قصر باكنكهام
د.غالب خلايلي
ذات صباح لندني جميل، وفي تمام العاشرة، صفّ الدكتور جيمس سيارته الجاكوار الكلاسيكية في شارع كنغنستون، الذي يكون هادئاً عادةً في مثل هذا الوقت.
لم يجد د. جيمس، الذي كان في طريقه إلى مقصده، ضرورةً لقطع تذكرة اصطفاف، إذ إنه سوف يقضي دقيقة واحدة مع الإسكافي جون، يُفهِمه فيها ما الذي حلّ بحذاءين فاخرين: واحد لزوجته فقد كعبًه في الهايد بارك، والثاني له تفكّكت صموغُه كلّها بسبب مطر لندن، فبدا كحذاء تايواني رديء مع أنه من نوعية بريطانية ممتازة.
كان الإسكافي واقفاً أمام باب محله الصغير ينتظر (استفتاحة الصباح)، وعندما رأى الدكتور جيمس الشهير بشعره الأبيض وبشرته الحمراء، تهلّل وجهه وأشرق.
زمور.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة.. انطلقت من سيارة صغيرة قريبة، كادت تخترق قحف رأس كل من الطبيب والإسكافي. كل زمور أشبه بصاروخ بالستي أو بقنبلة نووية تخزع الآذان، بل تزلزل الأرض.
قفز كل من جيمس وجون كالمجانين، كأن أفعوان كوبرا أو عقرباً أسودَ لدغهما.
في تلك اللحظة المُزلزِلة تحرّكت خادمتان: بولونية مهفهفة بيضاء شقراء كالبدر إن لم تكن أحلى، وأوكرانية صبيحة الوجه وضّاءة، وتوجهتا إلى صاحبة السيارة، التي بدا أنها صاحبة مكتب خدم. وعندما أنزلت زجاج نافذتها المعتمة تبين من لكنتها وشكلها أنها امرأة إيطالية في منتصف العمر، بشفتين منفوختين كأنهما براطم بطة، وبأسنان تشبه مصابيح “النيون” قبل عطبها.
توجه الدكتور جيمس إليها وقال بكل هدوء: ألم يكن أجدى يا سيدتي أن تنزِلي وتحدّثي خادمتيك من أن تخلعي آذاننا بزماميرك؟
جن جنون الأيطالية وصرخت حتى كادت شفتاها تتمزقان: ماذا؟ ماذا؟ وهل أقف في شارع أبيك؟ هل أزمر في بيتك؟ هذا شارع عام، ولي كل الحريّة فيه.
وقبل أن يردّ الدكتور جيمس (الذي بدا مصعوقاً) بأي كلمة أعقبت: اشتكِ لمن تشاء، حتى للشرطة، يداك وما تعطيان، وسترى.
قَصَرَ جيمس الشرّ ومشى إلى سيارته، فإذا بالإيطالية الفاجرة تُخرج هاتفها المذهّب اللماع وتصوّر سيارة الطبيب التي لا بد من أن تمرّ أمامها، إذ لا طريق آخر. وعندما صار جيمس بحذائها أشارت إليه بكفها ذي الخواتم المتعددة، أن يتوقّف ويكلّم شخصاً اتصلت به.
“أبو ريتشاردو”، هكذا قرأ اسمه على هاتفها.
- التحرّي أبو ريتشارد (بغضبٍ بالغ): كيف تتصرف بحماقةٍ ورعونةٍ وغباء مع سيدة فاضلة مثل هذه؟
- الدكتور جيمس (بهدوء): صباحك طيب يا أبا ريشار. لقد خزعتْ سيدتك الفاضلة أذنيّ والإسكافي وكل من كان في الطريق!
- وهل هو طريقك، طريق الذي خلّفك، طريق جدك؟ هذا شارع عام وليس بيتك. أعطني رقم هاتفك وأنا أعلّمك كيف تتأدّب مع سيدة.
- يا أبا ريشار، أنا طبيب معروف، ولا داعي لهذا التصعيد. لم أقلْ لصاحبتك أية كلمة جارحة.
- كن من كنت. لقد أزعجتَ السيدة بما ليس من حقك. أعطني رقمك.
الدكتور جيمس يعرف لندن كلها، وشهرته تمتد إلى أيرلندة واسكوتلاندة، ويمكنه بكل بساطة أن يقلب ظهر المجنّ لهذا المعتوه، لكنه سيكون غبياً لو استجاب لزوبعةٍ في فنجان إيطالية بلهاء حمقاء، ولهذا فكّر أنه ما من داعٍ للتصعيد.
- أبا ريشار، سامحني، لقد أخطأت بحق سيدتك الفاضلة وأنا أعتذر لها ولك.
- (بمزيد من التعنّت): أبداً.
إلا أنه بعد تكرار الرجاء الحار، نزل الوحي، ورقّ قلب أبي ريشار فجأة، وتقبل وطليانيته الاعتذار، ليتابع الدكتور جيمس طريقه الممطر محاذياً للهايدبارك، حتى وصل إلى قصر بكنغهام، إذ إنه سيشرب مع جلالة الملك تشارلز، قهوة الصباح.
- هذا ما جرى معي يا جلالة الملك؟
- بابتسامة عريضة: حقّاً يا حكيم؟ امسحها بذقني. الناس هذه الأيام فقدوا صوابهم، وأنت منهم.
- سيدي صاحب الجلالة..
- أنت وسيم وحكيم يا جيمس. لو عرفتَ كيف تنظر إلى الإيطالية بحنان، وتضربها (جوز عيون) لكان أغمي عليها، ولكنتَ وفّرت على حالك تدخّلات المعتوه “أبو بطيخ” هذا.. ماذا قلت لي اسمه؟
- أبو ريتشارد.
- تناول قهوتك قبل أن تقيس لي ضغطي، فلا تعرف كيف تضع الكم لي.
- أنا الذي “أكلت الكم” يا صاحب الجلالة.
وراح الاثنان، جلالته والحكيم، يضحكان من الأعماق.
6 آب 2024