الجوع
صرخة من القلب والعقل معًا يطلقها د. الياس ميشال الشويري، الأستاذ الجامعي والمدير العام السابق في إحدى الوزارات اللبنانيّة، لعلّها تشكّل مع مَن يصرخ مثله، وهم كثيرون، نواة هزّة ضمير مطلوبة من كلّ لبناني على أبواب انتخابات نيابيّة ورئاسيّة يؤمل منها تغيّيرًا ملحوظًا على مستوى السلطة. ولتزخيم نواة هذه الهزّة، ذكّر د. الشويري بعبارة للسيد المسيح تقول: “لا تعطوا الكلاب ما هو مقدّس ولا ترموا دُرَرَكمْ إلى الخنازير، لئلاّ تدوسها بأرجلها وتلتفت إليكم فتمزّقكم”!
بقلم د. الياس ميشال الشويري
كنتُ مؤمناً، عندما عدتُ من الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من 28 عاماً لتبؤ منصب مدير عام في إحدى وزارات لبنان، بأن شمس الإصلاح والنهضة ستضيء دروب الوطن، بعد حرب أهلية مدمّرة ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، ناهيك عن الذين هُجِّروا من منازلهم وقراهم وفقدوا كل شيء تقريباً، بمن فيهم عائلتايْ الصغيرة والكبيرة، وبأن الأمل سيأتي ذات يوم، ولكن، وللأسف، وبعد مرور كلّ هذه الفترة من الزمن، لعنتُ اللحظة التي عدتُ فيها الى وطن تقوده شلّة من المرتزقة تصول وتجول وتنهش لحمه ولحم المواطن وتنهب جنى عمره، وبأي ثمن! ولكن، الشيء الوحيد الذي شكرتُ الله عليه هو أنني وُضعتُ بالتصرّف لأنني رفضتُ تغطية الإرتكابات والإنغماس بمشاريع نهب وسرقة المال العام الذي أؤتمنت عليه!
كيف يكون للتفاؤل مكان ونحن نرى الفاسد يلبس ثياب الإصلاح ويتبوأ المناصب القيادية في هذا البلد، بل يشرّع القوانين ويطبّقها على خصومه فقط؟
وكيف يكون للتفاؤل مكان ونحن نرى الفاسد يلبس ثياب الوطنية ويطعن في وطنية الوطنيين، ثم يتبوأ منصباً قيادياً أو يحظى باهتمام السلطة الفاسدة ورعايتها؟
وكيف يكون للتفاؤل مكان ونحن نرى الفاسد يلبس ثياب الدستور وهو أوّل من يخالف قوانين الدولة ويوقف تنفيذها وفقاً لمصالحه؟
وكيف يكون للتفاؤل مكان ونحن نرى الفاسد يتحدّث عن مصلحة البلاد وهو الذي يعيث بها فساداً؟
وكيف يكون للتفاؤل مكان ونحن نرى الفاسد يعتلي منابر الإعلام ويدعو لحماية المال العام وأملاك الدولة ومشاعات البلديات وهو سارقها والمعتدي عليها؟
وكيف يكون للتفاؤل مكان ونحن نرى الفاسد حراً طليقاً بينما المصلح والمحارب لأجل الوطن هاربان أو مسجونان أو متهمان بالعمالة؟

حقاً، نعيش أكثر مراحل تاريخنا وحياتنا بؤساً وتخلّفاً وظلاماً وقهراً، بسبب تكالب الخارج والداخل علينا! أَليسَ اليوم هو يوم اللصوص والدجّل وطرْح الكلام على السذّج؟ أليس اليوم هو يوم عملاء سافرين بدون حياء! أليس اليوم يحكمنا الأمي والدجّال والتافه، كما جاء في مقالنا السابق في هذه المجلّة الكريمة! لمن ننادي ونصرخ … لجماعة من الفاسدين والمُفسدين والعملاء تركت الشرف في حمّامات الخارج! ولمن ندعو … ألمنْ باع الشرف ببضعة دولارات حتى أصبحت دماؤنا أرخص من مياه الصرف الصحي! ولمن ننادي؟ أللفاسدين الذين سرقونا وباعونا وهجّرونا واغتصبونا واعتقلونا!
