الأقراط في أي مكان والوشم المبالغ به
د. غالب خلايلي
الانسان كائن اجتماعي، وكلما طالت عزلته فإنه يتوق للقاء بأخيه الإنسان ولو من الصين، إذ إن هناك لغة لا يخطئها القلب “السليم”.
فهل يميّز الجفاء بلاد الصقيع وحدَها؟
يحدث مثلاً أنك تمشي وحيداً في شارع أو سوق أو حديقة، وتلتقي عيناك مصادفةً بعيني أحدهم أو إحداهنّ، ويأبى حسُّك المُرهف أن تشيحَ بوجهك، وكم تحزن عندما تنكسر نظراتك الدافئة على صخرة “نظيرٍ” لك في الخَلق! جامدٍ أكثرَ من أبي الهول، أو يتصنّع ذاك الجمود! أو حتى لا يراك نظيرا ولا إنسانا، ذلك أنه شخص مغلق يخشى الابتسام ولقاء العيون، مع أن القصة ببساطة سحابة صيف سوف تنقشع بعد قليل، أو فاتحة اطمئنان اسمها (أفشوا السلام بينكم).
لكن لم الاستغراب؟
أوَ تستغرب ألا يحييك من تحييه حتى في شوارع بلدك، وقد عمي أو تعامى عن قراءة عينيك، وأنت من أنت، لتستهجنه في بلاد الغربة والثلج، وأخو الصقيع جاهل بمن أنت حقا؟ أم تستغرب جفاء الذي يُفتَرَض
أن بينك وبينه مودة، بل ما هو أقرب من حبل الوريد أحياناً؟
وربما يا أخي (ما حدا فاضيلك)، كل منهمك بأعماله وهمومه وضرائبه وقصص كثيرة، في الوطنين الجديد والقديم، فلا تحمّلْها كثيرا فوق ما تحتمل.
وعني أيها السادة، لم أعد أستغرب أي شيء، سواء أفي الحياة الواقعية أم حتى الافتراضية، ولست أدري حقيقةً أي فيروس ضرب قلب العالم حتى بات بليد الإحساس أو دونه كليا!.
إلى تورونتو على متن قطار ثم إبحار
قبل وصولنا إلى كندا، كنا على موعد غير محدد للقاء أسرة صديقة، حالها الاغترابية تشبه حالنا من عدة نواحٍ.
ومرّ وقت طويل قبل أن يتحقق الوعد. هم في مدينة فوق تورونتو تبعد عنها ساعة، ونحن أسفلها (بالخريطة) أيضا على بعد ساعة، نفكّر بكيفية اللقاء، ففي مخيلتنا أن الذهاب إلى العاصمة الاقتصادية تورونتو صعب ومعقد، وهو بالفعل كذلك إن ذهب المرء بالسيارة، فالطرق متاهات وازدحام مقيت، ورَكْنُ السيارة في الأقبية صعبٌ ومكلف، والأهم أننا نحتاج إلى من يأخذنا معه، إن لم نتكلف أوبر أو غيرها.

وتم اللقاء بأسهل مما تخيلنا!
من خبرتي أعرف أن لكل سؤال جوابا إذا سُئِل الشخص المناسب. ونحن لم نعرف من قبل أن هناك قطاراً ظريفاً ينقلنا خمس محطات (من كلاركسون إلى يونيون) بكل سلاسة وفي أقل من ساعة. ويا لدقة مواعيده، وراحة مقاعده الموزّعة في طابقين، يمتّعك أعلاهُما بالمناظر، ولو اختلف قليلاً عن نظيره البريطاني، الأسرع نظماً (إذ يفتح أبوابه ويغلقها خلال دقيقة، فيما الكندي طويييل البال)، والأكثر وضوحا (ففي كل مقصورة لندنية شاشة لا تتوقف عن ذكر المحطة القادمة صوتاً وكتابة، فيما صوت الكندي خشن مبهم، قد تضيع معه).
