أمكنة أثرية متعددة في دمشق الفيحاء
هذه الحلقة هي السادسة والأخيرة عن رحلة د. غالب خلايلي إلى الشام، وقد كتبها بعد العودة الى مدينة العين في دولة الإمارات حيث يقيم. وغنيٌ عن القول أنه سُرّ كثيراً بهذه الرحلة المميزة، على رغم كل المخاوف التي بُثت إليه قبل الذهاب وأثناءه، من أناس يسمعون الأخبار الساخنة في لبنان والشام. ومع ذلك صمّم مع زوجته على زيارة الوطن، مؤمنَيْن بأن ما سيكون، عند الله قد كان.
======================================================
طب متقدّم.. والعطر لا يُخفى..
العادة أنني في إجازاتي أنسى تماماً مهنتي الطبية، لكن الأمر لا يخلو من عودة هنا أو هناك، مساعدةً لأناسٍ يبدون تائهين، مثلما نتوه نحن في عوالمَ خارج الطب.. ليست المسألة غيابَ ثقةٍ أو خوفاً من انقضاضٍ في لحظة غفلة، ولكنّها تحسّبُ من بات على البعد غريباً عن الأجواء.
في رحلة البحث الصعبة عن طبيب جيد طرحوا اسمه، ولم أكن أعرف عنه شيئاً. طول الغياب يجعل المرء بعيداً عن أدنى ما تتوجّب معرفته.
سألت عنه، وكم ارتحتُ لتوالي الشهادات، وكلّها تشهد ببراعته وتشيد بسمعته الحسنة. وكان على سفر، ومع ذلك ردّ على رسائلي قبل أن يعرفَني ويميّزَ رقمي، وهذا دليل خلق رضيّ ما عاد مألوفاً مع رُهاب الأرقام الغريبة بين الناس، فكم هاتفتُ آخرين ولم يردّوا حتى انتهت إجازتي.
المؤسف بعض الشيء أن مريضنا الأربعيني المتألم من بطنه مضطر للانتظار أسبوعاً آخر، وهذا لن يضيره أكثر مما ضاره انتظارُ سنتين وهو يشكو دون أن يفهمه أحد، حتى اكتشفه طبيبٌ فطِن، وأرسله إلى التنظير. ومرّة مؤسفةً أخرى إذ كان المرض خبيثاً كما أكدت قراءة ثانية نُصح بها عند طبيب معيّن، مع أن القراءة الأولى كانت موثوقة تماماً. مزيدٌ من الحرص واجب، أو يخشى الغريق البلل؟
كلّ ذلك تمّ قبل عيد الأضحى، فكان لا بدّ من انتظار أسبوع آخر تنتهي به عطلة الأطباء، ويكون طبيبنا قد التحق بعمليه العام والخاص. الطبيب الرشيد وغير الطبيب إن لم يكونوا خليّي البال لا يعطون.
ها نحن أولاء أخيراً في عيادة الطبيب الفاخرة في الطابق الأرضي من ذات بناية فخمة. ولمثل هذا الطابق المنخفض ميزة للمريض المعاق أو الموجوع الذي يصعب عليه صعود الأدراج. تأثيث العيادة فخم أيضا، وحيطانها مليئة بدعايات ملونة جميلة تشير إلى خبرة الطبيب وفريقه في استئصال شأفة كثيرٍ من الأدواء. آااه.. التكييف البارد رائع في الجو الاستثنائي الحار، وهو علامة الجودة والوفرة لأي مكان تدخله مع نضوب موارد الطاقة وضيق ذات اليد. هذا يعني أن الإقبال على طبيبنا ممتاز. مزيد من راحة البال.
جلستُ بين مرضى قادمين من أماكن بعيدة جدا، فيما جاء بعضهم من مستشفى قريب إذ سمع بمهارة الطبيب، وقد طال مكوثه دون جدوى. هل الإحساس بالجدوى مسألة نفسية؟ لماذا يشعر من يدفع للطبيب الخاص (خاصة عند ارتفاع قيمة المعاينة) بالاستفادة ولا يشعر بها عندما تقدّم له الخدمة نفسها بالمجان؟
كان علينا أن ننتظر، فرحت أستمع إلى قصص المرضى الإنسانية وكأنني في عيادتي. أنا شخص يحب الإنصات لحكايا الناس فهي مخزن تجارب ثرّة ومؤثرة.
