الطوائف اللبنانية تزرع شجرة التوافق
بقلم د. الياس ميشال الشويري
لم يكن قانون الإيمان الذي نتلوه اليوم في القداديس نتاج لحظة لاهوتية عابرة، بل ثمرة صراعٍ روحي وفكري وسياسي هزّ الإمبراطورية الرومانية بأسرها، وجعل الكنيسة أمام امتحان وجودي: هل تستطيع صون حقيقة التجسّد والمحافظة على وحدة الإيمان رغم الانقسامات والهرطقات والضغوط الإمبراطورية؟ في نيقيا (مدينة إغريقية قديمة، تُعرف اليوم باسم “إزنيق” وتقع في تركيا) سنة 325، وُلد أول نص جامع حمل عبارة “نؤمن…” كصرخة دفاع بوجه البدعة الآريوسية. ثم جاء مجمع القسطنطينية الأول سنة 381 ليعيد ترميم ما تشقق، ويضيف إلى النص النيقاوي فصولاً جوهرية تتعلق بالروح القدس والكنيسة والمعمودية.
لكن قراءة هذا التاريخ اليوم، في ضوء زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، تمنح الحدث بُعدًا جديدًا: فكما كانت الكنيسة في القرن الرابع تبحث عن ثباتٍ عقائدي يعيد إليها وحدتها، كذلك لبنان اليوم يبحث عن وحدة وطنية وروحية وأخلاقية تعيد إليه القدرة على النهوض من أزماته. وكما جاء المجمعان المسكونيان ليؤكّدا أنّ الإيمان لا يُبنى على المساومات، جاء الحبر الأعظم ليذكّر أن الأوطان، مثل الكنائس، تنهض فقط حين تستعيد حقيقتها وهويتها ومسؤوليتها الأخلاقية.

1. مجمع نيقيا وبداية صياغة قانون الإيمان
دخلت الكنيسة القرن الرابع وهي مثقلة بجراح اضطهادات طويلة، وما إن تنفّست الصعداء بعد مرسوم ميلانو حتى ظهرت أزمة جديدة أخطر من السيف: أزمة فكرية تهدد صميم الإيمان المسيحي. فقد ادّعى آريوس أن الابن مخلوق وليس مساوياً للآب، وأن المسيح ليس أزليًا بل بداية مخلوقة. هذا الطرح لم يكن مجرد اختلاف لاهوتي، بل كان انقلابًا على سرّ التجسّد والخلاص. ووسط الفوضى التي أحدثها الانقسام، دعا الإمبراطور قسطنطين إلى مجمع مسكوني في نيقيا سنة 325 لتوحيد الكنيسة حول نصّ جامع يضع حدًا للارتباك العقائدي. هكذا وُلد قانون الإيمان النيقاوي، لا كصياغة فلسفية بل كوثيقة دفاعية تُعلن “نؤمن بإله واحد…” وترفض أن يكون المسيح أدنى من الآب، مثبتة أن “الابن مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر“. أهمية هذا الحدث تكمن في أنه لأول مرة تكتب الكنيسة عقيدتها الأساسية في صيغة جماعية، متجاوزة اختلافات المناطق واللغات والثقافات، ومتحدّة حول سر التجسّد، وكأنها تقول: لا وحدة للكنيسة بدون وحدة الإيمان.
لم يكن قانون نيقيا نهاية الصراع، بل بدايته. فالانقسام استمر عشرات السنين، وتعرّض الأساقفة المدافعون عنه للنفي والاضطهاد، ومنهم القديس أثناسيوس الكبير الذي أصبح رمزًا لصمود الحقيقة ضد الضغط السياسي. فالامبراطوريات تتبدّل، لكن الإيمان لا يُعاد صياغته حسب مزاج الحكّام. وبينما حاول بعض الأباطرة فرض “حلول وسط” مساوماتية مع الآريوسيين، بقيت الكنيسة المتمسّكة بنص نيقيا تقاوم التمييع العقائدي. كانت المرحلة شبيهة بلبنان اليوم، حيث يُراد للأوطان أن تتنازل عن مبادئها الجوهرية باسم الاستقرار، بينما الحقيقة التاريخية تقول إن السلام لا يقوم على الإنكار بل على تثبيت الأسس.
أظهر مجمع نيقيا أن الكنيسة ليست مؤسسة لاهوتية فحسب، بل كيان روحي قادر على مواجهة الإمبراطور نفسه عندما يتعلق الأمر بالحقيقة. هذا التحول أعطى العالم نموذجًا جديدًا: سلطة الإيمان فوق سلطة الحكم. وبذلك، شكّل المجمع منعطفًا في تاريخ العلاقة بين الكنيسة والدولة، مؤكدًا أن الإيمان ليس ملكًا للأباطرة ولا للأحزاب، بل للشعب المؤمن. هذه الدلالة تصبح أكثر وضوحًا اليوم مع زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، الذي يحتاج إلى سلطة أخلاقية تُعيد التوازن في بلد اختطفته قوى الفساد والطائفية.

