إنفاق المغتربين كان خجولًا
“مؤشّر جمعية تجار بيروت وفرنسبنك لتجارة التجزئة”، صدر قبل ساعات متضمّنًا نتائج الفصل الرابع من العام 2022. وبقراءة سريعة له يتبيّن أنّ تحسّنًا طفيفًا في بعض القطاعات، إنّما “وَقْعُ” أموال المغتربين لم يكن بحجم “توقّعات” الأسواق!
وفي التفاصيل، فإنّ التراجع المستمرّ في قيمة الليرة اللبنانية، سرّع في إنخفاض القوة الشرائية لدى الأُسر اللبنانية. ويعود هذا التراجع إلى عدم التوصـّـل الى صيغ نهائية للقوانين المطروحة وهي: “الكابيتال كونترول”، “السرية المصرفية”، قانون إطار لإعادة التوازن للإنتظام المالي وغيرها. ومن الأسباب أيضًا: إقرار موازنة كانت محور إنتقادات وملاحظات جمـّـة، إصدار قرارات لوزارة المالية على أثرها (ضريبية وجمركية ونقدية ووظيفية وغيرها) تسبـّـبت باعتراضات عنيفة من قـٍـبل كافة الأطياف الإقتصادية والمدنية، ودفعت العديد من المؤسسات للتفكير جدياً بالإنتقال، مع موظفيها، الى الخارج، فضلاً عن عدم التوصـّـل الى إقرار صيغة مقبولة، داخلياً وخارجياً، لخطة تعافي إنقاذيّة تـُـعيد انطلاق الحياة الإقتصادية للبلاد، من دون أن ننسى عدم إحراز تقدّم في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي يوصد باب المساعدات، ليس من الصندوق فقط وإنما أيضاً من مصادر دولية أخرى.
وسط ذلك كلّه، ازدادت عمليات التهريب: في الوقود والدواء والسلع وأيضاً الدولار، وتعزّز الاقتصاد “الأسود” على حساب الاقتصاد “الأبيض”، ونتيجة لكلّ ذلك، سجـّـل الميزان التجاري في أواخر 2022، حوالى 18 مليار دولار، وهو مستوىً يفوق بكثير ما تتطلـّـبه الأسواق اللبنانية من واردات في الوضع الاقتصادي الراهن. لكن ما حرّك الأسواق ولو بشكل خجول، هو ما أنفقه المغتربون من مبالغ “طازجة” في مختلف قطاعات الأسواق المحلية خلال فترة الأعياد (ما يقارب المليار دولار).
وفي ظلّ كل تلك العوامل والمؤثرات، الإيجابية منها والسلبية، أعلـِـن أنه تمّ تسجيل نسبة نموّ بلغت 2% خلال 2022، كمؤشر الى أن وتيرة الانهيار، ولا سيما في القطاع التجاري، قد سجـّـلت بعض التراجع. وكما في الفصل السابق، فقد ظلّت العوامل الإقليمية والدولية (ولا سيما الحرب بين روسيا وأوكرانيا) تساهم في مواصلة إرتفاع معدّل التضخـّـم، إنما الضبط الذي تمّ ممارسته من قـٍـبل التجار والعروض الخاصة، ساهمتا في الحدّ نسبياً من وتيرة الارتفاع.
إلى ذلك، بلغ مؤشّر غلاء المعيشة، ما بين الفصل الرابع لسنة 2021 والفصل الرابع لسنة 2022، نسبة + 121.99% (بالمقارنة مع نسبة + 162.47% في الفصل السابق له)، فيما كان سجـّـل + 26.93% ما بين الفصلين الثالث والرابع (بالمقارنة مع نسبة + 25.23% للفصل السابق) .
وفي نشرة المؤشّر أيضًا، نقرأ ما يلي: إن نسب التضخـّـم التى يشهدها تقضي بشكل كبير على كل ما يمكن أن يحقـّـقه التاجر من تحسـّـن، ولو طفيف، في أرقام الأعمال، إن بالمقارنة مع الفصل نفسه من السنة السابقة، أو بالمقارنة مع الفصل السابق له. لذا، ظلـّـت الأرقام تشير الى تراجع عن مثيلاتها في الفصل الأخير من سنة 2022، وقد لامس هذا التراجع، كما في الفصول السابقة، نسبة الـ 100 %.
وبالتفاصيل، بعد التدقيق في أرقام الأعمال الإسمية (Nominal) المجمـّـعة لقطاعات تجارة التجزئة ما بين الفصل الرابع من 2021، والفصل الرابع من 2022، يتبيـّـن أن هنالك إرتفاعاً في هذه الأرقام بنسبة توازي 41.45 % ( للتذكير: إن هذا الإرتفاع يمثل نسبة الإرتفاع في أرقام الأعمال الإسمية بالليرة اللبنانية قبل التثقيل !) ..
