د. سحر ادلبي (إلى اليسار) ود. غالب خلايلي (إلى اليمين) ود. أياد الشطّي وزير الصحة السوري الأسبق
قد لا يعرف كثيرون من خارج سورية د. سحر ادلبي، خبيرة التغذية واستشارية أمراض الغدد الصُمّ والسكري عند الأطفال. ولكن من يُمارس الطبّ في الدول العربية، خصوصاً طبّ الأطفال، فلا بدّ أن يكون قد عَرِف الكثير عنها أو التقاها في مؤتمر أو قرأ لها كتاباً أو اطلع على دراسة من دراساتها.
د. غالب خلايلي، الإختصاصي في طب الأطفال والتي كانت د. سحر إحدى معلماته في الدراسات العليا (1984-1988) في قسم الأمراض العامة في مستشفى الأطفال، التقاها قبل أيام، وأجرى معها حواراً استعادا فيه بعض ذكريات الحقبة الماضية وتطرقا فيه الى مواضيع شتّى من صلب اختصاصهما، بينها ما يتعلق برأيها الخاص في بعض ما تواجهه سورية، خاصة بعد الزلزال الأخير.
والدكتورة سحر إدلبي طبيبة أطفال معروفة في دمشق وسورية، وهي إحدى الخرّيجات المتميّزات في الدفعة التاسعة من طلاب الدراسات العليا )أوائل 1983) التي ضمّت تسعةَ عشرَ خريجاً وخريجةً. مارست عملها التعليمي ( لطلاب الطب والدراسات العليا) في مستشفى الأطفال الجامعي بدمشق، كما مارست طب الأطفال (العام، وأمراض الغدد الصُّمّ والسكري) في عيادتها في حضن جبل قاسيون، وعملت مع اليونيسف مستشارة في طب الأطفال والتغذية، كما شغلت منصب الأمين العام لجمعية أطباء الأطفال السورية بين عامي (2008- 2011) وفي الدورة الحالية.
في ما يلي نص الحوار..
س: سأعود بكِ إلى ذكريات الصِّبا في مدرسة ساطع الحصري (بين 1970 و1973) حيث درستِ في المرحلة الثانوية. هل يعني لكِ اسم ساطع الحصري شيئاً؟ وماذا تخبريننا عن تلك المرحلة الحسّاسة من عمر الفتاة، وعن شخصيات معلماتك؟ أجابت:
ج: ساطع الحصري هو مُفكّر وكاتب سوري من حلب، كان أحد رموز القومية العربية في العصر الحديث. أسّس وزارة المعارف السورية عام 1919، ووضع المناهج التربوية في سورية والعراق، وكان مستشاراً لدى جامعة الدول العربية. ولقد قضيتُ بهذه الدراسة أحلى أيام حياتي، حيث التعليم بأساليب شيقة وحديثة، وحيث الفعاليات العلمية والفنية والرياضية والاجتماعية. ضمّت المدرسة أفضل مدرسّي دمشق ومدرّساتها، في تلك المرحلة، وما زلتُ أذكر مدرّبة الفتوة عليّة خماش التي نمّت عندي روح الانضباط والنظام، كذلك مدرّسة الرياضيات السيدة حاج إبراهيم التي أسّست لديّ التفكير العلمي والاعتماد على التعليل والاستنتاج، فضلاً عن مدرّسة العلوم الطبيعية الآنسة نوال حتاحت التي كان لها الفضل الأكبر بتعلّقي بالفيزيولوجيا وأسرار جسم الانسان.
س: ما الذي حبّبك إلى الطب، ثم إلى طب الأطفال؟
ج:بصراحة، دخولي الطب كان نتيجة حصولي على معدّل عالٍ، وتشجيع عائلتي. فقد كنت حائرة بين اختيار الطب أو الهندسة، ورجّحت كفة الطب لأنه يتناسب مع شخصيتي أكثر. أما اختيار طب الأطفال فكان خياري الأول لأنه الاختصاص الأقرب إلى نفسي.
س: ماذا كان موضوع رسالة تخرّجك؟
ج: كان دراسة عن الإنتانات في شعبة الوليد والخديج بمشفى الأطفال الجامعي، بإشراف أ.د. منذر شيخ الحدادين، وحول أهم الإنتانات المصادَفة بشعبة الوليد، والجراثيم المسببة لها، وحساسيتها للصادّات.

س: ما رأيك بالبحث العلمي في بلادنا، هل يستوفي شروطَه المثلى؟ وهل يقدّم فائدة للمجتمع؟
ج: ما زال البحث العلمي ضعيفاً، مع وجود بعض المبادرات الفردية، خاصة من جيل الأطباء الشباب، ولكن للأسف لا تنشر الأبحاث على مدىً واسع للاستفادة منها.
س: في سيرتك الذاتية أنك التحقت عقب تخرّجك في سلك التعليم الطبي. كيف تصفين تجربتك في تعليم زملاء مقاربين في العمر، وفي العمل مع جيل الأساتذة الكبار الذين كانوا للتو أساتذة لك؟
ج: كانت تجربة فريدة فيها الكثير من التحدّي لإثبات الذات، مما دفعني لمتابعة كل جديد في طب الأطفال، لأقدّم الفائدة العلمية لأطباء الدراسات. اعتمدتُ على مناقشة حالات المرضى، خاصةً الصعبة، مع الأطباء لتحفيزهم على القراءة والمتابعة، ولما كنتُ على دراية بمواقف أطباء الدراسات العليا من المشرفين والأساتذة، كنت بالنسبة لهم زميلة وصديقة قبل أن أكون طبيبة مشرفة. وقد استفدتُ من تواجدي مع جيل الأساتذة الرواد، واكتسبت ثقتهم، وتعلمت منهم، وما زلت أكنّ لهم كل احترام وتقدير، وشرّفني أنهم كانوا يطلبون مني التواجد بعياداتهم أثناء سفرهم.
س: تفتخر سورية بأنها الدولة الوحيدة التي ابتدأت الطب باللغة العربية وتابعت مسيرتها به، منذ أيام العثمانيين فالفرنسيين (ونذكر فضل كثيرين، منهم أ. رضا سعيد مؤسس الجامعة) وحتى الاستقلال، مروراً بسادة أفاضل كثر (ونذكر أ. حسني سبح، أ. عدنان تكريتي، أ. إبراهيم حقي، والقائمة تطول). كيف تعبّرين عن هذا التراث العريق، فيما يخجل كثيرون بلغتهم الأم، أو يطعّمون لسانهم العربي، الذي لا يكون سليماً أحياناً، بكلمات أجنبية؟
ج: أفتخر بأنني درست الطبّ باللغة العربية، وكنتُ أقدّم محاضراتي بها في عدة مؤتمرات لأطباء الأطفال العرب في الأردن والإمارات ومصر ولبنان، كما ساعدتني دراستي بالعربية على ترجمة الكثير من الأبحاث والدراسات، وخاصة عندما عملت بالمنظمات الدولية، ولكن لا بدّ من إتقان الطبيب للغةٍ أجنبية ليتمكّن من المشاركة بالمؤتمرات العالمية، ومتابعة التطور الطبي السريع.
س: تجربة الدراسات العليا تجربة متميزّة وقديمة (نسبياً) في سورية، وخرّجت أجيالا مهمة في الاختصاصات كافة تقريباً. لماذا يرى بعضهم نفسه أكثر تميزّاً عندما يسافر إلى دولة أجنبية للدراسة فيها؟
ج: ربما في الجامعات الأجنبية يكون نظام التدريس أحدث، والقيام بالأبحاث والدراسات متاح بشكل أكبر، ولكن يجب ألا ننسى تفوّق طلابنا خريجي الدراسات العليا، سواء أكانوا يعملون في سورية أم في البلاد العربية أم الأجنبية.
س: من هو الأستاذ أو الأساتذة الأكثر تأثيراً بك في مسيرتك الطبية؟ ولماذا؟
ج: من أساتذة كلية الطب كنت متأثرة بالأستاذ الدكتور محمد إياد الشطي (التشريح المرضي)، والأستاذ الدكتور عبد الحي عباس (الأنف والأذن والحنجرة)، والأستاذ الدكتور وسيم شورى (أمراض الهضم)، والأستاذ الدكتور جوزيف صايغ (أمراض الغدد والكلى)، أما من أساتذة طب الأطفال فقد تأثرت بالأستاذ الدكتور سهيل بدورة، والأساتذة: رشاد العنبري ومحمد زياد شويكي وهاني مرتضى ومنذر شيخ الحدادين.