نعم، لقد نجح التافهون والفاسدون والمُفسدون في تحويل لبناننا إلى مزرعة لهم ولكلابهم وقططهم، ونصبّوا أنفسهم أسياداً، وأطلقوا على أنفسهم ألقاباً لا تليق بهم، وجعلوا أبناء هذا الوطن عبيداً وأذيالاً لهم، كما هم أذيال، بامتياز، لمشغّليهم ومحرّكيهم من الداخل والخارج. باعوا الوطن والشرف والحميّة وإنسانية الانسان … بثمن بخس يعادل غباءهم في السياسة والدين، وقلة معرفتهم بإدارة شؤون البلاد، وشغفهم بحب المال والسلطة، وكأنهم ما جاؤوا الا لتدمير الوطن وطمره بقاذوراتهم وبِأوسَاخِهم وَكُلِّ مَا هُوَ نَتِن وعلى شاكلتهم.
إنه زمن لا يدعو فعلاً إلى التفاؤل، ولا يوجد هناك من بصيص أمل بأن يطلّ علينا من الخارج أو الداخل من يعرّيهم ويحاسبهم ليكونوا عبرة لمن إعتبر، فكل الشواهد تدلّ على التشاؤم بتغيير آتٍ أو بثورة حقيقية، دموية إن أمكن، مضادة “لثورة” الفساد التي تسيّدت المشهد. يعني “بالعربي المشبرح”: طار التفاؤل وفقدنا الأمل في التغيير نحو الأفضل، ما دام الفاسد بيننا يلبس ثوب المصلحين والناصحين والوطنيين والمخلصين، وما دام العمل السياسي والوطني قد وصل إلى هذا الانحطاط من الفساد اللامعقول واللامقبول. فهل من أمل بأن تُشرق شمس الإصلاح لتضيء لنا هذه العتمة ونرى حقيقة الفاسدين لنعرّيهم من الثياب التي ارتدوها زيفاً وبهتانا على مرّ السنين ونهبوا مقدرات الوطن دون حسيب أو رقيب، متلطين جميعاً برداء الدين والطائفة، ومتحصّنين بمقولة الدفاع عن مصالح جماعاتهم؟

بسقوط كل المرجعيات الإجتماعية والدينية والتاريخية، في فترة الحرب الأهلية وما بعدها، وبطمس الهوية بايدولوجيا الكذب والفسق التي ظهرت مع الأحزاب والتيارات والحركات الجديدة، ومعظمها اعتاش على الدم، وضرب بعرض الحائط كل المرجعيات التي تركت أثراً إيجابياً في تاريخ لبنان وجعلت منه سويسرا الشرق، إنهارت الأخلاق. ولعلّ من المفارقات الغريبة في هذه الفترة أن يؤتمن الخائن ويُخوّن الأمين ويُكذّب الصادق ويُصدّق الكاذب. ومن مفارقات هذا الزمن العجيب أن السلطة اليوم في لبنان تُعطى إلى صغار العقول وإلى الحمقى لأنّ من يريد الهيمنة، يرفض الذكي والفطن والوطني الذي سيعطّل مشروعه، لذا يتبنّى التافه ويعيّنه في أعلى المناصب، نائبًا أو وزيرًا أو مسؤولاً.
يذكِّرنا الإنجيل المقدّس بالعظة التالية للرب يسوع المسيح: “لا تُعْطُوا اِلْكِلاَب ما هو مُقَدّسٌ، وَلاَ ترموا دُرَرَكُمْ الى الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ إليكم فَتُمَزِّقَكُمْ” (متى 6:7). هنا، يعلِّمنا الرب يسوع كيف يجب أن يكون من يقتضي إرشادهم وتوبيخهم، ويريد بالمقدس والجواهر التعليم الإنجيليّ وحقائق الإيمان والأسرار، ويريد بالكلاب والخنازير الوقحين والمُصرّين على إثمهم. بمعنى آخر، يعلِّمنا الرب أنَّه يجب عدم تعريض الأمور المقدَّسة أمام هؤلاء للإهانة والازدراء لئلاّ يدنِّسوا جواهر الكنز الإلهيّ الثمينة، ويحتقروا الأمور المقدَّسة. أليس هذا ما حصل فعلاً مع بعض ضعاف النفوس في هذا الوطن الذين غلبوا مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة، وأهدروا ونهبوا حقوق الوطن والمواطن التي اؤتمنوا عليها!
يستشّف من كلام السيد المسيح وكأنه يقول لنا:
- أحذِّر الذين يسمعونني، حتى لا أُتهم بأنني طرحت المقدّسَ للكلاب، أي للنفوس التي لا تخجل، والذين ينبحون مثل الكلاب، وهم الذين لا يفكرون في شيء إلاَّ في الزنا، والسلوك الشاذ، ولا يتصرفون إلاَّ مثل الكلاب التي تنهش ضحاياها. أوليس هذا هو حالنا مع المنظومة الحاكمة الفاسدة في هذا البلد، بمختلف أشكالها السياسية والأمنية والقضائية والإدارية … التي نهشت وتنهش المواطن الشريف يوماً بعد يوم بإسم الطائفية والمذهبية والمناطقية.
- أحذّر الذين يسمعونني أن لا يجعلونني عرضة للاتهام بأنني ألقيت بالجواهر الغالية التي نحاول أن نجمعها مثل تجار حكماء، أمام الغارقين في دنس الجسد، والذين يوصفون بأنهم خنازير (متى 6:7). إنني أعتقد أن الناس الذين ينحدرون على الدوام، ويتمرّغون في أوحال الحياة، ولا يحاولون بالمرة أن يجربوا أن يعيشوا في طهارة وقداسة حياة، كل واحد من هؤلاء يتشبه بالخنزير. أوليس هذا هو حالنا مع تجار المال واصحاب المشاريع الذين تاجروا ويتاجرون بدمائنا واحلامنا وأمننا وسلامنا؟
- أحذّر الذين يسمعونني وأقول لهم تجدَّدوا واقبلوا أن تتعلموا أن فيكم قدرةً للتجديد، وأن تخلعوا صورة الخنزير، أي النفس النحسة. ومن الممكن أن نتجدّد عن صورة الثعابين، فالإنسان الشرير يشبه الثعبان أو الحية، ولذلك، قيل عن البعض أنهم “أولاد الأفاعي”. أوليس هذا التوصيف ينطبق على الذين عاثوا فساداً ونهباً وتدميراً في هذا الوطن، غير آبهين بوخز الضمير ولا سير العدالة. لقد تخطّى هؤلاء حدود الوكالة، وخرقوا القوانين، ودجّنوا القضاء وسيّسوا الادارة، وأفرغوا المؤسسات، وأفلسوا الخزينة، وتطاولوا على المال العام، وقفزوا فوق المحاسبة، وتناتشوا الوطن كما تتناتش الذئاب الفريسة، وأفقروا الناس مستبسلين في الدفاع عن مكتسباتهم ومنافعهم وازلامهم، واضعين خطوطاً حُمُرًا لهذا، ومناطق محظورة لذاك، وإعفاءات خاصة من هنا وعفو عام من هناك، بحجة حماية السلم الاهلي والعيش المشترك. كالقبائل فرقونا ولم يتوانوا عن انشاء مزارع طائفية استباحت الحرام والحلال، ممعنين في تمزيق النظام المتصدّع وترقيع الوحدة الوطنية وتعويم الديمقراطية التوافقية الفارغة من مضمونها اصلاً … كما جاء في مقال للسيد ربيع لطيف.
ولا بدّ لنا هنا من أن نتوافق مع ما قاله الشاعر نزار فرنسيس في حديث خاص لـــ “لبنان24”: نحن شعب مهان، وبداية الحل ان نحسن الاختيار في الانتخابات! إن الأزمة الكبيرة في لبنان عابرة وهناك نهاية لها، وعلينا ان نتعلّم من التاريخ الذي مضى أن الأزمات تمرّ وتنتهي، وعلينا أن نكون على (قدها) … إن الخروج من الأزمة يبدأ بأن نعرف كيف نختار، لأن الجوع لا طائفة له ولا جغرافيا، بل هو معمّم ويطاول الجميع. ولذلك، علينا أن نعرف كيف نختار ونصحّح المسار ونختار الأفضل في صناديق الإقتراع، في الإنتخابات النيابية المقبلة، لنؤكّد أن لبنان قابل للبقاء والنهوض من جديد، لأننا شعب لا يموت!
كذلك، لا بدّ لنا أيضاً من أن نتفّق مع ما جاء في مقال للسيد مالك فيصل مولوي: كم هو ظلم أن يحاول مسؤول رفيع المستوى يدّعي الطهارة والعفة سرقة ملايين الدولارات في الوقت الذي يصطف فيه عشرات الآف العاطلين عن العمل في طوابير طويلة بانتظار لقمة العيش. فهل وُجد لبنان ليعيش “الزعيم” و”البيك” و”الشيخ” و”المعالي” و”السعادة” في جنات النعيم ويموت الآخرون من الجوع؟ إن الوضع الاقتصادي الصعب والمديونية الكبيرة التي يعانيها لبنان لم تنتج بفعل حصار او حرب، بل نتجت فعلياً عن السرقات المنظمة التي كان يرتكبها المؤتمنون على حال البلد … وعندما نعلم أن حجم الأموال المهربة للخارج خلال العشر سنوات الماضية هي بعشرات المليارات… وعندما نعلم أن الفساد يستنزف كذا مليار دولار سنوياً من اقتصاد لبنان، باعتراف القيادة السياسية في هذا الوطن، لنرى بعد ذلك مواطنين يبحثون عن الطعام في القّمامة، فعن أي نمط عیش كریم وسعید وصحي يتحدث هؤلاء الساسة؟ … إن الغدر والمكر والخداع والتحايل صارت من الأمور المباحة، بل المحببة في قاموس السياسة اللبنانية وحياة السياسيين، وأصبح النفاق أمراً مستساغاً بل صار عادة وتقليداً متبعاً في حياة الناس.
في النهاية، كلنا متحالفون عليك يا وطني لأننا لم نلتزم حبك وغرقنا في صمتنا، وتركناك في مستنقع الفساد كلّ هذه العقود مع زمرة من الفاسدين، المنافقين، تعبد ربّين: السلطة والمال! كلنا فاسدون بكذبنا، بنفاقنا، بصمتنا، بدجلنا! كلنا سماسرة نبحث عن مصالحنا، وآخر ما نفكّر به، وآخر ما نتذكّره، هو أنت يا وطني المكسور مثل عشبة القمح أيام الخريف! كم من جراح أنت تحتمل، وكم من أسى يبيت فيك ويعزف أنشودة الأمل الضائع. اختلطت كل الخيوط، فلا أحد أصبح يعرف على وجه التحديد تعريفاً لهذا المأزق: أهو الفساد السياسي فقط، أم الغضب المكتوم، أم صبر أيوب، أم إفتراء المفتري، أم الفقر والعذاب والمرض، أم الحرمان والقسوة والظلم، أم هو كل هذه المتناقضات، في خليط مبتكر عجيب يجسّد ما آلت إليه الشخصية اللبنانية، من الكراهية المستترة، من اليأس والإقدام، من الرضوخ والتمرّد، من الضعف والقوة، أم أنه نظام التافهين الفاسدين الذي أوصلنا الى ما نحن عليه اليوم من وضع مأساوي بامتياز … وعلى كافة الأصعدة؟ على أي حال، وكما جاء على لسان الشاعر هنري زغيب، مهما ذَرُّوا في عيون الناس قريبًا وعودَهم الكذَّابة مع اقتراب موسم الانتخابات، الشعب الحر لم يعُدْ يصدِّقهم، ولن يَرَوا حولهم إِلَّا بضْعة كَذَبَة من المحاسيب الدجَّالين، والأَزلام المصفِّقين المستفيدين الاستغلاليين والتافهين.
برأينا، سوف يلتزم الشعب الحر بعظة الرب يسوع المسيح في الإنتخابات المقبلة، أي: “لا تُعْطُوا اِلْكِلاَب ما هو مُقَدّسٌ، وَلاَ ترموا دُرَرَكُمْ الى الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ إليكم فَتُمَزِّقَكُمْ (متى 6:7)”. السبب بسيط جداً، لأن “الكلاب” تُشير إلى مقاومي الحق، كما قاوم من هم في السلطة حق المواطن في حياة جماعية قائمة على الحرية والمساواة والكرامة، فيما “الخنازير” تشير إلى محتقريه، كما احتقر وفرّغ من هم في السلطة حق المواطن بالعدالة المدنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تكفل له السيادة والعيش الكريم … من فحواه!