كرسيّ الحكم مهما علا،قد يسقط
د. الياس ميشال الشويري
عبارة “مات الملك عاش الملك” تعدّ من أشهر العبارات التي تختزل في كلمات معدودة فلسفة تداول السلطة واستمرارية الحياة. هذه العبارة، التي ارتبطت تاريخياً بمراسم انتقال الحكم في الأنظمة الملكية، تعكس بعمق واقعاً إنسانياً لا يتغيّر: رحيل القادة لا يوقف عجلة الحياة، وتبقى الشعوب ماضية في طريقها، سواء بالاستفادة من إرثهم أو برغبة في النسيان. والأكثر إثارة، أن العبارة تكشف زيف الولاءات المطلقة التي يظهرها بعض الأفراد تجاه الحكّام، حيث ينقلب هؤلاء أنفسهم إلى ولاء فوري للحاكم الجديد.
1- أصول العبارة ودلالاتها التاريخية.
تعود أصول عبارة “مات الملك عاش الملك” إلى التقاليد الملكية الأوروبية القديمة، حيث كانت تُستخدم للإعلان عن وفاة ملك وبدء حكم ملك جديد، ممّا يضمن انتقال السلطة بشكل سلس ويعزّز من استقرار الدولة. هذه العبارة تحمل معاني عميقة حول الاستمرارية السياسية، الفناء البشري، وذاكرة الشعوب:
أ-الاستمرارية السياسية. تبرز العبارة أن السلطة ليست مرتبطة بشخص الملك وحده، بل بالنظام الذي يمثلّه. حتى بعد رحيل الملك، يستمّر النظام السياسي في العمل، ممّا يضمن استمرارية الدولة والمؤسسات.
ب-الفناء البشري. تذكّر العبارة بأن الملوك، رغم مقامهم وعظمتهم، يظلّون بشرًا لا بد لهم من الفناء، مثلهم مثل أي شخص آخر. وبالتالي، فإن الحياة تتواصل وتستمر بعد موتهم، كما أن رحيلهم لا يعني نهاية العالم.
ج-ذاكرة الشعوب. تشير العبارة إلى أن الشعوب لا تتذكر الحكام بناءً على شخصهم أو ملكهم، بل بناءً على الأفعال التي قدموها. فالحكام الذين تركوا بصماتهم الطيبة في التاريخ يبقون في ذاكرة الناس، بينما أولئك الذين فشلوا في خدمة شعوبهم ينسون سريعاً.
إذن، العبارة لا تعكس فقط الفكرة البسيطة للموت والخلود فقط، بل تبرز أيضًا التفاعل المعقّد بين السلطة والشعب، حيث تظل الشعوب هي العامل الثابت في التاريخ بينما تتغير الوجوه الحاكمة.
2- زيف الولاءات المطلقة.
العبارة “مات الملك عاش الملك” لا تقتصر على تسليط الضوء على الانتقال السلس للسلطة، بل تكشف أيضًا التناقضات العميقة في سلوك الشعوب والمحيطين بالملوك. هذه التناقضات تُظهر بوضوح كيف أن الولاءات السياسية ليست دائمًا صادقة أو ثابتة، بل كثيرًا ما تكون متغيرة ومرتبطة بالمصلحة الفردية:
أ-النفاق السياسي. يظهر الولاء المطلق في حياة الملك أو الحاكم، حيث يتبنّى المحيطون به ولاءً عميقًا وحماسة كبيرة لدعمه. لكن هذا الولاء سرعان ما يتبدل إلى ولاء للحاكم الجديد بمجرد رحيل الملك أو الرئيس. يُظهر ذلك كيف أن الولاء ليس نابعًا من الإيمان بالشخص ذاته، بل بالسلطة التي يمثلها الحاكم، مما يبرز نفاقًا سياسيًا، إذ إن ولاء الأفراد غالبًا ما يرتبط بمصالحهم الشخصية أكثر من ارتباطه بأي قناعة حقيقية.
ب-مصلحة الفرد فوق الشعارات. الولاء في العديد من الأحيان لا يكون ناتجًا عن حب حقيقي للملك أو الرئيس، بل عن رغبة في الحفاظ على المنافع الشخصية والمكتسبات. المحيطون بالحاكم يسعون لاستغلال هذه العلاقات من أجل الحصول على وظائف أو امتيازات خاصة، ما يجعل الولاء شكليًا ومؤقتًا. هذه الظاهرة تشير إلى أن ولاء بعض الأفراد ليس مبدئيًا، بل يعتمد على ما يمكن أن يحصلوا عليه في مقابل ذلك.
ج-الشعوب كقوة مستقلة. من جهة أخرى، تبرز التحولات السريعة في الولاء كدليل على قدرة الشعوب على التكيف مع أي تغيير في السلطة. فعندما يتغير الحاكم، تتغير ردود فعل الشعب بسرعة، ما يعكس أن الولاء الحقيقي لا يجب أن يكون لشخص، بل للوطن والمؤسسات. هذه التحولات تشير إلى أن الشعب قادر على المضي قدمًا وتجاوز الأفراد، وأن النظام السياسي أو المؤسسات يجب أن تكون هي محور الولاء الحقيقي، لا الأشخاص الذين يتقلدون المناصب.
إن هذه التناقضات في الولاءات، التي تبرز بوضوح عند وفاة الحاكم أو رحيله، تكشف عن ضعف الالتزام المبدئي لدى العديد من الأفراد تجاه الحكام، وتؤكد أن الولاء الذي لا يتجاوز الأشخاص إلى الوطن يظل هشًا وغير مستدام.
من تظاهرات سوريا
3- العلاقة بين الحكام والشعوب.
عبارة “مات الملك عاش الملك” تفتح أمامنا نقاشًا عميقًا حول العلاقة بين الحكام والشعوب، وتسلط الضوء على الدور الأساسي الذي تلعبه الشعوب في تشكيل مصيرها، بينما يبقى الحكام مجرد رموز زائلة. هذه العبارة تستدعي التأمل في ثلاثة جوانب رئيسية:
أ-الملوك كرموز زائلة. الحكام يأتون ويذهبون، لكن الشعوب تبقى. هذه الحقيقة تبرز أن الزمن لا يتوقف عند رحيل الحاكم، بل يستمر بمرور الزمن ليعيد تشكيل نفسه باستمرار. لذلك، يجب أن يكون الهدف الأساسي للحكم هو خدمة الشعب وتحقيق رفاهيته وتقدمه، وليس الاستحواذ على السلطة أو استغلالها لصالح الأفراد. الحاكم ليس الهدف النهائي في حد ذاته، بل هو مجرد أداة لتحقيق مصلحة عامة يجب أن تتحقق بغض النظر عن من يتولى الحكم. والشعوب تظل القوة الدافعة والمستمرة عبر العصور، مهما تبدلت الأسماء والأوجه.
ب-الحكام العادلون والبقاء في الذاكرة. يُثبت التاريخ أن الحاكم العادل، الذي يضع مصلحة شعبه في أولوياته، يظل ذكره حيًا في ذاكرة الأمة، بل يظل إرثه خالدًا عبر الأجيال. الحاكم الذي يعمل على نشر العدالة والرفاهية، ويصون حقوق شعبه، يخلد اسمه في سجل التاريخ بفضل أعماله الطيبة. بالمقابل، الطغاة الذين يسعون لاستغلال السلطة لتحقيق مصالحهم الشخصية وتدمير الشعوب، يُنسون سريعًا بعد رحيلهم، أو يذكرون في التاريخ بسوء. لذا، ليس البقاء في السلطة هو المقياس الحقيقي للنجاح، بل البقاء في ذاكرة الناس من خلال الأفعال البناءة والمفيدة.
ج-الشعوب كقوة قائدة. العبارة “مات الملك عاش الملك” تؤكّد أن الشعوب هي المحرّك الأساسي للتاريخ، وأنها قادرة على تقرير مصيرها بغض النظر عن من يحكم. الشعوب هي التي تحمل القوة الحقيقية لتغيير الواقع، والتاريخ يثبت أن التحولات الكبيرة تأتي دائمًا نتيجة لانتفاضات الشعوب أو تغييرات في وعيها الجمعي. رغم كل الظروف الصعبة أو تحولات السلطة، تبقى الشعوب هي المصدر الرئيسي للتغيير. وبالتالي، يجب أن يتعامل الحكام مع الشعوب باعتبارها القوة الفاعلة التي تمثل المستقبل، ويجب عليهم الاستماع إليها والاستجابة لمطالبها إذا كانوا يريدون أن يكونوا جزءًا من التاريخ.
