حاجة نفسية كونها تشتهر بالوفاء خيرا من الإنسان؟)، ولا تعدم وأنت تمشي أن تجد مراكز ومحلات فخمة للعناية بالكلاب وحاجاتها واستحمامها، وتطبيبها، ولا شك أن العناية بكلب أو قطة أمر مكلفٌ ومضنٍ، فهي أرواح لها متطلباتها الكثيرة، لكن هذا شأن البشر، “وللناس فيما يعشقون مذاهب” (2)، وهو -فِطرةً- ليس مذهبي، خاصة وأنني أرى البشر أحوج بكثير إلى الرفق بهم، دون الإساءة للحيوان بالتأكيد. معادلة غير صعبة لأولي الألباب والضمائر النزيهة، أما غيرهم فلا شك أن الكلاب حتى الشاردة تفْضُلُهم.
أضواء على مونتريال:
– في عام 1603 م، ذكر الفرنسي صمويل دو شامبلان أن الإيروكوايين الأصليين اختفوا تماماً من وادي سان لوران نتيجة الهجرة، أو تفشي الأمراض الأوروبية، أو الحروب القبلية.
– أطلق المستوطنون الفرنسيون على مدينتهم الجديدة (التي تأسست في 17 أيار 1642) اسم مدينة ماري Ville Marie تكريماً للسيدة مريم العذراء عليها السلام.
– وبحلول 1643، تعرضت فيل ماري لهجمات من الإيروكوا، وفي عام 1652 عاد حاكمها ميزونوف إلى فرنسا ليجمع 100 متطوع لتعزيز عدد سكان المستعمرة، وعندما وصلوا خريف عام 1653 كان عدد سكان مونتريال دون 50 شخصاً.
– يُعتقد أن اسم مونتريال Montréal مشتق من اسم مون روايال Mont Royal، التل ذي القمم الثلاث الواقع في قلب المدينة الذي بُنيت حوله المستوطنة الأولى على جزيرة مونتريال وعدد قليل من الجزر الصغيرة المحيطة.
– بلغ عدد سكان مونتريال 1.76 مليون نسمة عام 2021 وبلغ عدد سكان المنطقة الحضرية الكبرى 4.3 مليون نسمة.
– اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية، وهي من أكثر المدن ثنائية اللغة في كندا.
– كانت مونتريال تاريخياً العاصمة التجارية لكندا، لكنها فقدت مركزها لصالح تورونتو في سبعينيات القرن العشرين من حيث عدد السكان والقوة الاقتصادية. ومع ذلك، لا تزال المدينة مركزًا مهماً للفنون، والثقافة، والأدب، والتجارة، وصناعة الطيران، والنقل، والصناعات الدوائية، والتكنولوجيا، والتصميم، والتعليم، والسياحة، والطعام، والموضة.
– تُصنف ضمن أفضل عشر مدن في العالم للطلاب الجامعيين وفقاً لتصنيفات QS. وفي عام 2018، صنفت مدينة عالمية.
– استضافت العديد من الأحداث الدولية المهمة، مثل معرض Expo 67 الدولي عام 1967.
– تستضيف المدينة مهرجان مونتريال الدولي للجاز، أكبر مهرجان جاز في العالم.
– جلب القرن 21 معه نهضة اقتصادية وثقافية لمونتريال. ومن بين المشاريع: بناء ناطحات سحاب سكنية جديدة، وإنشاء مستشفيين كبيرين، أولهما لجامعة مونتريال، وثانيهما لجامعة مكغيل، وإنشاء حي العروض الثقافيةQuartier des Spectacles.

كندا العلم والاختراعات
لكندا قصب السبق في كثير من الاختراعات، ففي مجال الطب: الإنسولين، اكتشفه فريق من العلماء بقيادة فريدريك بانتينغ في جامعة تورونتو، عام 1921 مما أحدث ثورة في علاج مرض السكري، وجهاز تنظيم ضربات القلب، اخترعه الدكتور جون أ. هوبز في عام 1950، وفي مجال الاتصالات والتكنولوجيا: أجهزة الاتصال اللاسلكي (Walkie-talkie): اخترعها دونالد هينغز وألفريد غروس في عام 1942، وبلاك بيري 1999، جهاز اتصال لاسلكي محمول أصبح أداة اتصال مهمة، خاصة في حالات الطوارئ. بداياته 1984، والبيجر اخترعه ألفريد غروس في عام 1949، ولغة البرمجة Java، اخترعها جيمس غوسلينج في عام 1994، وفي مجالات أخرى: رول دهان اخترعه نورمان بريكي في عام 1940، وزبدة الفول السوداني اخترعها مارسيليوس جيل مور إدسون في عام 1884 في مونتريال.