2. مجمع القسطنطينية الأول واستكمال النص النيقاوي
رغم وضوح نص نيقيا، استمرت الاضطرابات اللاهوتية، خصوصًا حول الروح القدس، إذ ظهرت بدع جديدة مثل المكدونيين الذين أنكروا ألوهيته. كما برزت الحاجة إلى تأكيد هوية الكنيسة ودورها، وإلى تنظيم العلاقة بين الآب والابن والروح القدس ضمن إطار الثالوث الواحد. لذلك دعا الإمبراطور ثيودوسيوس إلى مجمع القسطنطينية الأول سنة 381 لتحصين الإيمان وتطوير النص النيقاوي. لم يكن الهدف التعديل لأجل التعديل، بل استكمال ما بدأ في نيقيا. وهكذا أُضيفت العبارات الخاصة بالروح القدس: “الرب المُحيي، المنبثق من الآب…“. هذه الإضافة ليست هامشية، لأن سرّ الروح القدس هو ضمانة حياة الكنيسة وتجددها.
إلى جانب إضافة فقرة الروح القدس، شدّد مجمع القسطنطينية على مفهوم “الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية“. هذا التعريف صار حجر الزاوية في بناء وحدة العالم المسيحي. فهو إعلان أن الكنيسة ليست مجموعة طوائف متناثرة، بل جسد واحد. هذا البُعد يكتسب معنى خاصًا اليوم للبنان الذي غرق في الانقسامات، حيث كل طائفة أصبحت كنيسة صغيرة منعزلة. زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر جاءت روحياً على خطى القسطنطينية: لتذكّر لبنان بأنه لا يمكن أن ينهض إلا بوحدته الداخلية وبفهمه لذاته كجسد واحد لا كجزر متنافرة.
ما أن انتهى مجمع 381 حتى صار نص “قانون الإيمان” ضرورة في كل قداس، وفي كل معمودية، وفي كل احتفال كنسي. فهو الكتاب المختصر الذي يجمع إيمان الكنيسة منذ الرسل حتى اليوم. هذا الامتداد التاريخي نفسه يشبه امتداد الرسائل البابوية المستمرة إلى لبنان عبر القرون، وصولًا إلى زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر. كما كانت الكنيسة في القرن الرابع بحاجة إلى تثبيت لاهوتها في مواجهة الصراع، كذلك لبنان اليوم بحاجة إلى تثبيت رسالته في مواجهة الفوضى. لا يمكن للبنان الرسالة أن يستمر إذا فقد جوهره الروحي والقيمي، تمامًا كما لا يمكن للكنيسة أن تبقى كنيسة دون وحدة إيمانها.

3. قراءة لاهوتية في نص “النؤمن” بين نيقيا والقسطنطينية
في مواجهة العالم الوثني متعدد الآلهة، والمسيحية المنقسمة حول طبيعة المسيح، جاء قانون الإيمان ليُعلن توحيدًا إلهيًا يقوم على الثالوث، لا على الكثرة. مفهوم “إله واحد” لم يكن تنازلاً فلسفيًا بل إعلانًا أنّ الله واحد في الجوهر، وثلاثة في الأقانيم. هذا التوازن بين الوحدة والتعدد هو ما يجعل الإيمان المسيحي قادرًا على الجمع بين العقلانية والسر، بين المنطق والمحبّة. ويمكن قراءة هذا البعد في واقع لبنان أيضًا: بلد متعدد الطوائف، لكنه مدعو إلى وحدة الجوهر الوطني. زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر أعادت التذكير بأن وحدة لبنان “تثالوثية“ بمعنى أنها تقوم على تعدد متناغم، لا على صراع تناحري.
أهمّ ما في قانون نيقيا هو تأكيد ألوهية الابن، لأنه يحمل رسالة مركزية: الله لم يرسل رسولاً فقط، بل دخل في التاريخ وصار إنسانًا. هذا العمق المسيحي لطالما كان قوة دفع للحضارة الإنسانية. في المقابل، حين حاولت السياسة عبر التاريخ تمييع هذا السرّ أو استغلاله، كانت الكنيسة تعود إلى نيقيا والقسطنطينية لتستعيد حقيقتها. لبنان اليوم يعيش تجربة مشابهة: حين تصبح القيم مجرد أدوات بيد السياسيين، يفقد المجتمع روحه. ولعلّ ما حمله قداسة البابا لاوون الرابع عشر في زيارته يشبه روح أثناسيوس: إعادة الحقيقة إلى مكانها الصحيح، فوق السياسة، فوق الصفقات.
في قانون الإيمان، لم تكن ذكر المعمودية مجرد تفصيل، بل إعلان لسرّ الدخول في الحياة الجديدة. المعمودية “واحدة” بمعنى أنّ الوحدة تبدأ من التجدد الداخلي لا من المظاهر. وهذا ما يفتقر إليه لبنان اليوم: التغيير الحقيقي يبدأ من الإنسان وليس من الشعارات السياسية. زيارة البابا جاءت أيضًا لتعلن معمودية وطنية جديدة: معمودية مسؤولية، وتعافٍ، وتحرّر من الفساد الذي كاد يخنق هوية لبنان التاريخية.

