مع المرحوم أ.د. هاني مرتضى في البريمي(عُمان) في أحد المؤتمرات ١٩٩٢ وتبدو ابنتي الاولى ريم
د. غالب خلايلي
تمرّ بالطبيب مواقفُ صعبةٌ يقف أمامها متسائلاً: ما الذي ينبغي عليّ فعله الآن؟ وهل أقوم بالتصرّف ذاته فيما لو كان المريض أحد أفراد عائلتي؟
والحقُّ هو أن الطبيب المِقدام (المتسلّح بالعلم والخبرة) لا يتردّد في اتخاذ قرارٍ بعملٍ بطولي، ولو جلب العداوات أو خيّب الآمال، ولا بدّ أن بعضكم يتساءل: هل هذا ممكن أو معقول؟
شخصياً، مررتُ (وسمعتُ) بقصصٍ كثيرة تستحقّ الكتابة، وإن كان ذلك صعباً، خاصة عندما لا يمكن البوح، ومع ذلك سوف أسردُ أوّل تجربةٍ (خديجةٍ) لي، أجهَضَتْ آمالي المبكّرة ولكن إلى… حين ولادة.
بُعيد التخرّج (خريف 1984) ودخولي مشفى الأطفال الجامعي بدمشق للاختصاص، يوم كان في قمّة زهوه بقيادة مؤسّسه المرحوم أ.د. سهيل بدّورة 1، ابتدأتُ في قسم الإسعاف، ذلك القسم الذي أدمنتُه وباقي الأقسام وأنا طالب طبّ ثلاث سنوات، شغفاً بل قلْ هُياماً بحبيبٍ سوف يرافقني العمر كله.
والإسعاف قسمٌ مزدحمٌ معظم الأوقات، (اللهمّ إلا وقت المسلسل العربي الذي شاع في تلك الأيام، حيث الهدوء الذي يسبق العاصفة)، ويصل عدد مراجعيه إلى مئات كل يوم (دون فرض أية رسوم)، خاصة في الشتاء حيث تنتشر الحُمَات (كالإنفلونزا) والجراثيم. وإن أنسَ لا أنسَ جائحتَيْ حصبةٍ (باختلاطاتها المرعبة كافّة) وحمّى شوكية قاتلة (التهاب سحايا بالسحائيّات) تفشّيتا بين (1985-1987) وقد أسهم الحصارُ المفروض وقتَها على البلد في نضوب عددٍ من الأدوية المهمّة واللقاحات.
كان الوقتُ ظهرَ يوم غائم من تشرين الثاني 1984، عندما وصل يافعٌ مسغولٌ متغيّم الوعي متقفّعُ الجسم (مقوّسٌ منبسطُ العنق) محمولاً على ظهر والده الآتي من الجزيرة السورية بحالةٍ مزرية. كان الشك قوياً بالتهاب السحايا والدماغ الدَّرَني (السُّلّي). بديهي أن الخبر وصل بسرعةٍ إلى غرفة اِلأساتذة فوق قسم الإسعاف، والذين لم يغادروا المستشفى بعد، فأمر المرحوم أ.د. هاني مرتضى2 رئيس شعبة الأمراض الإنتانية وقتها بإجراء تصوير طبقي محوري فوري للطفل في (مستشفى المواساة) الذي يبعد عنّا (لحْشة حجر، كما يقال)، فما بيننا وبينه سوى عرضِ الشارع، وكانت تربطني بالأستاذ مرتضى علاقة ودّ واحترام منذ كنت طالباً، مثلما ربطتني بعدد من أساتذة الرعيل القديم الذين ترك رحيلهم فراغاً قاسياً، ومنهم المرحوم أ.د. زياد الصواف، رئيس وحدة الأشعّة في المستشفى 3.
بحماسةٍ زائدةٍ، حملتُ الطفلَ وطلبَ التصوير، دون انتظار سيارةٍ تحملنا، واتجهتُ (برفقة الأب والممرّضة) إلى قسم الأشعة في المستشفى المجاور، وكان موقعه (لحُسن حظّ عمودي الفِقْري) في الطابق الأرضي، أمتاراً الى يمين المدخل. ناولتُ الطلب لفنّي الأشعة الذي كان يعرفني حقّ المعرفة من علاقتي بالمرحوم الصوّاف (وهو أحد أفراد طاقمه الطبي)، وكم فوجئتُ بأن (صديقي) فاقدٌ أعصابَه وسط زحمةٍ عجيبة، وأن عليّ أن أنتظرَ طويلاً ريثما تتاحُ فرصةُ التصوير بجهازٍ حديثِ العهد في القُطر، فراح يُشغّل فوق طاقته بكثير، حتى كاد يحترق.
