الياسمين الأصيل يفوح شذاه
د. غالب خلايلي
هل قليلٌ – في عصر يغيب به الصدق والوفاء – أن يكون لك صديق صدوق لا يخيب عند الشدّة أملك؟
***
كثيراً ما يلجأ إلينا شخصٌ محتاجٌ استنفد فرص اللجوء إلى من ظنّ بهم خيراً فخذلوه كلّهم، فاستجمع قواه يطلب من جديد.. لعلّ قشّة عابرةً في البحر تنقذ ذاك الغريق.
الناس للناس..
كلنا قد نحتاج بعضنا بعضاً في يوم من الأيام.. فما أجمل أن نجد من ينجدنا ويلبينا، على حد قول الشاعر:
الناس للناس ما دام الوفاء بهم والعُسر واليُسر أوقاتٌ وساعات
علماً أن الدنيا يا سادتي دين ووفاء، والأخطر الذي لا يتخيله كثيرون أنها دولاب.. فمن كان في الحضيض اليوم لا يُستغرب أن يصعد في الغد نحو الأعالي؛ ومن كان في قمة الهرم لا يُستبعد أن يهبط إلى الحضيض مرضاً وفقراً وعزلةً حتى لا يجد من يسلّم عليه أو يرثيه بعد مماته، خاصة إذا كان وقت قوّته متجبّراً متعالياً لا يستمع لأحد غير متنفّذ ولا مقتدر؛ ولا يردّ على سلام امرئ لا يستفيد منه، وكم هو شعور مرّ لمتعالٍ أصبح في أرذل العمر، ولم يمهّد لسقوطه فراشاً ليّناً.
قادرون.. لكن متخاذلون..
كم هو مزرٍ أيضاً أن تطلب مساعدة شخص ما في مجال اختصاصه وقدرته، فإذا بك تحصد السراب.
أنت ترسل مريض كُليةٍ محتاجاً مثلاً (أو مريض قلب أو معدة….) إلى الطبيب الذي يفترض أنه ملِكُ المكان، وتتصل به شارحاً له الحالة راجياً المساعدة، فإذا بالمريض يصل إلى ملعب الزميل، ولا أحد يتعرّف إليه في الملعب، حتى ليبدو الزميل المطلوب نكرة، فإذا بالطلب لا يلبى، وبالمريض يعاني، وبمرسله يسودّ وجهه.
هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى قد يلبى الطلب إنما بشكل سيئ: بتشخيص شنيعٍ بقصد الاستغلال، أو بطلب أجر مبالغ فيه قد يدفع المريض للرفض والهُيام بوجهه في الأرض.
فتخيل أن تكون أنت نفسك هذا المحتاج، وتتصل بزميل، لكنّه لا يردّ، حتى بعد مرور وقت طويل.
وما يصح في مجال الطب يصح في المجالات الأخرى، كأن تطلب مساعدة لطالب فقير في جامعة، أو لعائلة فقيرة من هيئة ما، أو تسهيل معاملة.. علماً أن الأمر قد لا يحتاج أحيانا إلا إلى كلمة حسنة أو نصيحة في مكانها.. لكنك لا تجد من يقول هذه أو ينصح بتلك، إن لم تخسر من طلبت منه إلى الأبد.
النبلاء أبدا لا يقصرون..
وفي المقلب الآخر يشجيني ويطربني أولئك النبلاء الذين يكونون على قدر الثقة والتوقّع.. بل أكثر بكثير مما نتوقع.
تقول للمحتاج: اتصل بفلان وأخبره أنك من طرفي.
عند المتخاذل يكون التلقي بارداً والاستجابة أبرد، حتى إنه يزيد الطين بلّة بزرع اليأس وقطع كل أمل، وهو لا يحاول أن يعاون حتى في قسم متعدد الاختصاصات يرأسه، بدعوى أن هذا ليس اختصاصه. ولا ننس حتى أولئك الذين يكون الأمر من صلب اختصاصهم، لكنهم لا يريدون أن يتحملوا تبعات مريض صعب الحال، إنما يريدون في طبهم البارد حالاتٍ مريحةً (مقشّرة كما يقال) وشبه مضمونة (إذ لا ضمانات مطلقة في الطب وغيره)، وهنا أعجب لمستشفيات كثيرة كبيرة تتصرف مثل عيادات نائية.
أما عند النبيل فذكر اسمك كافٍ عنده ليتهلل وجهه، فيؤهّل ويسهّل، لا يحتاج حتى إلى اتصال بك ليتأكد، إذ يأخذ الأمر على عاتقه كأنه صاحبه. وأكثر من ذلك قد يخدم المحتاج بعينيه وقلبه وبكل ما أوتي من علم وخبرة دون أن يكلّفه حتى اتصالا هاتفياً (قد يكون دولياً)، ويتابع الأمر كأن المحتاج فرد عزيز من أفراد عائلته.
تدقّق في الأمر قليلا، فتكتشف أنك تتعامل مع شخص أصيل نبيل، لا يخذلك مهما كلفه الأمر من وقت وربما مال، ولا يسوّد وجهك، بل تفخر به وتكبر. وحتى إن لم يكن لديه حل، فهو لا يقصر بكلمة طيبة تبلسم جراح المحتاج، على ما قال المتنبي، ونجيّر قوله إلى أصحاب الاستقبال البارد:
لا خيلَ عندك تهديها ولا مالُ فليُسعِدِ النطقُ إن لم تُسعدِ الحالُ
الياسمين يفوح .. وإن شوّك الورد!
بديهي أنك عندما تقترب من الياسمين الطبيعي في أرضه الخصبة فسوف تشم رائحته الطيبة.. ولن تشم غير رائحته حتى وهو (يجفّ).
أما الأزاهير الصناعية فما لها من عطر، ولن تشمّ منها شيئاً سوى رائحة البلاستيك والغبار.
يبقى مؤسفاً جداً في الحياة أن بعضاً من أولئك الذين تمدّ لهم يد العون والمساعدة بكل محبّة وإخلاص، يتنكّرون لك في قابل الأيام، إن لم يرموك بسهامهم.
للورد الزائف عبير عابر، تسقط بتلاته فلا يبقى منه سوى الشوك، لكن يبقى الياسمين أصيلاً معرّشاً ينشر شذاه بغير حساب.
العين في 14 أيار 2024