د. غالب خلايلي
أُهديتُ واشتريتُ من العطور في أربعة عقود ما يملأ متجراً صغيراً.. لكن ما الذي بقي منها في ذاكرتي؟ وماذا عن حب مثمر بعد سبعة وثلاثين عاماً من الكفاح المشترك في دروب الحياة؟
***
لا أذكر عطراً مهمّاً يوم كنتُ طالباً وحتى تخرّجي طبيباً، سوى ما شاع في تلك الأيام مثل كولونيا “ريف دور” و”أولد سبايس”، ثم عطر “بينو” الصنوبري، و”بروت” (الذي أهدانيه أوّل مرة عمّي المهندس محمد رحمه الله) وجاكومو، ويبدو أنني كنت مولعاً في مرحلة اليُفع بروائح خشب الصندل والصنوبر والتوابل، حتى وقعتُ في شبكة (الحب)!.
قبلَها لم أكن واعياً تماماً لمعاني العطور، ولا أتذكر أنني شممتُ عطراً ما في مدرستي الثانوية (وبالتأكيد في الابتدائية) مع أنّ طلاب مدرستي كانوا من كبار العائلات السوريّة وأقلّ من ذلك الفلسطينية والأردنية، ففي تلك الأيام (1975-1978) كان التباهي بالمظاهر لباساً وعطراً ومَرْكَباً – شبهَ معدوم، لترى ابن الوزير والضابط جنباً إلى جنب ابن المعلّم والموظف، وكان من يملك أهله سيارة يقفون له في مكان بعيد يمشي إليه، أما الندرة ممّن أخذت دروساً خصوصية فكانت تخفي ذلك بقوة، لأن “افتضاحها” لم يكن مسألة سهلة. وخلافاً لحالنا نحن الطلاب بلباسنا الأخضر الموحد، كان الأساتذة ذوي هندام جميل، الطقم والقميص الأبيض وربطة العنق، حتى لتحسبهم من طبقة الوزراء (والصور القديمة تشهد)، لكنني لا أذكر يوماً انتبهتُ فيه إلى عطر (أو وليمة أو حفل صاخب..) أو كان حديثَ أحدٍ من القوم العاقلين.
الله الله على ذلك الزمن الهنيّ الرضيّ..
ما من شجرة لم تهزّها الريح..
والله الله أيضاً على بواكير الحب، يوم كان قلب الصغير في الصف الخامس يخفقُ ووجهُه يتورّد، ليس يدري ما به، عندما تصافح عيناه زنبقةً جميلة في الصف التاسع، أينعت وتورّدت وفاح عطرها، يلاقيها صدفةً في زحام يختلط فيه الداخلون إلى المدرسة الابتدائية مع الخارجات من الإعدادية، المدرسة ذاتها التي تضم الفئتين في دوامين، فكنا نأتي إلى باحةٍ يملؤها عبق الزنابق والأوراد وأريج مدرّساتهن الناضجات، و”المسكينات” يستلمنَها منا معفّرةً بروائح التراب والعرق والشيطنة.
لم يكن ذلك حبّاً بالمعنى الناضج (على ما وصفه ابن حزم في طوق الحمامة) (1)، ولا كان الخافق الموّار يفهم ما يجري، لعلها بدايات مرض القلب، لتمضيَ الأيامُ، ونصلَ في صيف الصف العاشر إلى الدورة الرياضية العربية الخامسة (1975)، ونشاركَ في العرض المختلط الذي سبقته تدريبات طويلة لأشهر، تلتقي فيها الصبايا والشبان، لقاءاتٍ تلهف لها القلةب الطريّة بعض وقت، ثم تنتهي كسحابة صيف.
وعندما ننضج أكثر نلتقي في دورة علمية صيفية، صارت بمثابة العُرف قبيل الشهادة الثانوية (تأكيداً على التوق لأعلى العلامات)، وكان القلب المشتعل – الذي ما زال غضاً – يضجّ لمرأى صبايا نضجن مبكراً وصرن (يفهمن بالومى)، لكنهن يمضين في طريقهن متجاهلاتٍ قلوباً بريئة سوف تنكسر في الحال، وهنّ يدركن بغريزتهن أنّهن ما خلقن إلا لمن هم أكبر وأنضج.
ويبقى القلب يتلوّع في كلية الطب، فالمبدأ ذاته: الشبّان أقل نضجاً (أو بلا نضج تقريباً في السنوات الأولى) من صبايا نضجنَ تماماً وصرنَ جاهزات لتكوين عائلة، فيما كل شاب منّا ما زال بحاجة إلى (فتّ خبز)، لأتذكر مع أفولنا خائبين قول الراحل نصري شمس الدين:
“يا قلب صرلك من سنين سنين.. تركض وراهن بس يا مسكين.. حاجي ورا أهل الحلا ماشي.. بتتعب ومش رح يتعبوا الحلوين”.