الطبيب مشغول قليلا بلقاء تلفزيوني خدمةً لشرائح المجتمع في منازلها، فتنال ثقافتها وتدرك، مثلا، متى يجب عليها أن تمارس الحركة وتغلق فمها قبل بدء الإنسولين وغير أدوية، قبل قص مِعَدها. قص أجزاء مختلفة من الجسم أو إضافة أجزاء (منها لصق الرموش) صار موضة. منظر المعصوبة أنوفهنّ أو المزروع شعرهم صار جزءأ مألوفاً من رحلات الطيران بل ومن حركة الشارع، ولهذا فإن التثقيف واجب، بدلا من الاندفاع العشوائي وراء جشع بعضهم أو وراء مشاهير الموضة المخادعين. مساكين أولئك الذين لا يقاومون الجوع، وتبقى معدهم تائقة لأي طعام. مسكينات اللواتي ينغمسن في وسائل التواصل حتى إيذاء الذات تقليداً لدمى صناعية باردة.
الحقّ أنه عندما فرغ الطبيب وأدرك وجودي عبر ممرّضته أحسن وفادتي؛ سيما بعد أن عرف أنني كاتبٌ أيضاً، وقد تبين أن الزميل ليس طبيباً ماهراً فحسب، بل هو قارئ جيد، وباحث مرموق يعرفه الداني والقاصي من الأطباء المواظبين على التعلم، فلا يرون حاجةً للتشتت والتغرّب (ألمانيا بخاصة) مع صنف راقٍ من الأساتذة المخلصين لأوطانهم، الشاعرين بأحوال مرضاهم.
وفي اللقاء معه كان الطبيب شفافاً جدا. أول كلمة قالها: الحالة صعبة وغير مبشّرة. لام الأهل بلطف على التأخير، كيلا يصابوا بعقدة الذنب، ثم أخبرهم بشفافية مطلقة عن التكاليف. قال: هي أقل بكثير من الدول المجاورة، بل دون التسعيرة الرسمية. وأكد لنا أنه سيعمل جهده في ضغط نفقات الاستشفاء، إذ إن له كلمة عند أصحاب المستشفى. بصراحة: شفافية رائعة، وبها يمشي الإنسان على نور.
المصادفة اللطيفة أن اسمَ ممرّضته نور أيضاً، وقد رفضت أخذ قيمة المعاينة تنفيذاً لتوصيات الطبيب، وقالت: ولَو.. زميل. نور على نور.
ارتفاع عتبة المقبول من العادات..
في الطب هناك أمراض تشخّص بناء على تجاوز قيمتها رقماً معيناً كما في ارتفاع سكّر الدم والكولسترول والضغط. والملاحظ منذ نحو عقدين أن “العلماء” راحوا يرفعون سقفَ توقعاتهم ويخفّضون عتبة الأرقام، ليشخّص الداء السكري بأرقام دون المعهودة وكذا غيره، وهكذا تضاف مئات الملايين من المرضى الجدد سكّريين ومشحومين ومضغوطين… وهؤلاء وحدهم (ناهيك عن المقلوبين والممعودين والمكبودين..) يضمنون سير العجلة الطبية والدوائية والتأمينية لعقود طويلة في العالم. حقّاً إن التدخل المبكر جميل، ودرهم الوقاية خير من قناطير علاج.
إن ارتفاع العتبة ملحوظ في غير مجال. كان الناس في الماضي مثلاً ذوي هوامش ضيقة في قبول المألوف من العادات والتصرّفات عند الأطباء وحتى الناس العاديين. اليوم تحسّنت الثقة والحمد لله، بارتفاع عتبة قبول تلك التصرفات، فلا يستغرب الناس شيئاً من السلوك ما داموا كلهم متوافقين على كونها طبيعية، ولا يرونها قاصرة كما قد يراها مراقب خارجي آتٍ من عالم المرّيخ. الدنيا تتغير وتتطور. هذه سنّة الكون.
