فن وشجاعة
د. غالب خلايلي
بعد نحو أربعة عقود من العمل الطبي، وتوجيه النصائح إلى الناس بتجنّب العادات السيئة مثل تدخين التبغ والأراجيل والإفراط في الطعام والخمول، وإدمان الفيس بوك وغيره مثل حقن البوتكس والمالئات fillers وتوابعها في أماكن ظاهرة ومخفية، وجدتُ أنني كنتُ مخطئاً!.
نعم، ولا أستحي من ذلك، فالتراجع عن الخطأ شجاعة، والاعتراف بالذنب فضيلة! وقد كنت مذنباً جداً في مجتمع – عين الله ترعاه ما أروعه – جميل، مرتّب، معطٍ، منتج، نشيط، ذكي، حليم، كريم، نبيه، لمّاح، محبّ، ودود، مسالم، حكيم، وطني غيور، مندفع نحو الخير، متعقّل، إلى آخر الصفات الحسنة.
أما الأسباب التي أقنعتني بخطئي وسوء علمي، فهي التجارب الحياتية التي يتفضّل الإخوة الأكارم، والأخوات الكريمات، من أصحاب الوزن الثقيل والشحم (المطفطف) والوجوه الخرافية من كثرة اللعب بها، وهم يؤرجلون المعسّل أبا تفاحتين أو ثلاثة تفاحات (أو حتى العجمي الأصفهاني) الجميل بروائحه الزكيّة المنعشة للتنفّس لاسيما الربوي، أو يدخّنون التبغ الفواح اللطيف على الصدر والقلب، أو ينفثون دخان (الفيب Vaping) مثل قطار قديم أو طائرة نفاثة، أو ينسفون المناسف الشهية الغنية باللحوم والشحوم الخفيفة على المعدة والنَّفَس، عن أولئك الذين عاشوا مئة سنة وأكثر، وهم (يمارسون) كل العادات (الجيدة) السابقة، دون أن يدخلوا إلى طبيب، أو يحتاجوا دواء.
إحداهنّ، ما شاء الله، فيل صغير يتفجر حيوية، تحسبها كرةً وهي واقفة، وتحسب شفيتها بالونين إذا واجهتها، تفوح من ملابسها روائح الطبخ والتبغ، قالت لثلّة من القوم الدراويش وهي تضحك ساخرة:
- “يا حغاااااام (تقصد يا حرام)، أتتذكغون المغهف (أتتذكرون المرهف) المهفهف (النازيك السمباتيك) فلاناً؟ كان شديد الحغص (الحرص) على صحته، لا يطيق غوائح (روائح) السجائغ أو القلي، يماغس الغياضة بانتظام، ويأكل الفغّوج المسلوق منزوع الجلد قليل الملح، ويهتم بالزنجبيل والزعتغ والفجل والثوم…، وينام مبكغاً، ومع ذلك لم يكمل الخمسين (هـههههه)، توفّي وهو يأكل الخس والجزغ (ههههه.. مثل الأغانب)، أما صديقه البطين البدين، الذي (يحشّ ويدخّن) طيلة الوقت، ولا يتوقّف عن المضغ والبلع، فقد عاش بعده ثلاثين سنة (هههه)”.
وآخر، حفظ الله لحيته الكثة السلطانية غير المشذبة، وشاربيه النافرين إلى العلا، وبُحّة صوته العريض، وخشونة مفاصله، ورائحته التي تُشمّ عن بعد كيلو متر، قال لا فُضّ فوه، ولا بليت أسنانه السود:
- “جدي، بقي يدخن (ستين سيجارة لفّ يومياً منذ أن وعي الدنيا)، وعاش عشرة أعوام بعد المئة، ولم يعرف السعال ولا الوهن في حياته، حتى إنه في آخر عشرة أعوام أنجب نصف دزينة من الأولاد، من ابنة عشرين عاماً، ثم قرّر أن يتزوج أصغر منها بعد أن بلغت الثلاثين. كان يشرب السمن العربي شرباً كل صباح، فما الذي تقوله يا حكيم عن أثر التدخين على الصحّة والفحولة؟”…
تحسّست مكان شاربي الحليق الناعم (على عادة جيلنا وجيل أساتذتنا الذين لم تكن تنقصهم الرجولة)، فشردتُ بما قاله إخوتي العصريون، وصفنت.
بصراحة، وبسبب انفتاحي الديمقراطي على تجارب الشعوب، اقتنعتُ في جلسة الأرجلة هذه التي تشغح (تشرح) القلب بدخانها الذي يصل عنانَ السماء! كيف لا، وأنا في لحظة تاريخية ينقشع فيها الضباب من أمام ناظري؟
وفكرتُ: كيف لم ينقشع من قبلُ، أيامَ كنت أجلس في مجالس العلماء والأطباء المشهورين، وأساتذة الجامعات والمدارس، وكبار الصحفيين، والفنانين، والمحلّلين الطبيين والاستراتيجيين، وأوجه المجتمع اللامعة ووجيهاته اللامعات، وزوجات رجال المال والأعمال، كلّهم يدخنون ويؤرجلون، وأنا أضع قناعاً (كِمامة)، وهم يضحكون صراحةً أو خلسة، فلِمَ أنكرُ على هؤلاء (الدراويش) أن يفعلوا ما يفعله السادة؟ ولماذا لا يأكلون ما يشتهون؟ ولماذا يبذلون أي جهد، ولا يبقون مرتاحين على الأرائك، ينفخون وينتفخون ويعلكون ويبلعون و -عذراً – يتجشّؤون، ويتأملون أجهزتهم الهاتفية الذكية الغالية بفخرٍ وهم يرسلون صورَهم إلى أرجاء المعمورة كي يشاركَهم الناس لحظاتِهم السارة ويطبعوها بالقلوب الحمر؟
تساؤلات غابت عني يوم كنتُ جاهلاً بالحياة، معميّاً بالكتب والدراسات، بعيداً عن الفكر الاقتصادي العالميّ الخلاق، بل حتى عن الأمثال الشعبية المعبرة مثل: دخّن عليها تنجلِ.
وها هي ذي قد انجلت واتضحت، فبانت الحقائق الجلية، حتى عند المعاقين بصرياً.
يا ناس: حرام أن تضيعوا وقتكم ولا تستمتعوا، يعني: معقول مثلاً: مشاهدة مسلسل بلا مقرمشات؟ بلا تشوهات؟ بلا سحر وفذلكات؟ شاي بلا سكّر (حتى نصف الكأس على الأقل)؟ قهوة بلا سيجارة؟ قراءة “السوالف” بلا سيجار؟ تفكّر وتأمل بالوجبة التالية بلا غليون؟
الفضائل كثيرة، ولم أذكرها كلّها، لأنكم أعرف مني بها، ولهذا أقول لكم: كلوا يا أحبائي حتى التخمة ثم دخّنوا ولا تتحرّكوا، واحقنوا وانفخوا ولا تتردّدوا. ألم يعشْ أجدادكم فوق المئة، ثم أنجبوكم نجباء ونجيبات؟
إنّني متراجع عن كل نصائحي المُغرضة السابقة: فلا الحركة بركة، ولا التبغ مهلكة، ولا الحقن مضرة ولا حتّى الحشيش، في زمن الاستلاب والانبطاح والتحشيش.
العين في 2 حزيران 2024