أيام الفرح: كانت العائلة تجتمع مرتاحةً ومسرورة
د. الياس ميشال الشويري
في زمنٍ ليس ببعيد، كان اللبناني يضحك رغم الأوجاع، يغني رغم الحروب، ويرقص على حافة الجراح كأنه يرفض الانكسار. كانت الضحكة جزءًا من هويته، تشهد على إرادةٍ تصنع من الرماد حياة. أما اليوم، فقد خمدت تلك الضحكة على وجوه الناس، بعدما أثقلتها الخيبات، وسُرقت منها البهجة كما سُرقت أموالهم وأحلامهم. فالمقولة المؤلمة “حسدونا على ضحكتنا حتى أجت الأيام وأخذتها” ليست مجرد جملة عابرة، بل اختصارٌ لتاريخٍ طويل من الانحدار، رسمته منظومة فاسدة حولت بلد الجمال والحضارة إلى ساحة خراب. في هذا البحث، سنستعرض كيف خسر اللبناني ضحكته، وكيف صار ضحية لأيامٍ قاسية سرقت منه فرح العيش وكرامة الوجود، بعدما كان يلقّب شعبه بالأنغام والبهجة وبلده بـ”سويسرا الشرق، في زمن الرئيس الملك كميل نمر شمعون والرئيس الزاهد فؤاد شهاب“.
1. من ضحكة النعيم إلى دمعة الانكسار
كان لبنان ذات يوم لوحةً متكاملة الألوان: بحرٌ يحتضن جبلاً، ومدينةٌ تتسع لثقافاتٍ متباينة تتعايش بانسجامٍ نادر. كانت بيروت مركز إشعاعٍ ثقافيٍّ لا ينام، ومقهى يجتمع فيه الشعراء والسياسيون والفنانون والمفكرون من كل الشرق. في الستينيات والسبعينيات، كان الزائر القادم من الغرب يندهش من رقيّ الحياة الاجتماعية، ومن مستوى الحرية الفكرية والفنية، ومن جرأة اللبناني في الفرح حتى في وجه الهمّ. كانت “الضحكة اللبنانية” علامة فارقة، لا تنبع من الغفلة، بل من إيمانٍ عميق بأن الحزن لا يجوز أن يصبح عادة. غنى الرحابنة للحب والوطن والجمال، وصاغت فيروز أنشودة الحياة صباح كل يوم. تلك كانت الضحكة التي حسدها العالم: ضحكةٌ تعانق الحلم رغم كل الأعاصير، ضحكةٌ تليق ببلدٍ عُرف أنه يصنع من الأزمات أملاً جديدًا.
لكن الضحكة لم تكن لتصمد أمام منظومةٍ فاسدة، مرتهنة للخارج، قررت أن تستبدل الفرح بالانقسام، والحلم بالنهب، والمواطنة بالزبائنية. جاءت الحرب الأهلية فقصفت الضحك كما قصفت البيوت. ثم أُعيد بناء الحجر دون أن يُرمم البشر. جاء زمن ما بعد الحرب حاملاً الوعود الكبيرة، لكن خلف الواجهة الحديثة كانت تُنسج أكبر عملية سطوٍ في تاريخ الوطن: على المال العام، على مؤسسات الدولة، على العدالة، وعلى روح الشعب. ومع كل أزمةٍ جديدة، كان جزءٌ من الضحكة يُنتزع: مرة باسم المقاومة، مرة باسم الدين، مرة باسم الإصلاح، ومرة باسم الطائفة. صارت الأيام ثقيلةً كأنها تُعاقب اللبناني لأنه أحب الحياة أكثر مما ينبغي. وها هو اليوم، يقف أمام المرآة فيرى ملامحه متعبة، وصوته خافت، وضحكته ضائعة بين الخوف من الغد ومرارة الحاضر.
