لبنانيون ضمن باخرة مهاجرة عبر البحر بحثاً عن مكان أفضل
د. الياس ميشال الشويري
سئل ونستون تشرشل مرة عن رأيه بالشعوب، فقال جملة تاريخية: “إذا مات الانكليز تموت السياسة، وإذا مات الروس يموت السلام، وإذا مات الأميركان يموت الغنى، وإذا مات الطليان يموت الإيمان، وإذا مات الفرنسيون يموت الذوق، وإذا مات الألمان تموت القوة، وإذا مات العرب تموت الخيانة”؛ كما هو حالنا مع المنظومة الخائنة التي باعت سيادة لبنان لقبضة الخارج.
بالنسبة لتشرشل، هناك سبعة اشياء تدمّر الانسان، من بينها: السياسة بلا مبادىء؛ كما هو حالنا مع منظومة الأوغاد التي تتحكّم بمفاصل البلد وتتعاطى السياسة من الباب الرخيص، منظومة المعاقين فكراً، وثقافة، ورؤى، وخيالاً … ووطنية؛ منظومة الفساد التي شرّعت ابواب لبنان امام النازحين السوريين دون تنظيمٍ او قيود، وسطت على اموال المودعين، وفشلت لغاية تاريخه في وضع خطة تعافٍ إقتصادية ومالية.
حقاّ، اللبنانيون يطمحون الى طبقة سياسية لا تنشغل بمعارك السلطة التي عفا عليها الزمن، بل تشمّر عن ساعدَيْها لإحراز تقدّم في قائمة الأولويات المحلية المعلقة، خاصة وأن لبنان بات بلداً يأكله الفساد، حتى يكاد لا يتبقى منه شيء لمواطنيه الشرفاء والكادحين، وانتشر حتى أصبح سياسة وثقافة وأسلوب حياة ترسّخ له الأحزاب، وتحميه قواعد اللعبة، في وقت يشهد المجتمع تراجعاً مستداماً في مستوى العيش والأمن، وضبابية المستقبل الذي قد يشهد انفجاراً، وكلنا أمل بحصول ذلك، لا يبقي ولا يذر على الطبقة الحاكمة الفاسدة والمفسدة، وكلابها السائبة في كل أرجاء الوطن وفي إداراته: من أمنية وقضائية وإدارية وإقتصادية وإجتماعية ومصرفية و…!
المحاصصة باب للفساد. ممّا لا شك فيه أن المحاصصة السياسية شكلّت باباً واسعاً لتفشي ظاهرة الفساد بسبب قدرتها على توفير حالة عرفية من الانسجام والتعادل في تحجيم دور الجهاز الرقابي، عن طريق إضعاف حوكمة نظام الدولة، عبر الأسلوب “المحاصصاتي” في التعاطي مع مراكز القرارات، إذ أباح هذا التشكيل السياسي التوفيقي الهداّم قدراً من الانسجام في اختراق القانون وانحراف المال العام في مسالك سوّغتها الحصانات المتبادلة.
دور الدويلة الموازية وتأثيراتها مع قوى المحاصصة السياسية في تسويغ التصرّف أو الهدر أو الاستيلاء على المال العام، هو الدور الأخطر الذي هدّد سلامة العقد الاجتماعي. فالدولة اليوم تعاني من قوى اللادولة التي يتحدّث عنها المثقفون اللبنانيون والمتخصصون في العلوم السلوكية، التي هي وسائل متشابكة من الأدوات التي نخرت في جسد الدولة ونهبت موازناتها لمصلحة قوى سياسية، واستولت على مدخرات وجنى عمر الناس في البنوك والمصارف، التي تحوّلت سوقاً للمضاربات وباتت واجهات للميليشيات والأحزاب الخارجة عن القانون، وشكلت المنفذ الرئيس للسيطرة على العملات الصعبة، والهيمنة على السوق والتجارة، وإدامة عجلة الفساد بوتيرة يومية.