4. الربط الروحي والسياسي بين المجامع المسكونية وزيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر
كما كان الإمبراطور قسطنطين أو ثيودوسيوس يطلبان كلمة الكنيسة في لحظة الأزمة، كذلك العالم اليوم ينظر إلى زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر كصوت ضمير في زمن فقدت فيه السلطات السياسية في لبنان معناها الأخلاقي. إنّ معنى الزيارة يشبه رسالة المجمعين: لا خلاص بدون حقيقة، ولا وحدة بدون إيمان، ولا دولة بدون ضمير. وما حمله البابا إلى لبنان لم يكن خطاب مجاملة، بل دعوة للعودة إلى الجوهر.
لبنان تاريخيًا كان جسراً بين الشرق والغرب، تمامًا كالمجامع المسكونية التي جمعت الكنيسة العالمية. وكما وحّد قانون الإيمان الكنيسة رغم تعددية لغاتها وثقافاتها، كذلك لبنان قادر على أن يكون نموذجًا لوحدة متنوعة. ولكن هذا مشروط بأن يرفض أهل لبنان البدع السياسية التي فرّقتهم كما فرّقت البدع الكنيسة قبل نيقيا. قداسة البابا لاوون الرابع عشر، بكلمته الواضحة، أعاد للبنان رسالته: أن يكون وطنًا لكل أبنائه، لا مغارة للصوص ولا حقلًا للميليشيات.
إنّ وجود البابا بين اللبنانيين يشبه إعادة تلاوة قانون الإيمان على وطنٍ فقد ذاكرته ووجهته. كما صحّح مجمع القسطنطينية انحرافات القرن الرابع، جاءت الزيارة البابوية لتصحيح انحرافات العصر الحالي: الفساد، الإفلاس الأخلاقي، تدمير المؤسسات، واستغلال الدين لأغراض سياسية. الدعوة كانت واضحة: “لبنان ليس مشروعًا ساقطًا، بل رسالة يجب إنقاذها.” وهذه الرسالة هي نفسها التي تحرك روح قانون الإيمان: العودة إلى الأساس، إلى الحقيقة، إلى جوهر الإنسان.

5. الخاتمة
من نيقيا إلى القسطنطينية، ومن القرن الرابع إلى القرن الحادي والعشرين، يظلّ قانون الإيمان شهادة على أن الحقيقة لا تموت، بل تحتاج إلى من يشهد لها. لبنان اليوم يقف على مفترق طرق شبيه بذلك الذي عرفته الكنيسة الأولى: إما الذوبان في فوضى الصراعات والمصالح والهرطقات السياسية، وإما العودة إلى ثوابت الهوية والرسالة.
زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر ليست مجرد حدث دبلوماسي أو رعوي، بل امتداد لمسار تاريخي روحي يشبه مسار المجامع المسكونية. هي إعلان أنّ العالم ما زال ينتظر من لبنان أن يكون نورًا، وأن رسالته لا تُختصر بعجز حكامه، بل بروح شعبه وإرادة كنائسه.
تمامًا كما وُضع قانون الإيمان ليحفظ جوهر العقيدة، جاءت الزيارة البابوية لتحفظ جوهر لبنان: الحرية، التعددية، الكرامة، والانتماء إلى قيم أعلى من الحسابات الضيقة. فكما قاومت الكنيسة البدع والانقسامات دفاعًا عن الحقيقة، كذلك لبنان مدعو اليوم إلى مقاومة الفساد والانهيار دفاعًا عن وجوده.
ولعلّ أجمل ما يمكن قوله في الختام: “كما جمع قانون الإيمان الكنيسة حول كلمة “نؤمن”، يجمع البابا اليوم لبنان حول كلمة “ننهض.“
























