لم يكن الحسد وحده ما أخذ الضحكة، بل الفساد الذي تغلغل في العظام حتى صار جزءًا من المشهد اليومي. من بلدٍ يقصده السائحون بحثًا عن الجمال، إلى بلدٍ يهرب منه أبناؤه بحثًا عن الأمان. من بيروت التي كانت تستقبل المؤتمرات والمهرجانات، إلى بيروت التي تُقصف بأيدي أبنائها وتُسرق بأيدي حكامها. لقد تحوّل “الحسد” الذي كان مجازيًا إلى واقعٍ مؤلم: حين رأى العالم لبنان يتهاوى، لم يمدّ يد المساعدة، بل راقب بصمت، كأن الحسد تحقق وعده. وهكذا، غدت أيام لبنان كاللصوص، دخلت بلا استئذان وسرقت ما تبقّى من ضحكةٍ كانت تُنير الشرق.

2. المنظومة الفاسدة… الجريمة التي لا تُعاقب
في لبنان، لم يعد الفساد فعلاً استثنائيًا، بل صار منظومةً متكاملة تملك وجوهًا وأسماء ومذاهب وأحزابًا. لم يولد هذا الفساد من فراغ، بل من تحالفٍ مصلحيٍّ بين المال والسياسة والطائفة، بحيث غابت الدولة وحلّت مكانها الدويلات. فبدل أن تُدار المؤسسات لخدمة الناس، صارت تُدار لخدمة الزعيم، وبدل أن تُوزع الثروات بعدالة، صارت تُنهب بوقاحة. ومع كل دورةٍ انتخابية، كان المواطن يُمنح وهم الأمل على شكل وعدٍ بالوظيفة أو المساعدة، فيسلم صوته لمن سرق ضحكته. هذا التكرار جعل الفساد يترسخ في البنية الاجتماعية، حتى بات البعض يراه أمرًا طبيعيًا أو قدريًا، متناسين أن الشعوب التي لا تحاسب حكامها تضحك مرة وتبكي ألفًا.
لم يكتفِ الفاسدون بسرقة المال، بل سرقوا المفاهيم نفسها. صار الدفاع عن الوطن يُترجم بالولاء للزعيم، وصار الإيمان بالله يُستغل لتبرير الطغيان. كل زعيمٍ في لبنان اعتبر نفسه قدر الطائفة، فصار الخروج عليه كفرًا سياسيًا. وفي خضم هذا الجنون، تحولت الضحكة إلى تهمة، والفرح إلى جريمة. من يستطيع أن يضحك في بلدٍ يُقمع فيه الصوت الحرّ، ويُسجن فيه الصحفي، ويُنفى فيه المصلح؟ كيف يضحك الشاب حين يرى نفسه عاطلًا، والمهاجر حين يسمع عن انقطاع الكهرباء في بيت والديه؟ لقد أصبح لبنان مسرحًا عبثيًا، ضاع فيه النصّ وضحك الممثلون من مرارة الدور. وهكذا، أصبحت الأيام التي “أخذت الضحكة” ليست قدَرًا سماويًا، بل نتيجة تخطيطٍ محكمٍ من منظومةٍ لا تعيش إلا على أنين الناس.
أسوأ ما فعلته المنظومة الحاكمة ليس سرقة الأموال ولا تعطيل المؤسسات، بل قتل الأمل في نفوس الناس. حين يصبح الشاب مقتنعًا أن لا جدوى من الصدق ولا مكسب في النزاهة، تكون الدولة قد ماتت. في لبنان اليوم، يُكافأ الفاسد ويُهان الشريف، يُرفع الانتهازي ويُقصى الكفوء، يُمدح الكاذب ويُسكت الصادق. تلك هي الجريمة التي أخذت الضحكة من أفواه اللبنانيين. لم تعد الضحكة ممكنة حين تتحول الجامعة إلى ساحة وساطة، والمستشفى إلى سوق ابتزاز، والمحكمة إلى مسرح فساد. إنها جريمة معنوية تُرتكب يوميًا باسم “الواقع“، في بلدٍ لم يعد يرى النور إلا حين تنقطع الكهرباء.