الفساد “ثقافة“. الفساد في لبنان تحوّل من ظاهرة مرفوضة في ما مضى، في زمن رجالات الدولة الذين جعلوا من لبنان سويسرا الشرق، إلى ثقافة عامة وسلوك لقوى السلطة الجائرة والمتسلّطة، قوى السفلة والحثالة التي جعلت من لبنان حثالة الشرق. لقد عمقت هذه الثقافة الهدّامة طبيعة الهيمنة على كلّ مؤسسات الدولة وأثّرت فيها بشكل كبير. لذلك، لا يمكن النظر إلى الأحزاب الحاكمة إلا على أنها مساحة فساد حتى في برامجها الانتخابية، نيابية كانت أم بلدية، وهي صبغت جميع الدولة ومؤسساتها بالفساد! بالتالي، تحوّل الفساد بحكم هذه الرعاية من الأحزاب الخائنة والعميلة إلى دولة رديفة – مدججة بالسلاح والمنظرين وبمن يحميها – تتحكّم بكل المفاصل!
مسؤولية الفساد تتحملها كلّياً الأحزاب السياسية، على اعتبار أنها من كرّسته، خاصة في فترة ما بعد 2005؛ علماً أن استشراءها بعد ذلك التاريخ، جعل الطبقة السياسية الخانعة مسؤولة عن الانهيار الذي ضرب لبنان واللبنانيين، مع الإشارة إلى أن غالبية القوى والأحزاب السياسية متورطة بشكل فاضح في عمليات النهب وهدر المال العام، وتستحق على أفعالها الشنيعة … المقصلة أو الإعدام! في هذا الخصوص، لا يسعنا سوى القول أن الشعوب الخانعة لا تستحّق إلّا أن تعيش تحت سياط السفلة والحثالة من الظالمين!
مراحل الفساد بين الأفراد والقوى المجتمعية. الفساد في لبنان يندرج في مظهرَين رئيسَين: الأول هو “الفساد الأصغر”، يحدث على نطاق ضيق ضمن أطر اجتماعية قائمة، ونواميس حاكمة تبدأ عند موظّف الخدمة العامة في استخدام العلاقات الشخصية للحصول على منافع وأفضليات، وينتهي بقبول الهدايا وتقاضي الرشاوى؛ والثاني هو “الفساد الأكبر” الذي يحصل في أعلى الهرم الوظيفي الحكومي، وهو النوع الذي يستشري في النظم الشمولية أو في الأنظمة التي تقودها أحزاب عميلة، خائنة وخانعة.
بين هذا وذاك، نجد في ظاهرة الفساد مسمّى الفساد النظمي، وهو الأقرب في تفسير مظاهر الفساد المتفشية أو الوبائية في لبنان الناجمة بالأساس عن الفتك بالهيئات الرقابية ونفوذ الأحزاب وتقاسم السلطة فيما بينها؛ حتى أن الوزارة باتت عبارة عن دكان لهذا الحزب أو ذاك، يتم من خلاله تمويل الحزب المعني. لذلك، نجد أن الوزير الفاسد مسنود دائماً من حزبه!
الإدارة الواهنة. مهدت هذه الأحوال لشيوع مظاهر الفساد والرشوة في عموم تصرفات الموظفين الحكوميين منذ التسعينات، فانتشرت عملية الحصول على المكاسب الشخصية، من خلال أداء الوظيفة العامة، وتفشّي الفساد على الرغم من أن المجتمع كان يصفه بـ “السلوك غير المشرّف للموظف الحكومي”، لكنه وقع بيد أصحاب سلطة من حثالة الناس، مدعومين بالسلاح المتفلّت والميليشيات التي تمكنت من تأسيس ما يسمى بـ “اللادولة” المتحكمة بأداء الدولة؛ فاقترن ما هو سياسي “بالفساد، وبالقيام بكل ما يخالف قواعد السلوك الوظيفي”.