وأقول الحق: محطة القطار والمترو في تورنتو أذهلتني بنظامها وسعتها وكونها مركزا تجاريا مهما مثل أي (مول)، لم أنتبه له من قبل.
ألا ليت بلادنا تصبح كذلك، لكن دون التماهي أو التباهي بقوس قزح، ولو أن كل بلد حر بخياراته.. اللهم لا اعتراض.
الاتجاه نحو بحيرة أونتاريو وسفينة كاجاما
نزلنا قريبا من البرج الكندي الوطني الشهير CN Tower وسط المدينة المزدحمة ذات المباني العالية التي أشعر معها شخصيا بوهرتها. كان الطقس مائلا إلى الدفء والرطوبة، شيء يشبه بعض دبي أو بيروت، فمشينا بمساعدة العم غوغل إلى البحر، إن هي إلا نصف ساعة حتى كنا على الرصيف البحري (الكورنيش)، حيث الناقلات الصغيرة (تكاسي البحر) واليخوت والسفن الصغيرة.
على البعد تبدو جزيرة وراء بحيرة أونتاريو غابةً وارفة الظلال، وكذا يبدو مطار تتجه طائراته كل حين نحو الولايات المتحدة، أما في القرب فكانت في انتظارنا سفينة تاريخية اسمها كاجاما بعد أن قطعنا تذكرتين بنحو ثمانين دولارا كنديا، مع مراعاة أنني بعرف الكنديين شيخ Senior (فوق الخامسة والستين ومن ثم لي خصم ما)، وكذا حال صديقنا وزوجته.
وكاجاما هذه سفينة شراعية (طولها 50 م وعرضها في الوسط 7 أمتار، فيما عمقها 3.6 م مع غرفة تحت السطح)، وهي عجوز عمرها 95 عاما إذ ولدت في ألمانيا عام 1930، لأغراض النقل، حتى اشترتها السلطات البحرية الكندية عام 1999، وقد تحولت من شراعية إلى ديزل، ومن تجارية إلى سياحية، تمخر عباب بحيرة أونتاريو الكبيرة في ساعة ونصف، يقودها شبّان وشابات في عمر الورد، يشدّون الحبال كما كان يفعل الأسلاف، يغنون، ويعرضون المشروبات الباردة (بثمنها)، ثم يعودون بك إلى “الكورنيش” حيث تنتشر مطاعم كثيرة مزدانة بأحلى الزهور، مع غياب كل أثر للتدخين، فلا سجائر ولا أراجيل، فحمدت الله حمدا كثيرا، ورجوته غياب تلك الآفة النكراء من بلادنا.

وفي مطعم Goodman تغدينا وأصحابنا من ثمار البحر الطيبة، وكذا من ثمار الكلام، والطريف أن معظم العاملات صبايا جميلات، فاقترحت على معزّبتنا الشقراء ذات النظارة السوداء أن يغيّر اسم المطعم إلى Goodwoman، فضحكت مسرورة، على أن هذه ليست مشكلة في كندا، ولا أظن غيرها، أقصد بلادنا، فمهما كانت التسمية يعود الحكم النهائي إلى نسائنا العزيزات، ولو ادّعَين غير ذلك.
وعلى طاولة الغداء تجاذبنا أطراف الحديث، حتى إذا ما بدأت عيون المعزّبات ببعض الاحتقان، “ضبضبنا بضاعة الكلام“، وقمنا نتمشى على الشاطئ، لنجلس على مصاطب اسمنتية طويلة نسترجع ذكريات السنين، ربما إلى نصف قرن مضى أو يزيد، نترحم على الأيام الجميلة، وعيوننا ترقب مستقبلا أفضل، لأولادنا على الأقل، فيما نرقب طيور البحر، والحركة الدؤوبة للناس، حتى إذا ما تأخر الوقت عدنا إلى المحطة، لنستقل قطار العودة وقد غابت الشمس، وفي قلوبنا دفء يوم نادر وجميل.