كندا الأدب والثقافة:
بدأ الأدب الكندي يتشكل تدريجياً مع الاستعمار الأوروبي، وظهر العديد من الشعراء المهمين باللغة الإنجليزية. كما ازدهر الأدب بالفرنسية، خاصة في كيبيك، خلال القرن 19، وتطورت حركات الحداثة والسريالية في القرن 20، مما أضفى عليها طابعاً سياسياً وصوراً حية، فضلاً عن التراث الغني للشعوب الأصلية في كندا، ففي أواخر القرن العشرين، أدى الوعي المتزايد بهوية السكان الأصليين والنضال من أجل حقوقهم إلى نمو الكتابة من قبل كنديين أصليين. ومن المواضيع البارزة في الأدب الكندي: الهوية والتعددية الثقافية، والعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وقضايا العنصرية والتاريخ الاستعماري.
ومن المؤلفين البارزين: أليس مونرو: جائزة نوبل في الأدب عام 2013، برعت في كتابة القصة القصيرة. ومارغريت آتوود: روائية وشاعرة من أعمالها “حكاية الخادمة” (The Handmaid’s Tale) و”آليس غريس” (Alias Grace). وإل.إم. مونتغمري: مؤلفة رواية “آن في جابلز” (Anne of Green Gables) الشهيرة. ومايكل أونداتشي: مؤلف رواية “المريض الإنجليزي” (The English Patient). وتشارلز جي دي روبرتس “أبو الأدب الكندي” كتب قصائد وصفية عن الطبيعة الكندية.
الجامعات الكندية:
في كندا أكثر من مئة جامعة منها: جامعة تورنتو Toronto التي نالت المرتبة الأولى في قائمة أفضل جامعات كندا في عام 2019، وجامعة مكغيل McGill جامعة حكومية بحثية دولية موجودة في مدينة مونتريال، وجامعة واترلو Waterloo:
في مدينة واترلو في مقاطعة أونتاريو، وجامعة كونكورديا Concordia جامعة عامة في مونتريال، تدرّس باللغة الإنجليزية، وهي إحدى كبريات الجامعات الكندية من حيث عدد الطلبة.

الحركات الانفصالية في كندا
هناك همهمات وأحاديث لا تتوقف عن الرغبة بانفصال بعض الأقاليم عن “الوطن الأم”، فمقاطعة ألبرتا مثلا تنتج 85% من الغاز والنفط، وهي مستاءة من السياسات الاقتصادية الفدرالية، وعليه دعت دانييل سميث (رئيسة وزرائها)، إلى استفتاء على خطة الانفصال الإقليمي في عام 2026. من جانبه، يرى بعضهم أن دوافع انفصال ألبرتا تخفي نزعات عنصرية وطبقية، كانت وما تزال عاملا محوريا في تعزيز سلطات البيض على حساب السكان الأصليين والمهاجرين.
وبالمثل، فإن كيبيك الفرنسية تتململ للانفصال، وهذا الخيار مطروح أيضا للاستفتاء في 2026، ومن دواعي ذلك الاختلاف اللغوي والثقافي والاقتصادي الذي يتزايد مع الوقت، وكذا طوابير المرضى، وسرقة السيارات، والتضخم المتزايد. لا غرابة إذن أن ينفرط عقد الاتحاد الكندي (صاحب 10 مليون كم2)، ولا أي بلد آخر، وهل نستغرب ذلك إذا ألقينا نظرة إلى عالمنا، ورأينا من يطالب بتقسيم بلد متناهي في الصغر إلى حارات ودكاكين؟
دمتم بخير
مسساجا 8/8/ 2025هوامش:
1. بطاطا ودجاج أو قريدس وهو أغلى، والاسم أقدم بكثير من السياسي الروسي المعروف.
2. يقول الأمير الشاعر أبو فراس الحمداني:
ومنْ مذهبي حبُّ الديارِ لأهلها وللنّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهب

