داخل أحد المولات
د. غالب خلايلي
إذا كانت “جنة الأطفال منازلهم“، كما تعارف على ذلك أهل حفلات الأعراس، تخلّصاً من “ضوضاء فوضوية” يبثُّها الأطفال، فإني أرى العبارةَ ذاتَها تنطبق على الشيوخ، الذين يفضّلون الخلود إلى الراحة والهدوء، بعيداً عن “ضوضاء نظامية” يبثّها كبارٌ (استخفّهم الطرب بأصوات تخزع الآذان) في الأعراس، وفي أماكن كثيرة، لا سيما في الطرق المعقّدة المزدحمة التي سأخصّ حديثي عنها، تاركاً الساحة الأولى (ولي عليها كثيرٌ من الملاحظات)، إلى ساحة تسبّب لي حالة من الهلع والاضطراب.
وأول مشهدٍ مضطرب شاهدتُه كان عام 1988 في أوسلو، عاصمة النرويج الجبّارة، التي تغصّ بالمرور المزدحم، والعمارات الشاهقة، والطرق المعقّدة التي لم أعرف ضرورتها في بلد ضخم جداً عدد سكانه بضعة ملايين، ومع ذلك تحتاج إلى خريطة معقّدة في كتاب يزدحم بالتفاصيل (قبل اختراع غوغل وعدائله) كي تسير بأمانٍ، بطنك مرتاح لا أشواك تنشب فيه، وقلبك ينبض مطمئناً، فلا يهبط في سقوط حرّ بلا قاع إذا دخلت في الطريق الخطأ، أو يشتعل دماغك الذي كان آمناً في غياب التحدّيات، وهل يوجد تحدٍّ أكبرُ من أن تضيع في طريق مزدحم، لا تعرف لنهايته سبيلا، خاصة في الليل، فإذا أنتَ نهبةٌ لمشاعر القلق والاضطراب التي تنعكس على أعضائك كلها؟
مشهد آخر مريع من الزحام شهدناه فجر يوم من تشرين الثاني 2008، عندما كنت أوصل زوجتي إلى مطار الشارقة، مسارعةً إلى أبيها المريض في الشام، فإذا نحن الواجِمَين عالقانِ في زحمةٍ لا توصف قبل شروق الشمس! هل رأى أحدكم من قبل غابة شاحنات نشطة في مثل هذا الوقت؟ كانت غابة هائلة منها تسدّ الطريق نحو المطار، وما نجونا من (العلقة) إلا وأرواحنا في حناجرنا، لنلحق بالطائرة في اللحظات الأخيرة. وتكرّر المشهد في المكان ذاته إنما مساء، في تشرين 2021، ونحن في طريقنا إلى جامعة الشارقة، كي نحضر حفل تكريم أصغر أولادنا، وزاد وبال الأمر الدعثُ وألمُ العضلات في مرض وخيم أيام كوفيد، ولكننا آثرنا مؤازرة الولد في حفلة صفيرٍ وصياحٍ من قبل أصدقاء المحتفى بهم وأهليهم، وفي زحام عجيب.
هذا ما شعرتُ به ليلة البارحة عندما ضعتُ في المدينة المتلألئة التي لا تنام دبي (في زيارة ودية إلى صديق عزيز أبلّ من المرض، وصديق آخر كبيرٍ)، على الرغم من وجود دليلنا الهاتفي (أنا وزوجتي، الماهرة هي أيضاً بالطرق والقيادة)، والذي يعلن قبل وقتٍ كافٍ (للعارف الواثق) في أي اتجاه يسير، وإلى أية حارة يتحرك، ومن أي مخرج يخرج، لكنه للمضطرب (خاصة مع تباطؤ الدليل عن الكلام أو صمته عند النقطة التي يجب أن تأخذ القرار بها) دمارٌ شامل، تضطرب معه الأعصاب، بل تكاد تفلت في طريق غاصة بالسيارات حتى بعد منتصف الليل، والأدهى أن أكثرها مسرع، وبعض سائقيها (واثق السرعة! يمشي متهوّراً) بسيارته الضخمة خلفك، وكأنه صاروخ كروز، فيكاد يزعزك من مكانك، ولو ارتجفت يدك والمِقْوَد بوصةً نحو اليسار، لأخذك (الأخ) في طريقه، بل ربما خطفك إلى غير عالم.
هل قدتَ سيارتك يوماً ما في جوّ عاصف ماطر أو في ضباب شديد؟ مرّةً قدتُ سيارةَ المستشفى في ذات مؤتمر في خورفكان الجميلة (تتبع الشارقة على خليج عمان، وتجاور الفجيرة) قبل ثلاثة عقود، فإذا بالمطر سيلٌ جارفٌ فوق سيارتنا، وكأننا تحت شلالات نياجرا، فصرت ومرافقيَّ الهنديين الرزينين (أحدهما رئيسي في العمل، والثاني أستاذ في كلية الطب) في اضطراب عظيم، خاصة وأن المسّاحات باتت بلا جدوى. ومرةً في الطريق من أبو ظبي العامرة (المدينة التي بناها شاعر كما أشعر دوماً) إلى العين، فإذا بضباب مرعب نغرق فيه يهدّد كياننا. هي المشاعر الصاخبة المتوتّرة ذاتها، التي تجعلك ترتعد خوفاً وقلبك بين ركبتيك، ومفاصلك تتفكّك فيما ترتخي العضلات، فتتمنى لو يسحبك وقتها ماردُ الفانوس السحري (شبيك لبيك) إلى فراشك، لكنك لا تجد بصيص ضوء سوى أن تستسلم للقدر، حتى يخلّصك الله مما أنت فيه، ويرسل إليك ملئكة الرحمة تهبط عليك بالسكينة في طريق مضاء واضح لا حماقة مرورية فيه.

آه كم ضعتُ في اللحظات الحاسمة الأخيرة في دبي، في زحمة إشارات كثيرةٍ تتصارع في دماغك، ولافتات ومفارق وجسور، وفي أوقات صعبة، حتى بتُّ أخشى زيارة أماكن لا أعرفها (ما لم يقُدْني عارفٌ واثقٌ مثل أحد أولادي إذا توفّر)، رغم جمال أشياء كثيرة فيها، مبنىً ومعنىً، ومن ذلك الأنشطة الطبية الضخمة التي تختارها (الشركات، وأهل التجارة وغيرهم في أنشطة أخرى) أكثر من غيرها، كأنّ من لا يجد موطئ قدم هناك، يعدّ نفسه خاسراً في الدنيا والآخرة.
ودبي الزاهرة، لم تكن قبل عام 2000 على ما هي عليه اليوم. كانت أبسطَ بما لا يقاس، وكنت تعرّفتُ إليها في عقد ونيف، فعرفتُها خيراً من مدينتي الهادئة ذات الحدائق الغناء (العين). كانت مدينة سهلةً يسيرةً، عدا سوقها القديم (سوق نايف وجواره) الذي كان يعسر أن تجدَ فيه مكاناً تركن به سيارتك، لكثرة زوّراه من كل الأمم، وما فيه من بضائع مختلفة رخيصة إلى حد ما، فإذا بالإمارة فجأةً تتوسّع أضعاف ما كانت عليه، وفي كل اتجاه فارغ من البناء، لتجدَها متغيرةً جذرياً بين زيارة قريبة وأخرى، حتى أحاطت المدن الصغيرة بدبي القديمة كما يحيط السوار بالمعصم، وكل مدينة ذات طابع عصري خاص، تودّ لو أنك تجلس في واحدة منها – لاسيما في خريف البلاد وشتائها المعتدل – تتشمّس وتتسلى، لولا أن ذلك يتطلب عملاً حثيثاً ناجحاً مدرّاً وركضاً متواصلاً منهكاً، بل ثروة أحياناً، لقسوة صيفها وغلاء بيوتها (والسلع بشكل عام)، تلك التي قد يتضاعف سعرها بين شهر وآخر، أو تهبط دون رأس المال بين أزمة عالمية وأخرى، هذا عدا عمارات شاهقة فخمةٍ أكثر من الخيال (وبرج خليفة أشهرها اليوم في العالم)، ومع ذلك يصعب أن تجدَ أنت الغريب مكاناً تركن سيارتك فيه، حتى بأسعار غير قليلة تبعاً للمكان، خاصة إذا لم تقرأ أو تتقصّ أنواع أماكن الاصطفاف وقوانينها الصارمة، ولن تعدم لجهلك (غشمنتك) مخالفة بخمسمئة درهم (نحو مئة وثلاثين دولاراً) عندما تضع سيارتك في بقعة ولو رملية محظورة.
