تقوم صناعة التأمين في جوهرها على مبدأ الثقة المتبادلة وحسن النية. ولكن هذه الثقة تتعرّض للاختبار باستمرار من خلال ممارسات الغش والاحتيال، وهي ظاهرة لا تقتصر على سوق معين، بل تمتد لتشمل كافة أسواق التأمين العالمية في أميركا وبريطانيا وأوروبا وسواها… ولفهم هذه المشكلة ومعالجتها، لا بد أولاً من تفكيكها وفهم أبعادها المختلفة.
بداية: هل هناك فرق بين الغش والاحتيال؟
الغش: هو مصطلح أوسع نطاقاً، ويتمثل في إخفاء الحقيقة أو تزيينها. (أكثر من مرة أشتريت “كرتون” طماطم، تكون الطبقة العلوية في غاية القوة والجمال، والطبقة الثانية تكون في غاية السوء).
في التأمين، قد يظهر هذا الغش عند إخفاء المؤمن له معلومات جوهرية عند طلب التأمين (مثل حالة صحية سابقة) للحصول على سعر أفضل أو موافقة على التغطية. إنه فعل يفتقر إلى النصح والشفافية. أما الاحتيال هو عملية منظمة ومخطط لها، تستخدم وسائل التدليس والخداع المتعمد بهدف الاستيلاء على أموال شركة التأمين بغير وجه حق. يتجاوز الاحتيال مجرد إخفاء الحقيقة ليشمل أفعالاً إيجابية مثل تزوير المستندات، أو اختلاق حوادث وهمية، أو المبالغة الكبيرة في قيمة الخسائر.
لذا، من غير العدل أن ننظر إلى هذه المشكلة على أنها محلية بحتة. فالغش والاحتيال متجذرّان في قطاع التأمين على مستوى العالم، حتى في الأسواق الأكثر نضجًا. فعلى سبيل المثال، كشف تقرير صادر عن رابطة شركات التأمين البريطانية (ABI) عن أرقام مقلقة لعام 2023م. فقد تبيّن أن قيمة الاحتيال المكتشف يصل الى 1.1 مليار جنيه إسترليني (حوالي 5 مليارات ريال سعودي)، وعدد المطالبات الاحتيالية: 84,400 مطالبة، وأن تأمين السيارات يشكل 54% من إجمالي الحالات.
هذه الأرقام تضع المشكلة في سياقها الصحيح؛ إنها تحدٍ عالمي يتطلب دراسة موضوعية ووضع حلول فعالة بدلاً من القسوة على الذات. ولكن ما الذي يدفع المتعاملين في سوق التأمين الى الغش والاحتيال؟
يبدو لي أن هناك دوافع نفسية واجتماعية واقتصادية:
-أولاً، شعور المحتال بأنه يتعامل مع “كيان” ضخم ومجهول (شركة التأمين) وليس مع “شخص” بعينه. هذا الغياب للعلاقة الإنسانية المباشرة يُضعف الحاجز الأخلاقي والنفسي الذي قد يمنعه من محاولة الاحتيال.
ثانياً، يُبرر البعض فعلته انطلاقاً من اعتقاد بأن “شركات التأمين تحقق أرباحاً طائلة”، وأن الحصول على بضع ريالات إضافية منها هو مجرد استعادة لجزء صغير من تلك الأرباح، متجاهلاً الأثر الأوسع لفعله.
-ثالثاً، في بعض الحالات، قد يساهم موظفون غير راضين أو غير مدربين في تمرير بعض حالات الغش، إما عن طريق الإهمال أو حتى عبر تقديم النصح للمحتالين حول كيفية الالتفاف على الأنظمة بحكم معرفتهم الفنية بالصيغ والأساليب التي تُسوّى بها المطالبات.
قد يعتقد أو يُبرر من يقوم بعمليات الغش والاحتيال بأنه يضر شركة التأمين فقط، لكن الحقيقة أن أثر فعلته أعمق وأشمل بكثير:
-أولها، أن شركة التأمين هي في الأساس “مدير لصندوق مالي” يساهم فيه آلاف المؤمن لهم بأقساطهم. عندما يحتال شخص ما، فهو في الحقيقة يسرق من أموال جميع المشتركين في هذا الصندوق، بما في ذلك أفراد أسرته وأصدقائه.
ثانيها، تعتمد أقساط التأمين على معادلة إحصائية دقيقة (نظرية الأعداد الكبيرة). عندما ترتفع نسبة المطالبات الاحتيالية، تختل هذه المعادلة وتضطر شركات التأمين لرفع أسعار الأقساط على جميع العملاء لتعويض الخسائر، ما يعني أن الأمناء يدفعون ثمن خداع المحتالين.
-ثالثها، الخسائر المستمرة قد تؤدي إلى إفلاس شركات التأمين. وهذا لا يعني فقط خروج لاعب من السوق ومن ثم تقليل عدد المنافسين (ما قد يرفع الأسعار أكثر)، بل يعني أيضاً خسارة وظائف الموظفين، وتضرر الاستثمارات التي تخضها هذه الشركات في الاقتصاد الوطني.
الحل لا يكمن في مسار واحد، بل يتطلبّ تضافر الجهود من جميع الأطراف. لذا، من الضروري، وضع قوانين، وتشريعات صارمة، ورادعة. بالإضافة إلى ذلك، يجب تبني التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات للكشف عن أنماط الاحتيال وتحديد المطالبات المشبوهة بشكل استباقي.
يجب على شركات التأمين والوسطاء الاستثمار في برامج توعوية حقيقية تتجاوز الدعاية والبهرجة الإعلامية. يجب أن يفهم المؤمّن له أن الاحتيال ليس “شطارة”، بل هو فعل يؤذي الكثير من الناس من خلال رفع قسط التأمين، التي أصبحت عبئاً على الكثير من مشتريي الوثائق.
كذلك، على قطاع التأمين (شركات، وسطاء، ومقدمي خدمات)، أن يتحمّل مسؤوليته في تطوير السوق، وتدريب الموظفين، وتبسيط الإجراءات بشفافية، وبناء علاقة ثقة حقيقية مع العملاء تجعل من الغش والاحتيال سلوكًا منبوذًا وغير مقبول.
خلاصة القول: هي أن ممارسات الغش والاحتيال يقوضّان مبدأ الثقة الذي يقوم عليه قطاع التأمين، وهما ظاهرة عالمية وليست محلية. التميّز بين الغش، وهو إخفاء للحقيقة، بينما الاحتيال هو عملية خداع منظمة ومخطط لها بهدف الاستيلاء على الأموال. وتشمل أسباب عمليات الغش والاحتيال العوامل النفسية (التعامل مع كيان غير شخصي)، والتبريرات المالية (شركات التأمين غنية)، وضعف الرقابة الداخلية أحيانًا. وهذه الممارسات لها أثارها السلبية لأن المحتال لا يسرق من الشركة، بل من جميع المؤمن لهم، مما يؤدي إلى ارتفاع أقساط التأمين على الجميع، وقد يسبب إفلاس الشركات وإضعاف الاقتصاد. ولهذا فنحن لن نتوهم ونقول بأن الحل في متناول اليد، ولكن يجب أن تتضافر الجهود عبر ثلاثة محاور: توعية حقيقية للمجتمع، وضع أنظمة وقوانين رادعة مدعومة بالتكنولوجيا، وتحمل قطاع التأمين مسؤوليته في تطوير السوق.
هامش:
- مستشار التأمين السعودي واستراتيجي في تحليل إدارة المخاطر ” عيد عبد الله الناصر ” خبرة (40 عاماُ) بقطاع صناعة التأمين.