وقفة مع الأدب بعد طول الغياب
لي باع لا بأس به في حقول الأدب، ولي نشاطي الكتابي أدباً ساخراً وأقاصيص ورحلات، ومع هذا أميل إلى الغياب عن التظاهرات الأدبية من محاضرات وندوات ولقاءات. لقد اعتدتُ الهدوء في غربتي، وحرمتني مهنتي (الصاخبة بصمت) من أضواء العواصم، ناهيك عن طبع يلازمني منذ المولد، وقناعة بدأت أفكر باعتناقها: ما الجدوى، ونحن نعيش واقعا مأساوياً لم يغيره شوقي وحافظ ونزار ومحفوظ ومدفعي ومينة (وعدّ من تشاء من امرئ القيس إلى آخر مضطرب في الفيسبوك)؟ غير أن للصداقة أحكامها، مع الأديب متعدد المواهب الدكتور يوسف حطيني، ومع الطبيب الأديب نزار بني المرجة، وكلاهما غزير الإنتاج (لاسيما الأول) واحتفالي، فكان لا بد من مراعاة لهما، وأعترف أنني تعرّفت إلى أدباء لم أكن أعرفهم، وإلى أناس محبين للأدب، منهم صبايا صغيرات وشبّان لم أكن أظن أنني سوف ألاقي مثلهم في أي مكان، مع تدهور اللغة العربية والثقافة عموماً. إذن هناك ضوء خافت في آخر النفق، لعل شمس الصباح تنبلج ذات يوم.
جرت مناقشة رواية (يوم عادي في حياة عرفان) للأستاذ حطيني، أشبعتها الأديبة الدكتورة آداب عبد الهادي تحليلا نفسيا (وهو اختصاصها) بذاكرة تغبط عليها، كما قرظها الروائي الدكتور حسن حميد، وقد أدار الندوة الأديب الصديق الدكتور أيمن الحسن بحضور جمع من الأدباء والأديبات في فرع دمشق من اتحاد الكتاب العرب، برئاسة أستاذي الدكتور إبراهيم زعرور الباحث في العلوم الاجتماعية والسياسية.
أما الكتاب الثاني للأديب حطيني فكان بعنوان (المغالطات المنطقية وأثرها في الشعر العربي)، وقد استفاض الشاعر الدكتور نزار بني المرجة بدراسته الجميلة عنها، رغم صعوبتها البالغة، بحضور رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور محمد الحوراني وعدد كبير من الأدباء في المبنى الرئيس للاتحاد.
وفي زيارة لي إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة دمشق، تعرفت فيها إلى عدد من أساتذة القسم، برئاسة الدكتورة منى طعمة، فكان أن حضرت في اليوم التالي مناقشة رسالة ماجستير للطالبة (ضحى شبلي كشور) تدرس شعرية أديبين راحلين عرفا بنثرهما الجميل، ألا وهما: الدكتور في الطب عبد السلام العجيلي، والدكتور في الحقوق من السوربون الأديب بديع حقي، وكلاهما صديق لوالدي الأديب الشاعر خليل خلايلي، رحمهم الله أجمعين. كانت الجلسة الصاخبة في نهايتها برئاسة الأستاذ الباحث الدكتور عبد النبي اصطيف، بحضور عدد من الأساتذة الكبار، وأهالي السويداء يؤازرون ابنتهم ضحى فيما يشبه العرس الوطني.
ملاحظات عابرة وإن لم تكن كذلك.
- اندفاع السيارات والتزمير: دمشق مدينة مزدحمة بالناس والسيارات منذ عقود، وأكثر ما يميز السائقين اندفاع بعضهم برعونة حتى لكأنه ما من مشاة، هؤلاء الذين يجب أن يظلوا يقظين تماما وألا يثقوا بأي سائق يبدو كأنه يمشي في الفلاة.. فالماشي، إن لم يكن ضعيف البصر أو أعمى البصيرة (كالسائق)، يدرك أن الأخير ليس في نيته الوقوف أبدا، ومن ثم لا تجب المخاطرة إطلاقا. ولا تعدم زمورا أو زمامير مزمجرة حتى بغير سبب. بودّي لو أصرخ في أذن كل منهم: كف عن التزمير إذ لا فائدة ترجى منه، ناهيك عن أنه يزعج المارة من مرهفي الإحساس ويرفع ضغطهم. إنك واجد ازدحاماتٍ أشد في مدنٍ أخرى ولا تسمع زموراً واحداً.