قلّةُ خبرتي بأن هذه الحالة يمكن أن تنتظرَ فوق ما انتظرتْ، وأن الأملَ بشفائها ضعيف إن لم يكن معدوماً، مضافةً إليها حماستي وسخونةَ دم الشباب، لتحقيق طلب الأستاذ، جعلتني أتصادم مع فني الأشعة بعد سماع محاضرة حول مظلومية جهاز التصوير (الذي تتعذر إراحته وصيانته)، فكان أن وصل خبرُ (طبيب أطفال صغير مشكلجي) إلى مدير المواساة، ولهذا رأيتُ أن أعود أدراجي سريعاً كي أحتمي بـ (مستشفاي)، وإذا بي أفاجأ فور الوصول باسمي يذاع لمقابلة مدير مستشفى الأطفال الإداري الصارم الأستاذ (محمد سعيد شمبورش)، إذ سارع المدير الأول إليه بقصّتي التي يجب ألا تؤجّل، ولو خلافَ التقاليد!.
الحقيقة أنني قوبلتُ بروحٍ متفهّم، وأنه ما “هكذا تورد الإبل”، فلم توقع عليّ عقوبة (مشاغب أو مشكلجي Trouble maker) كان يمكن أن تكونَ الأولى في سجلّي، وإن حرصتُ لاحقاً على حقوق ملكيّتي لهذا اللقب العزيز، في قصصٍ لم تتأخر كثيراً (وصرتُ من أجلها كاتباً) في أوساط يقدّس بعضها الرتابة المملّة وإضاعة الوقت والتعابير النمطية الجامدة، وسياستيّ الجانب الأمين Safe Side و(توزيع الدم بين القبائل) اللتين عرفتهما في غير مستشفى. أما تصوير مريضي فقد تمّ متأخراً، وأما النتيجة النهائية فتتوقعونها وحدكم مع الأسف (رغم الجهود المتفانية، فالحالة متأخرة جداً)، لا حاجة بي إلى تعزيتكم بعد كل هذا الوقت، لكنّها أبقت عندي ندبة، هي واحدة من ندوبٍ تتلو حالة الإقدام (التي يسمّيها السلحفائيون تهوّراً)، مفضّلين عليها الطرق الجليدية.
ولكن هل يتعلّم المرء من تجاربه فيكفّ عن إقدامه؟
نعم، يتعلم بالتأكيد، إن كان ذا عقل راجح، ولا ينسى أمثال تلك التجارب، لكن، رغم الألم الممكنِ حدوثُه وتذكّرِ جروح الماضي، يسلك صاحب الضمير الحيّ طرقاً خطرةً أو فيها مغامرةٌ أو حتى رجاء لمن يُرجى ولا يرجى، رجاءً قد يكون مُذلّاً، خاصة إن غابت الاستجابة (والناس معادن تتكشّف بالأزمات)، من أجل خدمة مريض محتاج، لم يُرِدْ له أن (يتمرمط) في طرقٍ تضيع الوقت والمال.
والمحبِط جداً بعد كل هذا التعب أن بعض المرضى يظنّ الظنون بالطبيب، أو يتخيّل أن الخدمة التي قُدّمت له عادية، فيستهين بها، هذا إن… لم يقدم شكوىً بحق الطبيب! نعم، لا تستغربوا، ففي الحياة قضايا كثيرة محيرّة، ولا إجابات عن أسئلتها الغامضة.
ذلك النوع من الإحباط حدث معي كثيراً، وكذا مع زملاء أعرفهم في غير اختصاص، ففي ذات مباسطة مع حكيم مقدام في اختصاصه الساخن، أخبرني أن مريضةً عنده راحت تنزف بشدّة حتى الصدمة (هبوط الضغط وغياب الوعي)، وراح يسعفها ناقلاً لها عدة أكياس من الدم، فكانت النتيجة أن المستشفى الخاص ساءله رسمياً عن (إسرافه!) ولماذا لم يحوّلْ تلك الحالة إلى مستشفىً حكومي!.
