بقلم د. الياس ميشال الشويري
اللعنة عليكم ايها الاوغاد. اللعنة عليكم ايها المرضى. اللعنة عليكم يا اصحاب الضمائر الميتة. اللعنة عليكم يا سارقي قوت الشعب، من اطفال ونساء وشيوخ ومرضى. اللعنة عليكم ايها المسكونون بالشر ّوالحقد والكراهية لكل الشرفاء. اللعنة عليكم ايها البارعون في تصغير صورة الكبار من أصحاب المواقف الشريفة والقيم النبيلة وتكبير صورة الصغار على شاكلتكم – من صغار النفس والفكر والقيم والسلوك. اللعنة عليكم ايها المسكونون برغبة الاذلال والانتقام والحقد والكذب والنفاق والجبن والانحطاط الفكري والاخلاقي. اللعنة عليكم ايها المتحدثون باسم الله والمثل والسماوات وانتم بعيدون عنها بعد الارض عن السماوات. اللعنة عليكم أيها السفلة – يا من طوقتم دنيا الناس بالكآبة والقلق والسأم والأرق وكل منغصات الحياة.
لقد سئمنا منكم ومن قرفكم، فكراً وتصرفاً. لقد سئمنا من بشاعتكم على مدى سنوات طوال، سنوات تميّزت بالنفاق والرشوة والجريمة والفساد. لقد سئمنا من عهودكم، عهود شعارها الرعاع والغوغاء والهمجية وضمور القيم والاخلاق والفكر والابداع واتساع مساحة الظلم والظلام والتشظّي الذي أمسك بتلابيب الوطن … عهود تمثّل التخريب والتفتيت والسجن والقتل والاغتصاب والتشريد والابادة والتخوين والعمالة! عهود أقل ما يقال عنها: عهود الذئاب المتوحشة والكلاب الشاردة … والكلِيبتوقراطيّة.
ولأنكم أيها الأوغاد، لا تعرفون عن الـ Kleptocracy شيئاً، كما عن سائر أنظمة الحكم في العالم، من الديموقراطية أو حكم الشعب، الى الأوتوقراطية أو الحكم الاستبدادي، والثيوقراطية أو الحكم الديني، الى البيروقراطية، فإن الكليبتو قراطية أو حكم اللصوص المعتمد في لبنان خاصة، هي نظام يتكوّن من شقين: “قراطية” التي هي تعريب كلمة “كراسيا” اليونانية التي تعني الحكم، و”كليبتو”، وهي كلمة يونانية تعني السرقة. ومن هنا، بامكاننا ترجمة الكليبتوقراطية بحكم اللصوص.
وتتستر الانظمة الكليبتوقراطية تارة بصبغة ديموقراطية جمهورية، وحينا بصبغة أرستقراطية ملكية أو ثيوقراطية دينية أو أوتوقراطية ايديولوجية شمولية. ولكن، هذه الصبغات لا تعدو كونها عناوين فضفاضة للحكم
الكليبتوقراطي السائد في عدة دول. ولكن ما يعنينا هنا هو تبيان سمات هذا النظام السائد في بلادنا وكيفية عمله. فالسمة الأولى من سماته هي وجود ما نستطيع تسميته بطربوش الحكم، وهو قد يكون الملك أو الرئيس او حتى الحكومة أو الوزارة. والطربوش يشكّل عنوان النظام ورمزه ويكون فوق كل اعتبار وفوق كل شبهة؛ طربوش الحكم هذا هو الذي يدير اللعبة ويلعب دور الحكم بين الطبقة الكليبتوقراطية الحاكمة. وتحت الطربوش، يقع راس النظام الكليبتوقراطي المكوّن من كبار اللصوص وهم يشكلون مركز الثقل في النظام ويده الضاربة، وهم الذين يحرصون على ديمومته لأنهم المستفيد الاكبر منه. وهذا الرأس بحاجة للطربوش لكي يغطيه ويحميه من شمس الحقيقة ومن الانكشاف؛ كما أن الطربوش بحاجة الى الرأس لكي لا يسقط وليستند اليه.
وهنا تنشأ علاقة مزدوجة بين طربوش الكليبتوقراطية، أي يكن، وبين رأس النظام المكوّن من مافيا اللصوص الكبار. ويستطيع الرأس اذا ما اقتضى الأمر تغيير الطربوش واستبدال ملك بآخر وزعيم بزعيم ورئيس برئيس، ولكن من الصعب جداً، بل شبه المستحيل على الطربوش أن يقطع الرأس لانه يعرف بانه لو فعل ذلك لسقط وانتهى دوساً بين الاقدام. وبعد الرأس، هنالك أطراف النظام، أي الاذرع التي تسرق والأقدام التي تتحرك والقبضات التي تدافع عن كيان النظام اللصوصي، وهي مستفيدة ايضاً وتدين بوجودها ومواقعها وامتيازاتها للرأس وتحمي الرأس باسم حماية الطربوش والنظام. هذه باختصار البنية الداخلية للنظام الكليبتوقراطي في بعض الدول وفي لبنان خاصة.