حقبة اللادولة. وبالتالي، أضحى المعيار، ابتداءً من التسعينات عامة و 2005 خاصة، ليس الوطن ولا العمل للدولة، بل بات المعيار هو العمل للطائفة والمذهب، وتعدى ذلك حتى في تقسيم الموازنة وغيرها من التفاصيل المالية، وتلاه الانتماء للحزب ثم العائلة. وبغياب المحاسبة وتدخل السلاح المتفلت وفرْض سيطرته وضعف القانون، أصبح العمل في الدولة اللبنانية كأنه عمل لمكسب خاص للأحزاب والأفراد ومَن يسمون بالرموز السياسية (لعنة الله على هكذا رموز)، وكأن دوائر الدولة أضحت ملكاً خاصاً لهؤلاء، بالتالي كل ما يأتي كموارد لهذه الدوائر من خلال الموازنة أو من خارجها، هو ملك خاص لهذه الأحزاب والطوائف والمذاهب.
نهاية عمر الدولة؟
إن لبنان، بعدما أمضى أكثر من مئة عام من عمر الدولة، وصل إلى المرحلة النهائية من عمره، على الرغم من أن عمره بالقياس إلى الدول الأخرى ليس كبيراً، وذلك بسبب عاملَين أساسيَين: أولهما تقسيم السلطة بين الطوائف والمذاهب، ما أوجد أمراء حرب من سفلة القوم يقتسمون الغنائم والسلطة والقوة، والعامل الثاني هو انتشار الفساد الذي أصبح ثقافة حقيقية نتيجة أن المواطن والموظف البسيط يرى أن المسؤول الأكبر فاسد، فأضحت ثقافة عامة! ويتطلب وقف ذلك، إعادة النظام الرئاسي، كما عهدناه في فترة ما قبل اتفاق الطائف (وليس بانتخاب دمية لتقوم بمهام الرئيس)، رسم سياسة حقيقية لمكافحة الفساد تشمل فرض قوة القانون، وتفعيل دور الجهات رقابية التي تكون لها القدرة القانونية والسلطة لتحاسب بشكل فاعل وعادل (وليس بشكل انتقائي) من يتوجّب ملاحقته!
لنتذكّر قول أبو الطيب المتنبّي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكـــارم.
وتكبر في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم.
ولكن، عذراً أبو الطيّب كون هذا القول لا ينطبق على المنظومة الحاكمة في لبنان التي يصّح فيها القول التالي:
على قدر اهل النصب تأتي المناصبُ
وتأتي على قدر الجيوب الرواتبُ
وتنبت في بيت الوزير ثمارها
وتنبت في بيت الفقير العناكبُ
على قدر أهل النصب تأتي المقالب
وعلى قدر أهل النهب تأتي المصاعب
ويكبر في عين اللئيم رخيصها
وتصغر في عين الكبير العجائب
ويسكن المسكين في نصف غرفة
وتُبنى القصور للخليلات والنسائب
ويأكل الوزير في أطباق من ذهب
وتُرمى للشعب الفقير عظام المآدب
ويصبح من كان بالأمس خائنًا
وليًّا حميمًا للأمير يصفّق
ويعلو صوت الجهالة في الآفاق جاهرًا
ويُرمى صوت الصواب بسمّ العقارب
ويُعطى المخنّث والخبيث من كل حاجة
ويُحرم ذوو الأخلاق من عيشٍ يناسب
ويُمسي الجاهل ذو مناعة
ويلمز ذو الحياء بسوء التأدّب
وترى النفاق وقد عظُم شأنه
ويُكبتُ صوت الحقّ من كل جانب
ويرخص العزيز دون جريمة
ويرقى الرويبضة إلى جاه ومنصب
أوليس هذا هو حالنا مع المنظومة الفاسدة التي عشنا معها سنوات خداعات، صُدّق فيها الكاذب وكُذّب فيها الصادق، وائتمن فيها الخائن وخوّن فيها الأمين، ونطق فيها الرويبضة (أي الرجل التافه الذي يتكلّم في الشأن العام). انظروا فقط إلى الأحداث والوقائع، واسمعوا إلى الإعلام وتابعوا لتروا الأهوال وانقلاب الموازين وتغيّر الأحوال على جميع المستويات في هذا اللبنان … لبنانهم النتن والقذر على شاكلتهم. بئس هذا الزمان حيث الصادق الأمين يقال عنه كاذب خائن، والكذاب الأفاك يقال عنه أمين صادق، والناصح المخلص يسجن ويهان ويدان، والعميل الخائن يصفّق له ويرفع على الأكتاف ويصان، والمؤمن التقي يُعتبر إرهابياً متخلّفاً، والفاجر الفاسق الشقي يصنّف بالإنسان الشريف والمواطن الصالح.
