في الجامع وبيده القرآن الكريم
د. الياس ميشال الشويري
الولاء للدولة والقانون هو مفهوم قديم يتطوّر عبر الزمن ليأخذ أشكالًا مختلفة في الثقافات والحضارات. في السياقين المسيحي والإسلامي، يتأثر مفهوم الولاء بتعاليم دينية وقيم أخلاقية تنظم العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الفرد والدولة. هذا المقال يهدف إلى تحليل مفهوم الولاء للدولة والقانون من منظور الإسلام والمسيحية، وتسليط الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بينهما، وأثر التعاليم الدينية على بناء مفهوم الولاء في كل من النظامين.
- – مفهوم الولاء للدولة والقانون في الإسلام.
-الأسس الدينية للولاء في الإسلام: الولاء في الإسلام يقوم على فكرة الطاعة لله ورسوله، ثم لأولي الأمر من الحكام الذين يحكمون بالشريعة الإسلامية. الإسلام كدين يشمل نظامًا قانونيًا يعرف بـ”الشريعة”، والذي يغطي جميع جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. الطاعة للحاكم واجبة طالما أنه يحكم بالشريعة ويحقّق العدل بين الناس.
النصوص القرآنية والسنة النبوية تتضمن عددًا من التعاليم التي تؤكد ضرورة الطاعة لأولي الأمر:
-القرآن الكريم. يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ” (النساء: 59). هذا النص يضع إطارًا عامًا للطاعة، والذي يتضمّن الولاء للحاكم بشرط أن يكون ملتزمًا بالشريعة الإسلامية.
–السنة النبوية. يقول رسول الإسلام: “من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني” (متفّق عليه). هذا الحديث يؤكّد العلاقة بين الطاعة للحاكم والولاء للرسالة الإسلامية.
–الولاء للوطن في الفكر الإسلامي: الإسلام يشجّع الولاء للوطن باعتباره جزءًا من الإيمان. قال رسول الإسلام عن مكة: “ما أطيبك من بلد وما أحبك إليّ”. الولاء للوطن لا يتعارض مع الولاء للدين، بل يمكن اعتباره من مظاهر الولاء للدين، حيث يُشجّع المسلم على الدفاع عن أرضه ومجتمعه، بشرط أن تكون تلك الدولة تحكم بالعدل.
–القانون والشريعة: الشريعة الإسلامية هي القانون الأسمى في المجتمعات الإسلامية التقليدية، وكان الولاء للقانون جزءًا من الولاء للدولة، باعتبار أن تطبيق الشريعة هو الأساس الذي تقوم عليه العدالة الاجتماعية والسياسية. في الدول الإسلامية الحديثة، يختلف الوضع اذ قد تتبنىّ بعض الدول قوانين وضعية. الولاء للقانون الوضعي يكون مشروطًا بمدى توافقه مع مبادئ الشريعة.
–الفتن والصراعات السياسية: في حالات الفتن أو عندما يعتقد المسلم أن الحاكم لا يحكم بالعدل، تثار قضية الطاعة والولاء. هناك فقه إسلامي يتعلق بكيفية التعامل مع الحاكم الظالم، ويتراوح بين النصيحة والمقاومة السلمية وحتى الخروج عليه، اعتمادًا على الظروف.
- – الولاء للدولة والقانون في المسيحية
-الأسس الدينية للولاء في المسيحية: المسيحية تختلف عن الإسلام في أن النصوص الدينية لا تتضمن نظامًا قانونيًا شاملاً يتعيّن على المسيحيين اتباعه. بدلاً من ذلك، تركّز التعاليم المسيحية على الطاعة للقوانين الوضعية طالما أنها لا تتعارض مع تعاليم الإنجيل. المسيحيون مدعوون إلى الولاء للدولة وقوانينها بناءً على تعاليم يسوع المسيح والرسل.
-العهد الجديد. في الرسالة إلى رومية (13: 1-7)، يؤكّد الرسول بولس أهمية الطاعة للسلطات الحاكمة، معتبرًا أن كل سلطة هي من الله: “لِيَخضَعْ كُلُّ امرِئٍ لِلسُّلُطاتِ الَّتي بأَيدِيها الأَمْر، فلا سُلْطَةَ إِلاَّ مِن عِندِ اللّه، والسُّلُطاتُ القائِمة هو الَّذي أَقامَها”. هذا النص يشكل الأساس اللاهوتي للطاعة للحكومة والقانون.
–الولاء للوطن في الفكر المسيحي: في المسيحية، الولاء للوطن ليس متعارضًا مع الولاء للدين. يتّم تفسير الولاء للدولة والقانون في إطار الأخلاق المسيحية القائمة على المحبة والسلام والعدل. كما أن المسيحيين يعتبرون أنفسهم جزءًا من مملكة الله الروحية، إلا أنهم مطالبون بالعمل من أجل الخير العام في مجتمعاتهم الوطنية.
–القانون الوضعي والقانون الإلهي: المسيحية لا تتضمّن نظامًا قانونيًا مشابهًا للشريعة الإسلامية، بل تترك القوانين للدولة لتشريعها، بشرط ألا تتعارض مع المبادئ الأخلاقية الأساسية في الكتاب المقدّس. يعتبر المسيحيون أن القانون الوضعي شرعي إذا كان يعزّز الخير والعدالة، بينما يمكن رفض القوانين التي تتعارض مع المبادئ المسيحية الأساسية.
–المقاومة المدنية والعدالة: في بعض الأحيان، قد تكون هناك حاجة لمقاومة القوانين الظالمة من منظور مسيحي. حركة اللاعنف والمقاومة المدنية التي قادتها شخصيات مثل مارتن لوثر كينغ تعتمد على مبادئ المسيحية في مواجهة الظلم والفساد بطريقة سلمية. الطاعة العمياء ليست واجبة في المسيحية إذا كانت القوانين غير عادلة.
- – مقارنة بين الإسلام والمسيحية في مفهوم الولاء للدولة والقانون
-الولاء للدين مقابل الولاء للدولة: في الإسلام، الولاء للدين يأتي أولاً ثم يأتي الولاء للدولة بشرط أن تتفّق مع الشريعة. في المسيحية، الولاء للدين والدولة يمكن أن يتعايشا بشرط ألا تتعارض قوانين الدولة مع تعاليم المسيح.
-النظام القانوني: الإسلام يقدّم نظامًا قانونيًا متكاملاً (الشريعة) يتعيّن على الدولة والمجتمع الالتزام به. المسيحية تترك التشريعات للدولة بشرط أن تتوافق مع المبادئ الأخلاقية المسيحية.
-المرونة في الطاعة: في الإسلام، الطاعة للحاكم مشروطة بتحقيق العدالة والشريعة، وفي حالات الظلم يمكن رفض الطاعة. في المسيحية، الطاعة للقوانين واجبة بشرط عدم التعارض مع تعاليم الإنجيل، وهناك مجال واسع للمقاومة المدنية ضد الظلم.
الخاتمة
الولاء للدولة والقانون في المسيحية والإسلام يتأثر بتعاليم دينية مختلفة، لكنه يشترك في العديد من الأهداف، مثل تحقيق العدالة والاستقرار الاجتماعي. الإسلام يضع الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع، بينما تعتمد المسيحية على المبادئ الأخلاقية في تقييم القوانين الوضعية. في النهاية، يدعو كل من الإسلام والمسيحية إلى طاعة القانون والسلطات الحاكمة بشرط أن تكون تلك السلطات عادلة وتحقّق الخير العام.