والسؤال الملح هنا هو كيفية الخروج من هذا النظام الكليبتوقراطي وتفرعاته؟ أولا، لا بدّ من أن نعي بأن هذا النظام هو وليد ظروف موضوعية أهمها المنظومة الفكرية السلطوية التي تهيمن على مجتمعاتنا والتي يتمّ تبريرها من خلال مفاهيم غيبية للحاكمية ولولاية الامر من جهة، ومن خلال شعارات “ثورجية” أو حداثية فارغة من اي مضمون فعلي من جهة مقابلة. يضاف الى هذا، القابلية المعرفية لانتاج القمع والتسلّط التي تعكس قروناً من الحكم الاستبدادي الأجنبي، بدءاً من المماليك الاتراك والقوقازيين الذين تقاسموا الامبراطورية العباسية وصولاً الى الحكم العثماني، ومن ثم الى مرحلة الاستعمار. وهذه الحقبات خلقت عند المواطن العربي قدرية تجاه نظام الحكم تجعله يعتبر أنه من الطبيعي جدا أن يكون هذا النظام غريباً عنه، معادياً له، وناهباً لثرواته.
وتكونت بالتالي عند مواطني تلك الدول وعند اللبناني خصوصاً عقلية تعتبر المشاركة في لعبة السرقة تلك تشاطراً على النظام السارق والغريب. وهكذا ينتج الفساد فساداً. أضف الى ذلك، المنظومة السياسية التي تتسلّط بالتوازي مع التجزئة السياسية وقيام الكيانات المصطنعة ذات وظيفة محددة ابقاء الدول ضعيفة وغير قادرة على مقاومة النهب الخارجي لمقدراتها ولأرضها. وتتناغم هنا مصالح الطبقات والنخب الكليبتوقراطية مع مصالح الاستعمار في ابقاء الشعب مقسماً وجاهلاً ومهمشاً، وهذا يسهّل مهمة الحلف الشيطاني من اللصوص الداخليين والطامعين الخارجيين الذين يتشاركون في نهب الثروات وهدر الطاقات.
وشخصية السياسي الذي يمثّل هذا النوع من المناضلين مدعي الثورية خصوصاً، هي شخصية مشروع طربوش للمفسدين واللصوص، لأن فهم السياسة في بلادنا ومرادفها أصبح اعادة انتاج النسق الكليبتوقراطي تحت صيغ مختلفة ومتعددة، مراراً وتكراراً. هذا هو واقعنا المرير، أما الخروج منه فلا يكون الا من خلال انتاج نخب ثورية نقية تكون سمتها الأولى نكران الذات، وتدرك طبيعة عدوها الخارجي والداخلي، وتعمل من أجل استئصال المرض من جذوره وقطع رأس النظام، وليس فقط الاطاحة بطربوشه.
وهنا تجربة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التي لا تزال ماثلة أمامنا عندما أطاح بالطربوش ولكنه لم يدرك الا متأخراً بأن مافيا الارستقراطية الكليبتوقراطية يجب أن يتم القضاء عليها سريعاً. ولكن، عندما أدرك ذلك، كان الاوان قد فات وكانت هذه المافيا قد حوّلت نفسها الى طبقة جديدة تهيمن على الأطر التي أنشأها وترفع شعارات الثورة بينما تكرّس النظام الكليبتوقراطي في نفس الوقت؛ النتيجة كانت هزائم وانفصال وانقلاب على الثورة فور وفاة هذا الرئيس العربي الذي مات فقيراً ولم يسرق شعبه، كما فعل الساسة في لبنان، وبامتياز، في فترة ما بعد الحرب الأهلية ولغاية تاريخه!
هنالك حقيقة تاريخية يجب أن نعيها، وهي أن الثورة الفرنسية لم تستخدم المقصلة عبثاً، اذ كان لا بدّ من أن تتدحرج رؤوس ليبزغ بعد ذلك فجر المواطنة والدولة الحديثة. وهذا، باختصار، الحل الوحيد المتبقّي لنا في لبنان! كان الأجدى لو رحل عنّا ساسة اللاسياسة الأشرار في انفجار مرفأ بيروت بدلاّ من الأبرياء الذين استشهدوا، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، أو أصيبوا أو خسروا ممتلكاتهم في الرابع من آب 2020. وبانتظار ما ستؤول اليه الأحوال في المستقبل، لا يسعنا سوى أن نردّد الدعاء التالي:
– أنقذنا، يا ربّ، من الموت، الموت البطيء الذي نعيشه في لبنان، يا مَن أنتَ “القيامة والحياة”، كما أقمتَ لعازَر من القبر، فنقوم، بدَورنا، إلى حياة جديدة.
– نجّنا، يا ربّ، من ظلام الشرّ المهيمن على كل شيء في هذا البلد، كما أشرق نُور قيامتك عند فجر أحد الفصح، فاستنارت البصائر والضمائر.
– ارفع عنّا، يا ربّ، حجر الظلم والحقد الرابض على صدورنا من الأوباش المهيمنة على هذا البلد، كما دحرجت الحجر عن باب القبر، لتعود إلينا أنفاس الحرّيَّة والكرامة والعدالة.
– أبعد عنّا، يا ربّ، كأس المرارة التي نذوقها كلّ يوم في هذا البلد، من مجموعة من الأَوْغَاد التي لم تجلب معها سوى المصائب والويلات والأزمات، ولكنْ، لا كما نحن نشاء، بل كما أنتَ تشاء!
عليك اتّكلنا، يا ربّ. والاعتصام بك خير من الاتّكال على البَشَر، خاصة اذا كانوا من أشباه البشر الذين يتحكمون بمفاصل هذا البلد. فلا تردّنا خائبين، يا ربّ، ولا تهملنا، يا أرحم الراحمين. آمين.