أضواء على تورونتو
– تورونتو أكبر مدن كندا وعاصمة أونتاريو، مدينة عالمية بامتياز، ومقر لبورصة كندا وأكبر خمسة بنوك فيها، ومع ذلك فإن تكلفة المعيشة هي الأعلى في البلاد.
– بدأ تاريخها في نهاية القرن 18 على “حطام” الشعب الأصلي. اشترتها المَلَكية البريطانية، وأنشأت مستعمرة يورك York، ما لبثت أن نُهبت في حرب يورك 1812 التي انتهت بسيطرة القوات الأمريكية على المدينة، وتدميرها وحرق البرلمان خلال خمسة أيام. كان نهب المدينة العامل الأساسي الذي يقف وراء حريق واشنطن والبيت الأبيض على يد القوات البريطانية 1814.
– في عام 1834 حولت يورك إلى تورونتو. ويرجح أن الاسم من الكلمة الإيروكواسيّة تكارونتو التي
تعني المكان الذي تقف فيه الأشجار على المياه.
– استقبلت مجموعات مهاجرة في أواخر القرن 19 وبدايات القرن 20، من الألمان، والفرنسيين، والإيطاليين، واليهود من مختلف أنحاء أوروبا الشرقية. تبعهم الصينيون، والروس، والبولنديون، وعاش كثير من هؤلاء في أحياء فقيرة مكتظة.
– فاق عدد سكانها 2.6 مليون نسمة وفقاً لإحصائية عام 2011، وبذلك تكون خامسة مدن أمريكا الشمالية اكتظاظاَ بالسكان.
– وهي وجهة هامّة للمهاجرين، ومن أكثر مدن العالم تنوعاً من حيث نسبة المقيمين غير المولودين فيها (نحو 50%).
– تعد مركزاً دولياً للأعمال التجارية والمالية، ومركزا مهما للإعلام والنشر وتكنولوجيا المعلومات وصناعة الأفلام. وهي مقر كبرى قنوات البلاد الناطقة بالإنجليزية، مثل شبكة CBC، و CTV، و MTV كندا.
– فيها العديد من المؤسسات الأكاديمية مثل جامعة تورونتو التي تأسست عام 1827، وجامعة يورك التي تأسست عام 1959، والعديد من المكتبات، أهمها مكتبة تورونتو العامة التي تتألف من نحو مئة فرع، وفيها أكثر من 12 مليون كتاب.
التدخين والحشيش في كندا
على الرغم من أن تدخين التبغ (والأرجلة) وباء عالمي، إلا أنه قليل في كندا، والسبب الرئيس غلاء السجائر إذ يتراوح سعر العلبة من 20 – 25 دولارًا أو أكثر، حسب الولاية وعلامة السجائر.
لكن يبدو أن المسألة غير صحية، بدليل الانتشار الواسع لتدخين الحشيش (الماريجوانا)، الذي يزرع محليا، وتسمح الدولة باقتناء قليل منه للاستخدام الشخصي (30 غ مجفف)، وتقول إنها تحاول منعه، فيما سعرت الغرام ب 7.7 دولار، السعر الذي لم يتغير منذ 8 سنوات رغم التضخم. وفي كندا أكثر من 3600 متجر مرخص لبيع القنب، ناهيك عن السوق السوداء (1).