- وزن المال وتحميله بالشاحنات: حتى لو سمعت من قبل فإنك تفاجأ عندما ترى بأم عينيك انتشار أكياس المطاط في البنوك وعدادات العملة في كل مكان، وكذا حجم المال الذي عليك حمله من أجل شراء أشياء بسيطة، وما تعود به من المطاط. شراء عقار أو سيارة تحتاج به الى شاحنة أموال، خاصة إذا كان من الفئات الصغيرة. واللطيف أنني مررت بمستشفى خاص لم يتعب نفسه بعد الملايين بل كان يزنها بميزان خاص، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
- البطيخ المهرمن: سمعت من ابن خالي أنه تسمم بالبطيخ المحقون بالهرمونات. بعض الناس أكد المعلومة، وآخرون نفوها. عانى عشرة أيام في العناية المشددة، نتيجة انسمام غذائي، وشفاه الله.
- رمي المخلفات في الشارع: من عجب أنك تمر بالشوارع صباحا فتجدها في قمة النظافة، فإذا هي في المساء مرعبة، وهكذا دواليك. وعندما تحدث الناس بذلك يحاضرون لك بالنظافة! من الذي يفعل إذن؟
- الحب بصوره المختلفة: في دمشق الياسمين تلمس الحب من معظم الناس. كنت أسأل عن قطرميزات بلاسيتيكية من أجل مربيات نحملها في الطائرة فلا ترمى كما حدث العام الماضي في مطار بيروت. فاجأتني سيدة تعمل في بنك بقولها: سوف أشتري مربيات وأفرغها في أوعية وأعطيك الفوارغ، فشكرتها من الأعماق ونصحتها بألا تفعل، لضرر السكر.
- اضطراب حاسة الوطن: مع الأزمات الاقتصادية والمعاناة تلمس اضطراب هذه الحاسة عند بعض الناس، الذين يسعون للهجرة، ومنهم الأطباء حديثو التخرج، يشجعهم بعض مشرفيهم على ذلك.
- حلب قصدنا وزيارة لم تتم: كنت على وشك المغادرة إلى حلب قبل عيد الأضحى، لولا دعوة صباحية مفاجئة من زميل عزيز، لا يمكن تفويتها، لصعوبة اجتماع من فيها من القارات المختلفة. شعرت بإعياء في المساء، وحدث طارئ أزعجني، فكان أن عدلت عن السفر، ولتسامحني عمتي العزيزة التي حضّرت كببها اللذيذة، وخالي الطيب بلا حدود.
في الوداع أوبرا فلمون وهبي تلاها صباح ريفي جميل.
ها قد اقترب موعد السفر بعد أسابيع من إقامة جميلة بين الأهل والأصدقاء. في آخر خميس لنا (19 تموز 2024) قبل السفر شهدنا أمسية مميزة في دار الأوبرا عن تراث العبقري الراحل فيلمون وهبي. اللافت أن بطاقات الحفل بيعت كما لم تبع من قبل، حتى إن الإدارة قررت عمل حفل إضافي نفدت بطاقاته كلها أيضاً، وفي ذلك دلالة على عشق السوريين لفيلمون والرحابنة. غصت الصالة بالناس، وحضر الحفل نفر من زملاء الطب البارزين في أبهى حلل (منهم معلّمنا عارف صندوق)، وكان التفاعل مع المغنين السوريين والمغنيات، في عمر الورد وروعةِ شذاه، فوق المعتاد، كل يترنّم بأغاني فيلمون. جميل هذا التفاعل وسط كل المرارات والمصاعب التي مرّ بها الناس في عقد ونيف من أصعب العقود. شعب يحبّ الحياة والجمال، ويرجوها لكل المعذبين في الأرض.
تلا الحفل سهرة مع الزملاء القدماء، الجدد عليّ، تناولنا فيه أطراف الحديث عن مجتمع الطب، أضيفت فيها لي أفكارٌ واقعيّة لم تكن ببالي، في جو أخوي رائع، وطقس ليلي ساحر.