إذن، هذه العلاقة تفتح الأفق لفهم أعمق حول كيفية إدارة الحكم وعلاقته بالشعب، مؤكدة أن الحكام مهما كانت قوتهم، فإنهم زائلون في النهاية، بينما تبقى الشعوب في تطورها المستمر.
4- بين التاريخ والواقع الحديث.
في العالم الحديث، تظلّ العبارة “مات الملك عاش الملك” تعكس واقعًا معقّدًا في الأحداث السياسية الجارية، حيث يمكن رؤية تحولات السلطة بشكل مستمر، ولكن مع بقاء الشعوب مرنة وقادرة على التكيّف مع التغيرات. هذا المحور يستعرض تأثير هذه العبارة في السياق المعاصر عبر ثلاثة جوانب رئيسية:
أ-الثورات الشعبية. في حالات الثورات والانقلابات، تسقط أنظمة وتنشأ أخرى، لكن الشعوب لا تتوقف عن العمل أو التكيّف مع المتغيرات. رغم سقوط الحكام أو الأنظمة المستبدة، فإن الحياة تستمر بالنسبة للشعوب التي تعد المحرك الأساسي لأي تحول سياسي. الشعوب، في لحظات الأزمة أو التغيير، تثبت قدرتها على التكيف والبناء من جديد، حيث يتخذون خطوات نحو استعادة استقرارهم، بغض النظر عن هوية الحكام الجدد. تُظهر الثورات، مثل تلك التي شهدتها الدول العربية في العقد الأخير، كيف يمكن للأنظمة أن تسقط، ولكن الشعب يظل هو العامل الحاسم في تشكيل المستقبل.
ب-الولاء المؤقت. في العديد من البلدان العربية، يظهر الولاء العاطفي للحاكم الحالي، حيث يتبنى الأفراد ولاءً مؤقتًا بناءً على الفوائد الشخصية أو لحماية مصالحهم. ومع سقوط النظام، يتحول هذا الولاء فجأة إلى الحاكم الجديد، مما يعكس هشاشة هذه الولاءات التي لا تقوم على مبدأ ثابت، بل على المصالح أو الظروف اللحظية. هذا التحول السريع في الولاء يدل على أن الشعوب، في كثير من الأحيان، تكون أقل ارتباطًا بالأنظمة بقدر ارتباطها بما يمكن أن توفره لها من مصالح شخصية أو انتفاع مباشر.
ج-الدروس المستفادة. لتجنّب هشاشة الولاءات، يتعيّن على الشعوب أن تعزّز من مفهوم الولاء للوطن والمؤسسات بدلًا من الولاء للأفراد. يجب أن يكون الولاء للوطن نابعًا من الالتزام بالمبادئ الوطنية المشتركة، مثل العدالة، الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وليس للزعيم أو الحاكم. هذه النقلة في الوعي السياسي والشعبي تعد أساسية لضمان استقرار الأنظمة السياسية في المستقبل، حيث تظّل المؤسسات هي الأساس الذي يبني عليه الشعب استقراره وتقدمه، بعيدًا عن التقلبات التي قد تحدث نتيجة لتغيير الوجوه الحاكمة.
في هذا السياق، تعكس العبارة “مات الملك عاش الملك” كيف أن الشعوب لا تتوقف عن التكيّف مع التغيرات، لكنها بحاجة إلى أن تتحلى بوعي مستدام يعزز الولاء للمؤسسات ويعزّز من القدرة على التغيير المستدام دون الاعتماد على فرد واحد.
5- الرسالة للحكام.