حقاً، إن لبنان بمجمله يشكو هذا الحال … ولست أنا فقط من أشكوه، أو بعض المخلصين، ولكن أصبح واقع الحال، كما قيل عنه:
ما أنا الشاكي ولكن أمة … أصبحت تشكو كما يشكو اليتامى
تبصــر الشر ولا تنكره … وعن المعــروف جبنا تتعـامى
وتداري كل أفــاك ولــو … بث في أبنائــها الــرأي الحــرامـا
وترجي من أعاديها الهدى … وتواليــهم قضــاء واحتــكــامـا
كم صفيق الوجه صفقنا له … وسفــيه قـــد جعــلنـــاه إمـامــا
وشريف القصد شهرنا به … وظــلمــناه اعـتــداء واتـهــامــا
إن الاختلال في الموازين، أدّى إلى أن يتصدّر المشهد السياسي والإداري والأمني والقضائي و… أناسٌ أراذل سفهاء لا قيمة ولا وزن لهم … وهو أمر طبيعي! إذا كُذّب الصادق وخَوّن الأمين، فلن يتصدّر إلا الكذاب الخؤون والأفاك الأثيم والرويبضة والسفعاء. وهذا باب واسع يبدأ من أصغر وظيفة إلى أكبر وظيفة في المجتمع، ومن أصغر موظف إلى أكبر مسؤول، حتى رأس الحكم في البلاد … مروراً بمديري الإدارات ورؤساء الأقسام ومن وراءهم. وهذه علامة أخرى من علامات الاختلال وعدم الاتزان، والظلم وعدم العدالة، والخيانة وعدم الأمانة، أن يتولّى الأمور من لا يُحسنها، ومن ليس لها بأهل؛ فتفسد الأحوال، وتختلط الأمور، وتكثر المظالم وتفسد الأحوال، وينتشر الفساد، ويستتبع ذلك مفاسد أخرى لا حصر لها.
في الختام، صدق تيودور هرتزل مؤسس “الحركة الصهيونية العالمية” والأب الروحي غير المنازع لدولة اسرائيل عندما قال: سنولّي عليهم سفلة قومهم حتى يأتي اليوم الذي تستقبل فيه الشعوب العربية جيش الدفاع الاسرائيلي بالورود والرياحين! مثال على ذلك ممارسات بعض أهل فلسطين في لبنان، وخصوصاً في جنوبه، التي جعلت بعض أهل الجنوب يستقبلون جيش الدفاع الاسرائيلي بالورود والأرز سنة 1982، تعبيرا دامياً منهم عن نقمتهم على ما كانوا يعانونه من ظلم وقهر ذوي القربى الفلسطينيين، المقيمين بين ظهرانيهم، وفي منازلهم، واراضيهم، معززين مكرمين كونهم اشقاء من جهة، وابناء قضية مقدسة عند اهل الجنوب من جهة ثانية. ولكن “الزيار يفتت الحجار”، كما يقول المثل الجنوبي، الذي حفظه جيداً هرتزل ونسيه العربان! إن ما تشهده الدول العربية بشكل عام، ولبنان بشكل خاص، هو الترجمة العملية لقول تيودور هرتزل. حقاً، اننا في مرحلة حكم الجهل، وسياسة الغاء الآخر المختلف، ومعس الحريات، ووأد القيم الانسانية، وطمس التراث الحضاري، وتسييد التطرف، وتعميم الانغلاق الديني والفكري، والعودة بالعالم العربي الى ما قبل الجاهلية، حياة وفكراً وعيشاً وسلوكاً ومجتمعاً الخ…
ملاحظة: هذا المقال يُعبر عن رأي الكاتب الشخصي لا عن رأي المجلة وفريق العمل فيها...