وفي صباح اليوم التالي رافقنا الزملاء إلى بلودان. كان صباح الريف الدمشقي جميلا بحق: مشروع دمر، الصبورة، يعفور، مضايا، الزبداني، بلودان. الشمس تموزية لكنها ناعمة والهواء عليل، لا سيما مع قهوة تعوّدتُ صنعها في المناسبات السارة (رغم لا شرعية إحضار ما يمكن أن يؤكل أو يشرب إلى المطاعم). فاحت رائحة القهوة مع الهيل في سيارة صديقنا العزيز الدكتور سليم، فكانت مع التمر خير ما يمكن أن يبدأ به الإنسان يومه، وخير ما أعجب جمهور الزملاء، لتتوج بإفطار سوري أصيل يسيل له اللعاب في (أبو زاد). من يقاوم (التساقي بالزيت أو بالسمن، وصحن الفول باللبن الشهي، والزيتون والمربيات والزبد ومناقيش الجبن والزعتر والشاي والبيض المقلي والخضار الطازجة من بندورة وخيار وبصل ونعناع تسبح ربها في الصباح)؟ ثم من تقاوم بعد الإفطار البرسيس من النسوة (ومنهن طبيبات) ولو سقطت ودعة في واد عميق، لتسمع أصوات الشهيق، فإذا بكل الحاضرين ينظرون ما الأمر؟ ومن لا يطرب لنكات ساخنة يلقيها هذا الطبيب أو ذاك فيما يختلس أحدهم صوراً تذكارية بعضها مضحك؟ وبعد ذلك كان لنا مرور نحو ينبوع بارد يعبّ منه المرء ولا يرتوي مهما شرب، ليحمل معه منه ما يستطيع في قنينة أو (بيدون) ويرجو لو أن هذا الماء الزلال يجاوره في كل حين.
الآن حانت استراحة في بيتٍ ريفي لزميل كريم، فمن شاء الشاي أحضر له، ومن شاء القهوة جهزت له بسرعة، فيما الخوخ والدراق المسطّح (غريبة) الشهيان المقطوفان للتو ينتظران الآكلين. يا له من صباح جميل بحق، سبق السفر بيومين، ثم انتهى بملوخية خضراء مع الدجاج طبخها أخي إبراهيم ذو الخبرة التاريخية والمطبخية، حتى إذا ما امتلأت المعدة فوق طاقتها (وأدعي أن في الملوخية ما لا يجعلك تشبع)، غفوت قليلا في مقعدي. وإذ لم نحظ بسيارة أجرة، عدت وزوجتي نجرّ أرجلنا إلى البيت، مخترقين البرامكة وجسر الرئيس وشارع أبي رمانة الساهر حتى آخر الليل في مقاهيه المشعة، أأتت الكهرباء أم انقطعت، تملؤها الصبايا المؤرجلات والشبان المدخّنون، يضحكن ويضحكون، أدام الله عليهم العافية.
في الطريق إلى بيروت فطائرة الإمارات.. ما قصة النعناع؟
صباح الأحد 21 تموز ذو اللسعة الباردة كان آخر المطاف في بيتنا الدمشقي العزيز. الوداع صعب، حتى للغرف الخالية التي امتلأت ذات يومٍ بأولادنا في صيفيات كثيرة حتى أيام الهاون والرعب، وستبقى خالية حتى إشعار آخر. أودّع شجيرة (الميرمية) الصغيرة العزيزة علي، والتي تكرمني بأوراقها طيلة العام، ويا لها من شجيرة معطاءة، هبة من رب كريم. لكن بيتاً آخر ينتظرنا على مسافة نصف يوم أو يزيد في لهب الخليج. بيت مستأجر قضينا جل عمرنا الفاعل به، وفيه كبر أولادنا ودرسوا وسافروا، ليأتوا بين الفينة والفينة بعائلاتهم الصغيرة يعيدون الزهو إليه، لا سيما في أيام الطقس الشتوية الجميلة.