3. الضحكة المفقودة… وهل من طريقٍ إلى استعادتها؟
في وجه القهر، تظل الضحكة سلاحًا رمزيًا. اللبناني الذي ضحك تحت القصف وغنّى وسط الركام، قادر أن يخلق ضحكة جديدة من رماد اليوم. لكن استعادة الضحكة ليست فعل إنكارٍ للواقع، بل فعل تحدٍّ له. هي مقاومة ضدّ الانهيار النفسي والاجتماعي، وضدّ من أرادوا تحويل الشعب إلى جموعٍ منكسرة. إنّ الضحك هنا ليس سطحيةً، بل تعبيرٌ عن رفض الخضوع. اللبناني الحقيقي لا يضحك لأنه نسي، بل لأنه يعرف أن البكاء لا يُعيد وطنًا. تلك الضحكة، وإن كانت خافتة اليوم، فهي لا تزال في مكانٍ ما في أعماق الناس تنتظر لحظة الصدق الكبرى لتخرج من جديد.
لكي يستعيد لبنان ضحكته، لا بد أن يستعيد وعيه. الحسد لم يكن إلا نتيجة نجاحٍ لم يُحسن اللبنانيون حمايته، والكارثة لم تكن إلا عقابًا على الصمت الطويل. اليوم، بعد أن جاعت الناس وانطفأت الكهرباء وهاجر الأطباء والمعلمون، بدأ الوعي ينمو من تحت الركام. صار اللبناني يدرك أن التغيير لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، من كسر الحلقة الجهنمية التي تربط الزعيم بالمواطن بالمصلحة. إنّ استعادة الضحكة تمرّ عبر المحاسبة، عبر ثقافةٍ جديدة لا تُبرر الفساد بحجة “كلهم هيك“، بل ترفضه كخيانةٍ للوطن. الضحكة التي تعود بعد وعيٍ كهذا لن تُسلب مجددًا، لأنها ستكون ضحكة الحرية لا ضحكة الغفلة.
قد يكون لبنان في القعر اليوم، لكنّ القعر ليس نهاية الطريق، بل بداية الصعود لمن أراد. الضحكة التي أخذتها الأيام يمكن أن تعود، إذا تحرر الوطن من أيدي الذين حولوه إلى مزرعة. لا عودة إلى “سويسرا الشرق” بالشكل القديم، بل إلى وطنٍ أنقى وأصدق، يتعلم من ماضيه ليبني مستقبله. سيضحك اللبناني مجددًا حين يرى قضاءً عادلًا، ومدرسةً بلا وساطة، ومستشفى لا يبتزّ المريض، وكهرباء لا تُطفأ لتمويل شركةٍ فاسدة. يومها، سيعرف أن ضحكته ليست صدفة بل استحقاق. فالأيام التي أخذت الضحكة يمكنها أيضًا أن تُعيدها، إنْ واجهها الشعب بعقلٍ مستيقظٍ وقلبٍ مؤمنٍ بلبنان الذي يستحق الحياة.
4. الخاتمة
لقد حسدونا على ضحكتنا، نعم، لكن ما أخذ الضحكة لم يكن الحسد بل خيانتنا لأنفسنا حين سلّمنا الوطن لعصاباتٍ لبست ثوب الزعامة. ومع ذلك، يبقى في قلب لبنان ما لا يُكسر: نبضُ الحياة. فكما نهض من رماد الحروب، سينهض من رماد الفساد. قد تكون الأيام قاسية، لكنها ليست أقوى من شعبٍ جعل من الضحك فعلَ تحدٍّ لا فعل نسيان. وحين تعود الضحكة إلى بيروت، لن تُحسد هذه المرة، بل سيُحتفى بها كعودةٍ للحقيقة الضائعة: أن لبنان، مهما انكسر، يظل بلدًا وُلد ليبتسم رغم كل شيء
























