وأنا أتحدث عن الحب، دعْ عنك أمر اللعب، الذي لم أكن من أهله، مع أنه كان متاحاً، بل سهلاً مع وقوع قلوب بعض الصبايا الفاتنات (والصّبا وحدَه فتنةٌ في الشام)، إذ كانت العفّة إرادةً والصدق هدفاً، والعذاب نتيجة، ولا أنكر انكسار قلوب بعضٍ تعلّق قبل صلاحية الارتباط المقدّس، كما لا أنكر انكسار قلبي الملهوف يوم تعلّق بغادةٍ هيفاء، وفاتحتُها بعد طول تردّد، لكنها “صدّتني” بلطف، وعاملتني وصديقاتها بحكمة وتفهم لولاهما لتحطّمت، فسكن قلبي بعدها وما عاد يجرؤ على الاقتراب من جمرة الحب، وإن إلى حين.
العطر والذكرى السابعة والثلاثون للقفص الذهبي
ذات يوم شتوي بارد من عام 1986، كنت أعتكف فيه من المطر في بيت أهلي، في مناسبة نادرة أيام اختصاصي في طب الأطفال (1984-1988)، حيث كثر غيابي في المستشفى الذي أدمنتُه سنوات. يومها لجأتْ إلى بيتنا زهرتان برفقة أخيهما الشاب، يعرفون أهلي، بينما أنا أقابلهم أول مرة. والحقّ أن الزهرة الكبرى بقيت في بالي، في اللقاء شبه العابر، وفي صمتي المعهود. وفي صيف 1987 تكرر اللقاء العائلي بوجود أهلي (العائدين من السفر)، وعندما جلسنا إلى طاولة الطعام الكبيرة في المنزل المزدحم، شاء القدر أو شاءت قلوبنا الحرّى أن نجلس في كرسيين متجاورين، كأن “مغناطيساً” قوياً يشدّنا شدّاً، فيما تكاد تفضح قلوبَنا الوجوهُ. الفتاة أنهتْ لتوّها امتحان الشهادة الثانوية، وتبدو في قمة الألق والنضج والتوهج، وأنا (الذي استويت) على أبواب التخرج، وأضج عاطفة لا أدري أين أخمدها، أبعزف صاخب على الأكورديون، أم بكتابة مقال أو قصيدة، وكانت طاقة الكتابة قد تفجّرت عندي مثل شلالات نياجارا، بعد صدمة مهنية، وبدأت أنتشر في “تشرين” و”طبيبك” و”المجلة الطبية العربية”، وها هي ذي عاطفتي قد وجدت طريقها كما دلّني قلبي، وما بقي سوى أن أعبّدَ الطريق إلى قلب العائلة التي سوف تحتضنني.
من نظراته الثاقبة التي لا تخطئ هدفها عرفتُ أنني أُعطيتُ الموافقةَ المبدئية، وأنا أقيس ضغط الأستاذ وليد مدفعي (رحمه الله) في بيتنا. اطّلع وقتها على كتاباتي (الابتدائية) فأعجبته وهو في قمة العطاء مسرحاً وقصةً ورواية ونقداً و(شغباً) معرفياً لا يهدأ ولا يهادن، ناهيك عن عطر يفوح منه كلما قابلته، ولا عجب فهو الصيدلي العطّار والأديب المبدع الذي يفوح عطره في كل مجلس، حتى خارج سورية.
بديهي أنني سأنتقل نقلةً واحدة إلى عالم العطور، الحقيقية والأدبية، وإلى عالم الحبّ الذي ربطني بخطيبتي التي صارت بعد أشهرٍ زوجتي لنبدأ رحلة الكفاح في الحياة.
اليوم، الأول من أيلول 2024، يصادف الذكرى السابعة والثلاثين لارتباطنا الروحي، ولا أنسى حتى الساعة عطراً أهدتني إياه خطيبتي من تركيب والدها العبقري في ابتداع الروائح، في زجاجة سوداء شبه مكعّبة بديعة، ولا عطراً ساحراً في زجاجة زمرّدية كانت تستخدمه هي أيام خطبتنا، آه كم أتوق إليهما، حتى إذا ما شممتُ اليوم رائحةً تشبه أحدهما هاجت نفسي بذكريات وذكريات.
وها قد مرّت السنون بل العقود، عقودٌ أُهديتُ فيها (من الأصدقاء والأهل الذين لم ينسوا خدمات طبيبهم) واشتريتُ عطوراً رائعة أكاد لا أحصيها، وكنتُ أولعتُ برشّ العطور، حتى إن أصحابي راحوا يميزونها في المستشفى من بعيد، ولست أندم إلا على شيء واحد، أنني لم أنتبه إلى عدم مناسبتها لأطفال الربو، حتى نبهتني ذات أم بكل لطف.