زميل آخرُ عالج رضيعةً محمومةً لا تأمين لديها، ومع الرفض (الحكيم) للأهل بإعطاء المضاد الحيوي، تطور الأمر إلى ورمٍ في ذات ناحيةٍ، حتى بلغ حجماً لا بدّ أن تدبيره سيكون مكلفاً، يتجاوز راتب الأب أشهراً. هنا لم يقف الزميل مكتوف اليدين، بل قدّم عوناً فورياً (بمساعدة أصدقاء “متهوّرين” مثله، يحملون الأمور على عاتقهم) ما كان له أن يتم في سبيلٍ إداري متلكّئ ولا إنساني، يضيع فرصة العلاج أو لا يقدمها دون مقابل أو حتى بمقابل معقول. كأنه يقول لك: إذن بلّط البحر! أما النتيجة النهائية فهي انقطاع أخبار تلك المريضة نهائياً بعد شفائها! لتنتقل مهمة (تبليط البحر) إلينا!.
يظنّ بعضهم المغرور أو المتفضّل أو المأزوم أو قليل النضج أن الطبيبَ رجلُ ثلج أو رجل آلي بلا دم ولا عواطف 4، ومن ثم يعامله بمنتهى البرود واللامبالاة، مثل أن يخبره أنه في الطريق، ولا يأتي حتى بعد أيام. تطلب من أحدهم مراجعةً لمصلحته فلا يأتي ولا يعتذر. أتذكّر قصةً مضحكةً بقيتُ أتابع فيها مريضاً جديداً تائهاً طيلة الطريق بالهاتف حتى وصل، فإذا به يدخل المستشفى المجاور وقد اكتشف للتو (البلاش التأميني غلب الكاش)، دعْ عنك الآن مجاملاتٍ زائفةً لم يجفّ ريقُها بعد مثل (أنّك أحسن طبيب). بعض المرضى يطلبون تقريراً طبياً (أو نسخةً عن لقاحات أطفالهم الضائعة) وهذا يأخذ الكثير من الوقت، ثم لا يأتون لأخذها، وإذا حضروا يتناسى بعضهم أتعابها!.
لكن هل كل المرضى كذلك؟ لا، وإلا كان الأمر كارثياً، فهناك الأصيل والودود والمعطاء والمسكين والغلبان، وكل هؤلاء لا نستطيع إلا أن نوفيَهم حقّهم في مهنةٍ تبقى إنسانية وإن شابتها شوائب…
بقي أن أقول: إن للإقدام حساباته التي يجب أن تكون دقيقة بما يضمن القدر الأكبر من النجاح، غير ناسين أعين المتربّصين والواشين المحملقة على الدوام.
وأقول للزملاء الكرام: إذا اتّبعتم الطرقَ المألوفةَ في علاج المرضى حسب النصوص، وتأخّر شفاءُ بعضهم أو تأذَّوا، فإن القوانينَ لن تنالَ منكم نيلَها تجاوزَكم المألوف، ولو لمصلحة المريض، لكنّ الخيار باقٍ أبداً أمام ضمائركم، فإمّا القبول والإذعان سعياً وراء بياض وجهٍ دنيوي، وإما العِصيان والتمرّد لأجل بياضٍ مستدام. دمتم بخير.
العين في 18 آذار 2024
هوامش
- أ.د. سهيل بدورة (1921- 2005) رئيس قسم الأطفال والمؤسّس بعد وفاة الدكتور جميل سالم بحادث سيارة على طريق دمشق بيروت.
- أ.د. هاني محسن مرتضى (1939- 2022) رئيس شعبة الأمراض الإنتانية عند الأطفال (الخمجية أو المُعدية)، تسلم لاحقاً عمادة كلية الطب، ثم رئاسة جامعة دمشق، ثم وزارة التعليم العالي.
- أ. د. زياد وحيد الدين الصواف (….. – 2022)، رئيس وحدة الأشعّة في مستشفى الأطفال، يعد موسوعة في مجاله وغير مجال، وأحد أعمدة مؤسسة الصواف للتشخيص الطبي بدمشق.
- بعض الأطباء مع الأسف كذلك، وهم في ازدياد، لكنهم خارج موضوعنا ما دامت لهم طرقهم في التعامل مع المرضى.