س: تميزتِ بالتواضع مع أنك قمت بأدوار مهمّة في البحث والتعليم ومداواة الأطفال والعمل مع اليونسيف. أليس التواضع صفة محبّبة؟ ولماذا يتكبّر بعض الناس على زملائهم ومجتمعهم؟
ج: من المؤكد بأن التواضع صفة محبّبة خاصة لطبيب الأطفال، وأنا أحب أن أكون طبيعية وعفوية مع الجميع، وقريبة من زملائي وطلابي وحتى مرضاي، مع الاحتفاظ بثقتي بنفسي. أما لماذا يتكبر بعض الناس على زملائهم فهم أعلم بالأسباب.
س: لديكِ بحث عام 2012 بعنوان (أهمية الإرضاع الوالدي في سورية). بالتأكيد ذلك مهم لكل أم، لكن كيف كان سلوك الأمهات في دراستك، وهل تغير سلوكهن خلال العقد الماضي؟
ج: الحقيقة أن أهم أسباب عزوف الأمهات عن الرضاعة الطبيعية هو العمل خارج المنزل والاعتقاد خطأً بأن الطفل لا يزداد وزنه، وقد قمنا بورشات عمل كثيرة للعاملين الصحيين وللأمهات للترويج للرضاعة الطبيعية، ولكن للأسف لم تتحسّن نسبة الرضاعة الطبيعية بسورية كثيرا، فالموضوع يحتاج لتضافر جهود جهات متعددة والاستمرار بالترويج للرضاعة الطبيعية.
س: شاركتِ بدراسة عن التقزّم (سوء التغذية المزمن) في سورية 2014، هل هذه حالة سائدة؟ وما أسبابها؟
ج: أهم أسباب التقزم في سورية هو الفقر والجهل والعادات الغذائية السيئة، خاصة عند الرضع وصغار الأطفال، مثل عدم تناول الأغذية الغنية بالبروتينات والمعادن والفيتامينات، ويكاد يكون سوء التغذية المزمن أهم سبب لقصر القامة عند الأطفال في سورية، وقد ازدادت هذه الحالات بعد سنيّ الحرب الطويلة.

س: في دراستكِ “أثر عمالة الأطفال على الصحة في سورية 2018″، ما النتائج المهمة التي توصلت إليها؟
ج: أهم النتائج التي تنجم عن عمالة الأطفال هي: الاختلاطات الصحية، والاضطرابات النفسية والسلوكية والانحراف وعدم التعليم.
س: في دراستكِ “هشاشة العظام عند الأطفال والمراهقين المصابين بأمراض مزمنة 2019” ما هي أهم أسباب هشاشة العظام عند هؤلاء؟
ج: أهمّ سبب لهشاشة العظام عند الأطفال هي الأمراض الهضمية المزمنة غير المشخصة أو غير المعالجة، وسوء التغذية، إضافة لاستخدام الستيروئيدات القشرية (الكورتيزون) لعلاج بعض الأمراض لفترات طويلة، وحالات الشلل الدماغي والأمراض العصبية والعضلية التي تُقعِد المصابين بها.
س: هل الداء السكّري عند الأطفال شائع في سورية؟ وما هي أهم انطباعاتك عن علاجه؟
ج: تزداد نسبة حدوث الداء السكري من النمط الأول في كل بلاد العالم ومنها سورية. وللأسف فمعظم حالات الداء السكري عندنا تشخّص متأخرة عند حدوث الحُماض السكّري الخلّوني Diabetic Ketoacidosis كتظاهرة أولى كاشفة للمرض، بسبب عدم انتباه الأهل والطبيب للأعراض والعلامات كالسُّهاف (العطش الشديد) والبوال وتناقص الوزن. ونحن نجد صعوبة شديدة كي يتقبل الأهل العلاج بحقن الانسولين المتكّررة، ومعايرة السكر عدة مرات باليوم، وتقبّل النظام الغذائي.
س: تفرّق عدد كبير الزملاء والزميلات في ديار الأرض، ومنهم من هاجر نهائياً في وقت مبكّر، أو رحل مضطراً عقب ذلك، وبقيت أنت صامدةً في دمشق الفيحاء رغم صعوبة الظروف. كيف تصفين تمسّكك بالوطن؟ وماذا تقولين لمن تركوا بلادهم؟
ج: أنا بقيت في بلدي باختياري رغم الفرص المتعددة التي جاءتني، والسبب يعود لتعلّقي بعائلتي، وعدم رغبتي بأن أكون “مواطناً غريباً أو درجة ثانية” بأي بلد آخر أعمل به. والحمد لله، توفّقت بعملي العام والخاص. أقول لمن تغرّبوا: تذكّروا سورية ومن فيها، وقدّموا المساعدة الممكنة لأهلكم ولبلدكم خاصة في هذه الأوقات.