نحو بيروت، اخترقنا الريف بسيارةٍ مستأجرة شبابيكها مفتوحة لا تعترف بالمكيفات كعادة أغلب السيارات في الشام. لا أدري أيهما أكثر استهلاكاً للبنزين، استخدام المكيف أم مقاومة الهواء في الشبابيك المفتوحة. ومن كرم الرحمن أن الهواء حمل نسماتٍ باردة في عز الظهيرة، وأن الحدود السورية واللبنانية شبه فارغة من الناس، وإلا كنا سبحنا بعرقنا. استراحة راما في شتورة تهوّن الصعب بمكيفاتها الباردة وحسن استقبالها ومنقوشتها الفريدة (الزعتر والجبن) سائغة للآكلين مع الخضار والزيتون والشاي.
ها نحن أولاء في المطار الحريري، والوقت الذي خفنا أن يدركَنا كافٍ تماماً لزحمة صيفية في المطار، وللتفتيش الدقيق. كنا قد رمينا ما معنا من ماء حسب القوانين، فاستبدّ بنا العطش والتعب من طول الوقوف بالدور. ثلاثة دولارات لعبوة ماء من سعة نصف لتر مبلغ يصبح بسيطا أمام حلق جاف. لا ماء آخر يصلح للشرب.
وفي طائرة الإمارات التي أعشق دقتها ونظافتها وحسن تعامل مضيفاتها الجميلات، جلسنا في الصف الخامس والثلاثين، محصورين بين رجل صموتٍ تماماً، وصبية كنوّارة الزهر راحت تطوي جسدها على ألم بطني ألمّ بها وصداع، طيلة الرحلة تقريباً. حاولت مساعدتها بشتى السبل، وأخبرتني أنها تناولت الآيبوبروفن. فكرت: لعل كأس نعناع حار يساعدها. أخبرتني المضيفة الشقراء أن النعناع يتواجد فقط في الدرجة الأولى وأنها ستحاول إحضار كأس، لكنها لم تتمكن حتى نهاية الرحلة، مع كثرة واجباتها وشبه (توبيخ أو توجيه كما خمّنت) من مشرفة مغولية العينين، لكن الجيد بالأمر أن جارتي صحت آخر الرحلة معافاة، وكم كان مفاجئا لي ولزوجتي أنها حفيدة عائلة عرفناها حق المعرفة قبل خمسة عقود.
أحد الأمور التي أسعدتني في الطائرة وجبة العشاء التي كانت مؤلفة من البامية (التي لم نذقها في الشام) واللحم والأرز، وإن طغت قطع اللحم، فكأن أن أكلت معظم وجبتي، بكل مرافقاتها اللذيذة، إذ إنني أخفف طعامي قبل السفر اتقاء لزيارة حمام الطائرة، وإن كان نظيفاً بالفعل.
العزيز سامي أصغر أولادنا ينتظرنا في مطار دبي البهي الواسع بعد تأخر وصول الحقائب لسبب لا ندريه، والذي اعتذر أهل المطار بشأنه. كنا قد تجاوزنا بيسر شديد مكتب الجوازات مع موظفتين باسمتين راقيتين، ولاحظنا قبيل ذلك رجلاً حاول تخطي الدور من تحت الحبال (مع أنه لم يكن بحاجة فعلية لذلك، فالحركة سلسة)، فكان أن أعاده موظف التنظيم بكل أدب، فإذا بـ (صاحبنا) يسيء الكلام له، فسلمه بكل صرامة لمسؤولي المطار. وتسأل يا صاحبي: لماذا يتقدمون؟
لم يبق بعد الخروج إلى ساونا الشارع المألوفة سوى أن نسلك طريق العين مع سامي، لينخرط في حديث طويل مع والدته، وأتلهى أنا وجماعة (1984)، راجياً أن يطول شهر العسل بين رفقاء الصف الواحد بعد فراق أربعين عاما.
بعد ساعة ونصف كنا في البيت، تستقبلنا فلة تشكو العطش واليباس، لعلنا ننقذها بعد مجيئنا.
أربع عشرة ساعة صعبة مرت، فما بقي سوى أن نرمي حملنا ونغط في نوم عميق، استعدادا لأيام نرجو فيها حلال الرزق وطيب المقام. دمتم بخير.
د. غالب خلايلي
العين، الأربعاء 24 تموز 2024