عبارة “مات الملك عاش الملك” تحمل في طياتها رسالة عميقة للحكام، تذكّرهم بالحقيقة المرة التي لا يمكن تجاهلها: الحكم ليس دائمًا، والسلطة زائلة. هذه الرسالة تشمل ثلاث دروس أساسية للحكام:
أ-التواضع أمام الحقائق. العبارة تذكر الحكام بأن حياتهم السياسية ليست خالدة وأنهم في النهاية زائلون. يجب على الحكام أن يتواضعوا أمام هذه الحقيقة ويتخذوا خطوات لتركيز جهودهم على تحقيق الخير العام قبل أن يغادروا. بدلاً من التمسك بالسلطة أو السعي وراء مصالح شخصية، يجب عليهم أن يسعى لتحقيق تغيير إيجابي في بلادهم، وأن يتركوا إرثًا يُذكر بالخير. التواضع أمام هذه الحقيقة يفتح الطريق لتحقيق حكومات أكثر نزاهة وكفاءة.
ب-خدمة الشعب لا التسلط عليه. الحاكم الذي يعتقد أن السلطة تمنحه الحق في التسلط على شعبه سيكون مصيره النسيان أو السوء. على العكس، الحكام الذين يركزون على خدمة شعوبهم، ويعملون على تحقيق العدالة والرفاهية العامة، هم من يُخلدون في ذاكرة التاريخ. إن القيادة ليست استحواذًا على السلطة، بل هي مسؤولية لخدمة المواطنين وتعزيز حقوقهم. هذا النوع من الحكم هو الذي يضمن استمرارية تقدير الشعب حتى بعد رحيل الحاكم.
ج-الإدراك بأن الشعوب لا تنسى ولا تغفر بسهولة. الطغاة الذين يظلمون شعوبهم يرحلون في النهاية، لكن ظلمهم يبقى في ذاكرة الناس لفترات طويلة. الشعوب لا تنسى بسهولة المعاناة التي عاشتها، ولن تغفر لأولئك الذين دمروا حياتهم وأساءوا إليهم. الحاكم الذي يتسلط على شعبه، ويغتنم السلطة لمصلحته الشخصية، يجب أن يعلم أن الشعب سيرتبط به بذكرى سلبية قد تستمر عبر الأجيال. وبالعكس، الحاكم العادل الذي يحترم حقوق الناس ويعمل من أجل مصلحتهم سيبقى ذكره طيبًا في قلوب شعبه، حتى لو رحل.
إذن، رسالة العبارة للحكام واضحة: الحياة قصيرة والسلطة زائلة، لكن الأثر الذي يتركه الحاكم على شعبه هو الذي يبقى. الحكام الذين يركزون على خدمة الشعب ويبذلون جهدهم لتحقيق العدالة والرفاهية، هم من سيخلدهم التاريخ في ذاكرته، بينما أولئك الذين يسعون وراء التسلط ستبقى أسماؤهم مرفوضة في ذاكرة شعوبهم.
6- الخاتمة.
عبارة “مات الملك عاش الملك” ليست مجرد كلمات تاريخية تُقال عند انتقال السلطة من حاكم إلى آخر، بل هي فلسفة تعكس دورة الحياة والحكم في أعمق معانيها. هذه العبارة تذكّرنا بأن الحكام مهما تكن قوتهم أو عظمته، فهم بشر يأتون ويذهبون، ولكن الشعوب تبقى، تواصل الحياة وتتكيف مع المتغيرات.
الدرس الأهم الذي تحمله هذه العبارة هو أن العظمة الحقيقية لا تكمن في البقاء في السلطة أو الاستحواذ عليها، بل في البقاء في ذاكرة الناس من خلال أفعال خالدة ومؤثرة تخدم مصلحة الوطن والشعب. الحكام الذين يسعون إلى تغيير إيجابي في مجتمعهم ويسعون لتحقيق العدالة والمساواة، هم من يُخلدون في التاريخ، بينما أولئك الذين يظلمون ويستبدون تنتهي أسماؤهم مع رحيلهم، ولا يبقى لهم إلا الذكر السيئ.
في النهاية، “مات الملك عاش الملك” تظل تذكيرًا لنا جميعًا بأن الحكم ليس هبة أبدية، بل مسؤولية يجب أن تُحسن في خدمة الشعب، وأن الأثر الحقيقي للحاكم هو في القيم التي يتركها، وفي الطريقة التي يراه بها شعبه بعد رحيله.