واليوم، مع تكامل النضج وخبرة الأيام، وفتور الجسم دون فتور القلب المحبّ للحياة والجمال (2)، بقي العطر إلى جانبي صديقاً حبيباً، أستخدم بعضَه بكرم معقول، وأستخدم غيره بتقتير كيلا تزول ذكراه من قلبي وروحي. نعم، فقد احتفظت ببعض زجاجات أمام ناظري لا تفارقني صباح مساء.
- أولاها من ابنتي الحبيبة ديمة التي عملت ذات يوم في دبي بعد تخرجها في فرع الفنون بين (2018- 2021)، لكنها ذاقت الأمرين مع شركاتٍ صادف أنها شركات استعبادٍ، وهي الصبية الرقيقة التي تصل الليل بالنهار وتستغني عن العطل دون أن تنال حقها، ومع ذلك أهدتني عطوراً جميلة رائعة عرفاناً منها بتعبي، وأنا أقدّر حساسيتها العالية التي تشبه حساسيتي (فكل فتاة بأبيها معجبة، وأنا أيضاً مغرم بابنتي).
- وثانيتها من ابني لؤي المهندس المبدع الحسّاس أهداني عطره المفضل يوم زرته في كندا، وأنا أقدّر كفاحه في بلدي الاغتراب أستراليا وكندا ومؤخراً قربي.
- وثالثتها زجاجة عطر أهداني إياه الصديق الراحل الباحث الدكتور أيمن الطحان صيف عام 2021، يوم بارك لي خروجي من المستشفى.
في كل صباح ومساء أختار رشّة محبّبة من هذا أو ذلك أو ذاك، تذكّرني بصاحبها طيلة الوقت، وتذكرني بأيام وقصص ومواقف قريبة إلى قلبي، هذا مع اعتزازي الشديد بباقي أبنائي، وزملائي الذين أهدوني عطوراً يوماً ما، وآخرهم في دمشق الياسمين أستاذي العزيز الدكتور ع ش، الذي وصل إلى أعلى المراتب العلمية والمناصب، لكنه بقي يحتلّ المنصب الأرفع في قلبي: الإنسان، بكل ما تعنيه الكلمة.
أيها الأحباء: يفوح عطر الإنسان ويرافقه أينما مشى، وما شاء له الرحمن أن يمشي، بل إن عطره المميز يسبقه. فلينظرْ كل منّا إذاً إلى أعماله، ويصغْ تركيبة العطر الذي سوف ترافقه، ليقال عطر فلان كلما فاح، لا عطر منشم (3).
ودامت سيرتكم عطرةً ما طلعت الشمس وتوالى الليل والنهار.
العين في 1 أيلول 2024
***
- يقول ابن حزم الأندلسي في ماهية الحب: الحب -أعزّك الله- أوّلُه هزلٌ وآخره جِدٌّ. دقَّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتُها إلا بالمعاناة. والحبّ استحسانٌ روحاني، وامتزاجٌ نفساني يجعل المحبَّ يأنس بحبيبه ويسكن إليه، ومن الدليل على ذلك أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مُشاكَلَةٌ واتفاقٌ في الصفات الطبيعية، لا بد من هذا وإن قلّ، وكلّما كثرت الأشباهُ زادتِ المجانسةُ وتأكّدتِ المودة، فانظرْ هذا ترَهُ عِياناً، وقول رسول الله ص يؤكّده: (الأرواحُ جنودٌ مُجنّدة ما تعَارفَ منها ائتلف، وما تناكرَ منها اختلف). وأعلى مراتب الحب ما بني على الارتباط الروحي، والحبّ لا يكون إلا لواحد، أما الاشتهاء فيكون لغير واحد.
- يشيخ الجسم وتتغير وظائف الجسد مع تقدم العمر، وقد كان حماي الساخر الكبير وليد مدفعي يقول: بعد سن الخمسين، يرافق الإنسان حمار، يلبطه في مكان ما من جسمه بين يوم وآخر.
- أتذكر بالخير السيرة العطرة لأحباء فقدتهم: والدي العزيزين خليل خلايلي ومريم خلايلي، وعمي محمد خلايلي، وحماي وليد مدفعي، والأديب الدكتور عبد السلام العجيلي، وأساتذتي: عدنان تكريتي، سامي القباني، صادق فرعون، زياد الصواف، هاني مرتضى، إبراهيم حقي، وممن عملت وإياهم في العين: البروفيسور جورج ماكسويل، والبروفيسور أديكنلي داوودو، والصديق الدكتور خالد الجمل، رحمهم الله أجمعين.