د.الياس ميشال الشويري
مع تطوّر الصراعات العالمية في العصر الحديث، أصبح مفهوم “حرب العقول” محطّ اهتمام واسع، حيث لا تقتصر الحرب اليوم على ساحات المعارك العسكرية فقط، بل تشمل أيضًا معركة فكرية تهدف إلى تغيير وعي الشعوب، وصياغة أفكارها وتوجهاتها. هذه الحرب غير المرئية تدور في أروقة الإعلام، منصّات التواصل الاجتماعي، والحركات الفكرية والسياسية التي تحاول التأثير في قناعات الأفراد والمجتمعات. في هذا السياق، يعد الوعي الفكري أداة القوة الرئيسية التي تمنح الشعوب القدرة على التمييز بين العدو والصديق، وعلى اتخاذ قرارات سليمة ترتبط بمستقبلهم.
1- حرب العقول وأبعادها الجيوسياسية.
حرب العقول ليست مجرد صراع فكري، بل هي ساحة معركة جيوسياسية ضخمة تشمل أطرافًا متعددة تتداخل مصالحها في العالم العربي. هذه الحرب تتضمن استراتيجيات متعددة تهدف إلى تغيير وجهات نظر الشعوب العربية تجاه قضايا مركزية مثل الهوية، السياسة، الاقتصاد والدين. في الوقت الذي يعاني فيه العالم العربي من أزمات مستمرة، يصبح الهدف الرئيسي للأطراف الخارجية – سواء كانت دولًا أو منظمات – التأثير على عقول الأفراد من خلال أدوات الإعلام والسياسة، مع التركيز على خلق مشاعر الضعف والانقسام بين مختلف المكونات الاجتماعية والثقافية.
في لبنان، كما في باقي الدول العربية، تشكّل هذه الحرب جزءًا من الصراع الكبير الذي يتداخل فيه الأبعاد الفكرية مع السياسية والاقتصادية. لبنان، الذي يعاني من هشاشة مؤسساتية وتعدّد طائفي، يعّد أرضًا خصبة لهذه الحروب الفكرية التي تستهدف تعزيز الانقسامات الداخلية وخلق حالة من الفوضى الذهنية بين مواطنيه.
2- الواقع اللبناني: وعي مشوش وسط الصراعات الداخلية والخارجية.
لبنان يعّد نموذجًا مثاليًا لهذا النوع من الحروب الفكرية نظرًا لتركيبته السياسية والاجتماعية المعقّدة. منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في 1990، وما تبعها من اتفاقات سلام هشّة، كان لبنان عرضة للتدخلات الأجنبية التي تراوحت بين التدخّلات العسكرية والسياسية، وصولًا إلى التأثيرات الفكرية التي غزت المجتمع اللبناني من خلال وسائل الإعلام، التعليم، والأيديولوجيات المتباينة. مع كل أزمة اقتصادية أو سياسية، يزداد تشتت الفكر اللبناني، ويغيب الوعي الجمعي الذي يجب أن يساعد في الحفاظ على استقرار الوطن ووحدته.
من أبرز مظاهر هذه الحرب الفكرية في لبنان هو الاستقطاب الحاد بين القوى السياسية والطائفية، حيث يتم تسيس قضايا الرأي العام بشكل يخدم مصالح تلك القوى دون النظر إلى المصلحة العامة. هذه البيئة تؤدي إلى تراجع قدرة المواطنين على التمييز بين من يسعى لإحداث تغيير حقيقي ومن يستغل الأزمات لتحقيق مكاسب شخصية أو حزبية.
3- التأثيرات الفكرية الخارجية: أدوات الحرب على العقول.
تعتبر وسائل الإعلام والتكنولوجيا من أهم أدوات حرب العقول الحديثة. في لبنان، كما في باقي دول المنطقة، تعاني الكثير من وسائل الإعلام من الانحياز والتأثر بالقوى السياسية الخارجية، سواء كانت دولية أو إقليمية. القنوات الإخبارية والصحف المحلية في لبنان ليست مجرد منصات لنقل الأخبار، بل هي ساحة صراع فكري تُستخدم للترويج لأيديولوجيات مختلفة تهدف إلى تشكيل وعي الجمهور اللبناني بما يخدم مصالح هذه الأطراف.
علاوة على ذلك، تمثّل وسائل التواصل الاجتماعي ساحة رئيسية لهذه الحرب، حيث يتّم نشر المعلومات المضللّة والأخبار الكاذبة التي تؤثر على الرأي العام. ما يُزيد من تعقيد الوضع هو ضعف مستوى التربية الإعلامية لدى العديد من اللبنانيين، مما يجعلهم أكثر عرضة للتأثر بهذه المعلومات المزيفة.
4- إعادة تشكيل الوعي الفكري: الطريق إلى النهوض.
لكي يتمكّن لبنان من مواجهة هذه الحرب الفكرية، يجب أن يتّم العمل على إعادة تشكيل وعي الشعب اللبناني من خلال التركيز على التعليم وتطويره بشكل يتناسب مع متطلبات العصر. من الضروري أن تُبنى مدارس وجامعات قادرة على تدريب الأفراد على التفكير النقدي والبحث العلمي، بعيدًا عن التأثر بالآراء الجاهزة والمعلبة.
أيضًا، يجب أن يتضافر الجهد بين المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة. هذا لا يتحقّق إلا من خلال تعزيز القيم الوطنية التي توحّد اللبنانيين، مع التركيز على الهوية اللبنانية الجامعة التي تتجاوز الانقسامات الطائفية والسياسية. وهذا يتطلّب من النخب الفكرية والسياسية أن تبتعد عن المصالح الضيقة، وأن تبادر إلى نشر ثقافة التسامح، الحوار، والقبول بالاختلاف.
5- التحول الفكري كشرط للنجاح المستدام.
التغيير الفكري لا يكون حلاً مؤقتًا أو سطحيًا، بل هو ضرورة استراتيجية لنجاح لبنان على المدى الطويل. إن تحسين الوعي الفكري يتطلب، كما ذكر علي إبراهيم الموسوي، تحولًا في طريقة التفكير لدى الشعوب العربية بشكل عام، وليس فقط على مستوى الحكام. فالحروب الفكرية لا تُخاض ضد القادة فقط، بل ضد الناس الذين يساهمون في استمرار الأوضاع القائمة بسبب نقص الوعي.
6- الخاتمة: استعادة العقول، استعادة الوطن.
حرب العقول هي حرب من نوع جديد، معركة خفية يتنقل فيها الطرفان من خلف شاشات الإعلام، وتنتقل فيها الأفكار عبر الأنابيب الإلكترونية إلى كل بيت. ولأن لبنان، كما أظهرت تجاربه السابقة، يعاني من تأثيرات هذه الحرب بشكل واضح، فإنه بحاجة ماسة إلى إعادة بناء وعيه الجمعي من خلال التعليم، التفكير النقدي، والتعاون بين جميع أطيافه السياسية والاجتماعية. إن الشعوب التي تملك وعيًا نقديًا قويًا لا يمكن أن تُهزم بسهولة في الحروب الفكرية، ولذا يجب أن يكون تغيير طريقة التفكير هو أول خطوة نحو بناء مستقبل أفضل للبنان.