لكن أنّى دخلت، في أبو ظبي ودبي، فندقاً أو مطعماً أو حتى محطة بترول (كازيّة) فسوف تسعد لجمال المكان ونظافته الفائقة والخدمة المثالية فيه، وسوف تستمتع كثيراً بالحدائق التي تزدحم أيام العطل، وكثير منها مأجور الدخول في دبي، ومع ذلك سوف تجد أمماً من كل الألسنة والألوان، تدفع لتتجاور بودّ واطمئنان، وتلعب ألعابَها أو تتناول أطعمتها وأشربتها الخاصة بها، أو تشوي، أو تشتري زادها من محلات ومتاجر تكاد تكون نسخاً متشابهة، إلا ما ندر، حيث تجد خصوصية ما لكل بلد، لاسيما في المعارض الكبيرة التي تتسابق إليها البلدان (القرية العالمية، إكسبو….).
ها قد وصلنا بعد ضياع نصف ساعة أو يزيد إلى المخرج الآمن الذي يوصلنا إلى العين في الطريق E66 الدولية الفسيحة ذات الحارات الثلاث في اليمين (ومثلها في اليسار)، ومع ذلك بقي بعض الشك لكثرة التفرعات أول الطريق، مع أن هاتفنا كتب عبارة 127 كم أعلى الشاشة، دلالة على استقامة الطريق حتى البيت تقريباً. ولما صرنا في اطمئنان تام عقب جفاف الريق، هدأت الأعصاب بشربة ماء عذب، وما بقي سوى أن نحيدَ عن حارتنا بين خمس دقائق وأخرى لأولئك الذين لا يريدون أن يرفعوا أرجلهم عن دوّاسات البنزين، ولا أن يحيدوا عن حارة اليسار، ليزيدوا السرعة بعد تجاوز الرادار (وكم يلمع وراء مستهترٍ وآخر منهم)، فيما نعود إلى حارتنا لوجود من يكاد ينام في الحارة الوسطى.
كان شافياً أن أعود وزوجتي إلى الحديث، بعد وداع من سافر من أولادنا في اليومين الماضيين، في طريق حمدنا الله كثيراً أن الضباب لم يتذكره تلك الليلة، كما هو شائع أيام البرد. عدنا نراجع تفاصيل اللقاء الحميم الذي جمعنا – بعد طول غياب – وأصدقاء الطفولة الذين ما عادوا أطفالاً بل صاروا مثلنا أجداداً، وما عادت قلوبهم وقلوبنا، بمثل قوتها أيام الشباب، وإن كانت عامرة بالدفء والإيمان، ففي خضم الحياة نكبر ونتعب ونشيخ، ومن ثم نرغب في الخلود إلى (بيوتنا جناتنا) أكثر من أي شيء آخر، دون أن يغيب عن ضمائرنا كل من يعاني في هذا العالم.
العين في 13 كانون الثاني 2024