س: أثرت الحرب، ثم جائحة كوفيد 19، وأخيراً الزلزال، على كل مناحي الحياة، لاسيما الاقتصادية والطبية. هل أدى ذلك إلى ظهور أمراض لم نرَها من قبل، أو فاقمت ما كان شائعاً؟
ج: للأسف زادت حالات سوء التغذية وأعواز الفيتامينات والأمراض النفسية، وتفاقمت الأمراض المزمنة لعدم توفر الأدوية.
س: دمّرت الحرب في سورية (منذ 2011) أجزاء مهمة من البنية التحتية، وعطّلت الاقتصاد، وهجّرت الكفاءات (التي راح عدد منها ضحايا للحرب). هل ترين بارقة أمل في الخروج من النفق المظلم؟
ج: نعيش على الأمل.
س: اتجه العالم بعد عصر كوفيد إلى ما يسمّى (الطب عن بُعد)، وغالى بعضهم في هذا الأمر. هل يعوض اتصال هاتفي أو عبر الشابكة (النت) عن رؤية المريض؟
ج: أنا غير مقتنعة بالطب عن بُعد، فما زلت من أنصار الفحص السريري الكامل للمريض، فالعين السريرية الخبيرة يُمكن أن تشخّص الحالة حتى قبل طلب الفحوص المخبرية، ويبقى الطب عن بُعد للتثقيف الطبي والوقاية من الأمراض.
س: للطُّب اليوم، مع الأسف، صفة تجارية بعيدة عن الإنسانية، تشمل معظم الفروع، ونخصّ التجميلية منها (جلدية، أسنان، وغيرها). كيف تصفين هذه الظاهرة؟
ج: هذا لم يعد طُبّاً، بل تجارة، فرغم أن الطب مهنة تسمح لممارسها أن يعيش حياة كريمة، لكنه لن يصبح من الأغنياء، وأصحاب هذه الظاهرة يرغبون في أن يصبحوا أغنياء، مستفيدين من رواج هذه العمليات.

س: من زمان، كانوا يقولون عن مهنة الطب إنها مهنة (قص الذهب). هل كان هذا صحيحاً في الماضي والحاضر؟ وأيهما أهم: غنى النفس أم المال؟
ج: أعتقد بأن وضع الأطباء المادي أيام زمان كان أفضل من وضعنا الحالي، والأسباب متعددة، منها زيادة عدد الأطباء وتعدد الاختصاصات وغيرها. أعتقد من يستطِعْ تحقيق غنى النفس ويعِشْ مرتاحاً مادياً يكنْ قد حقّق المعادلة الصعبة.
س: ماذا تنصحين أولئك الذين يسعون اليوم إلى دراسة الطب لسبب مادي؟
ج: أنصحهم باختيار مهنة أخرى.
س: في آخر مؤتمر حضرتِه في الهند، ماذا كان عنوان المؤتمر؟ وما انطباعك عن التقدّم الطبي في الهند؟
ج: كان العنوان “رعاية صحية عالية الجودة لكل طفل في كل مكان”. تفاجأتُ بالتقدم الطبي الكبير في كل الاختصاصات، وتصنيع الأدوية المحلية، ولفت نظري تكريمهم وإجلالهم واحترامهم الكبير لأطباء الأطفال الأوائل.
س: علّمتنا مدارسنا منذ وقت مبكر حب العربية وشعراءها على مدى العصور، وقد علمتُ أنك تحبين من الشعراء نزار قباني ومحمود درويش. ماذا يشدّك في شعر كلّ منهما؟
ج: في شعر نزار حبّ دمشق وحب المرأة، وفي شعر درويش حبّ الأرض والتعلّق بها والثورة.
س: لماذا تفضّلين اللون الأزرق، ما هي حكمتك المفضلة؟
ج: اللون الزرق هو لون السماء والبحر فيوحي لي بالصفاء. أما حكمتي المفضلة فهي “ليست الألقاب هي التي تكسب المجد بل الناس من يُكسبون الألقاب مجداً”.