التجميل في كندا
التجميل شائع ومتنامٍ في كندا، حيث تُعدّ معدلات جراحة التجميل من الأعلى عالميًا. ومن العوامل التي تزايد شعبية التجميل معايير الجمال المتغيرة، ووسائل التواصل الاجتماعي. أما الإجراءات التجميلية الأكثر شيوعًا فهي تكبير الثدي وشفط الدهون Liposuction وشد البطن Tummy Tuck، وجراحة الجفون (Eyelid Surgery) لتحسين مظهر العيون. أما الأكثر انتشارا والأهم عالميا فهو:
البوتكس والمالئات الجلدية dermal fillers خاصة عند الصبايا من الطبقات الميسورة، كما قرأت، لكنني لم أر، إنما رأيت عددا لا بأس به من الشبان والصبايا يضعون أقراطا متعددة في الأنف والشفتين واللسان والأذنين.. كما رأيت انتشار الوشم الواسع جدا عند الجنسين.. أشياء غريبة بحق (2).
هل هذا كل شيء عن كندا؟ وهل هي المرام؟
لا بالتأكيد، ليس ما كتبت شافيا، فكندا “قارة” ضخمة لا قدرة لأحد على سبر مغاورها، ولا حتى مغاور مقاطعة واحدة فيها. هي انطباعات شخصية لابن “نطّوطة” عربي متواضع (بالنون لا الباء)، ذلك أن “ابن بطّوطة” الأصلي كان أقدر بكثير على الحركة في عالم أقل تقدما ومن دون مواصلات تقريبا (عدا الإبل والأحصنة..)، لكنه منفتح بعضه على بعض وأصغر بكثير، ناهيك عن تفرغ ابن بطوطة لهذه المهمة دون حدود معقدة ولا تأشيرات، فيما ابن نطّوطة المشغول بهموم كثيرة يقفز بالكاد ليصطدم بحاجز هنا وآخر هناك.
ثم إنها زيارة قصيرة في صيف جميل وخدمات مؤمنة، لا إقامة طويلة في شتاء شديد البرد والعواصف الثلجية التي تغطي السيارات وتسد الأبواب، وهذه لها ما لها من مسؤوليات وملابس وعزلة وإزالة ثلج وعتمة طويلة لا ترى فيها شمس.
أما إن كانت كندا المرام، فعن نفسي أقول: هي خيار المضطر الذي فقد الرجاء….. واستطاع.
وفي الختام أرجو أنني نجحت في إعطاء صورة تقارب الحقيقة فيما رأيت، فقد كتبت بأمانة وشفافية، أو أحسب أنني فعلت.
حفظكم الله ودمتم طيبين.
مسساجا 13 آب 2025

هوامش
1.يؤدي تعاطي الماريجوانا إلى مشاكل في المزاج والسلوك الاجتماعي، مع الأسرة والمدرسة والعمل. ويستمر تأثير الماريجوانا الضار على التعلم والذاكرة لأيام أو أسابيع.
مدة بقاء الحشيش في الدم نحو 12 ساعة، للشخص المدمن أو الذي يتعاطى أول مرة. وتشير الأبحاث إلى أن المستقبلات التي يرتبط بها الحشيش، تستعيد وضعها الطبيعي خلال 4 أسابيع.
2. تتراوح تكلفة البوتكس في كندا بين 100 و1250 دولار أمريكيً لكل جلسة حسب عدد الوحدات، والتي تتراوح بين وحدتين و50 وحدة، والمنطقة المعالجة، وعوامل أخرى مثل خبرة الطبيب وموقع العيادة. يُصنع البوتكس لسوق أمريكا الشمالية في منشأة أليرجان في إيرفين، كاليفورنيا، وللسوق الأوروبية في ويستبورت، أيرلندا.
والاستطبابات تجميلية (تنعيم الخطوط الدقيقة والتجاعيد حول العينين، وعلى الجبهة، وبين الحاجبين)، وطبية (علاج الصداع النصفي المزمن، وتخفيف التعرق الزائد في الإبطين واليدين، ولتحديد شكل عضلات الساق)، مما يمكن أن يغطيه التأمين، الذي لا يغطي ما هو غير مستطب.
اما المواد التي تُحقن في الجلد لملء الخطوط والتجاعيد والشفاه والخدود فتكلفة حقن الفيلر بين 400و800 دولار أميركي للحقنة.