إنما بعد عملية تثقيل تلك الأرقام بنسبة مؤشر غلاء المعيشة للفترة المعنية (+ 121.99 %)، يتبيـّـن أنها قد سجـّـلت بالفعل إنخفاضاً كبيراً لامس كالعادة الـ 100 %، وذلك في كافة قطاعات الأسواق التجارية، علماً بأن قطاع الوقود سجـّـل أيضاً هو الأخير إنخفاضاً في حجم الكميات التى تمّ بيعها (- 10.37 %) بالمقارنة مع الفصل الرابع من السنة الماضية. وبذلك، تشير تلك الأرقام الى أن حالة الإنكماش المستمرّة، لا بل التي تزيد شدّة، والى أن القدرة الشرائية في المجتمع اللبناني تشهد تآكلاً متعاظماً.
من جهة ثانية، ودائمًا حسب نشرة المؤشّر، فقد تسارعت أيضاً زيادة نسبة مؤشر غلاء المعيشة بين الفصل الثالث والفصل الرابع لسنة 2022، حيث تمّ تسجـيل نسبة + 26.93 % ما بين هذين الفصلين (بالمقارنة مع نسبة + 25.23 % التي تمّ تسجيلها في الفصل السابق)، وكانت النتائج التى أعلنت عنها القطاعات متفاوتة، البعض منها إيجابية (ولا سيما قطاع الأجهزة الخلوية)، إنما أكثريتها مسجـّـلة تراجعاً شديداً (مثل قطاع الملبوسات والأحذية، وقطاع المخابز والحلويات والتبغ، وأيضاً قطاعات الألعاب والكتب والصحف والمجلات إلخ…). ومن الملفت أنه تمّ أيضاً تسجيل تراجع بنسبة – 43.43 % في المجمّعات التجارية رغم الظروف الموسمية وزيارة المغتربين، في حين أن قطاع الوقود قد سجـّـل زيادة طفيفة في الكميات المباعة خلال هذه الفترة حيث تمّ تسجيل إرتفاع بنسبة 2.71 % فقط لهذه الفترة بالمقارنة مع الزيادة التي كان قد تمّ تسجيلها في الفصل الثالث (+ 13.40 %).
وعليه، جاءت النتائج المجمـّـعة لكافة قطاعات تجارة التجزئة لتسجـّـل، مقارنة بمبيعات الفصل الثالث لسنة 2022، مزيداً من التراجع في أرقام الأعمال الحقيقية المجمـّـعة خلال هذا الفصل. وقد بلغ التراجع الحقيقي (أي بعد التثقيل بنسبة التضخـّـم) للنشاط المجمـّـع نسبة – 21.28 % بعد إستثناء قطاع الوقود والمحروقات (بالمقارنة مع نسبة – 19.60 % في الفصل السابق).

وفيما يلي بعض نِسَب التراجع الحقيقي الفصلي في أهم قطاعات تجارة التجزئة: الكتب، والصحف والمجلات (- 72.27 %)، الأحذية (- 52.12 %)، الملبوسات (- 46.82 %)، السلع الرياضية (- 44.16 %)، المجمـّـعات التجارية (- 43.43 %)، المخابز والحلويات (- 42.28 %)، اللعب والألعاب (- 36.61 %)، السيارات (- 32.57 %)، التبغ ومنتجاته (- 32.40 %)، الأجهزة الطبية (- 30.59 %)، التجهيزات المنزلية (- 30.03 %)، معدّات البناء (- 27.57 %)، العطور ومستحضرات التجميل (- 24.35 %)، الأثاث والمفروشات (- 20.70 %)، الأجهزة المنزلية الكهربائية، والراديو والتلفزيون (- 17.33 %)، السلع البصرية والسمعية (- 17.22 %)، الساعات والمجوهرات (- 15.53 %)، المطاعم والسناك بار (- 14.54 %)، السوبرماركت والمواد الغذائية (- 0.54 %(.
أما القطاعات القليلة التى شهدت تحسـّـناً فتضمـّـنت: أجهزة الهواتف الخلوية (+ 35.12 %)، معدّات البناء (+ 27.57 %)، السلع الصيدلانية (+ 6.30 %)، المشروبات الروحية (+ 4.69 %)
وفي ضوء ما سبق، وبعد الإشارة الى أن المؤشر الأساس (100) الذي تم تبنـّـيه هو للفصل الرابع لسنة 2011، وأن تضخّم الأسعار خلال الفصل الرابع من سنة 2022، وفقاً لإدارة الإحصاء المركزي، بلغ + 26.93 %، وعليه، نعلن أن “مؤشر جمعية تجار بيروت – فرنسَبنك لتجارة التجزئة” هو: 1.07 للفصل الرابع من سنة 2022 مقابل 1.37 في الفصل السابق له.
إذاً، لم يكن مفاجئاً أن “مؤشر جمعية تجار بيروت – فرنسَبنك لتجارة التجزئة” للفصل الرابع من سنة 2022 واصل تدهوره، مسجـّـلاً في الفصل الأخير إنخفاضاً يلامس الـ 99 % بالمقارنة عمـّـا كان عليه في الفصل الرابع من سنة 2011. والعبرة تكمن في إعداد وتفعيل خطة تعافٍ كتلك التى قدّمتها الهيئات الإقتصادية اللبنانية تستنهض النشاط الإقتصادي دون أي تأخير أو تأجيل وتحرّك المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والجهات المانحة الأخرى.