د. غالب خلايلي يتوسط ديما والسيدة عقيلته
د.غالب خلايلي
إذا كان المثل يقول: “كلّ فتاة بأبيها معجبة”، فاسمحوا لي بـ قَلْبِ هذا المثل: فأنا معجب بابنتي، وهل يلامُ أبٌ حتى من دون أسباب؟ وما بالك إن تعدّدت تلك الأسباب، ومنها أن ابنتي ديمة سمعتْ منذ كانت جنيناً أمّهاتِ المقطوعات الموسيقية، فتعلّمت لغة الموسيقى قبل النطق، لتصبح متميّزة في كل شيء: الموسيقى،والغناء، والرسم، والقراءة، والهندام، وفن الطبخ والتذوّق، ناهيك عن حساسيتها الفائقة، التي تشبه قول الشاعر:
خطراتُ النسيم تجرح خدّيه
ولمسُ الحرير يُدمي بنانه
ولهذا اختارت ديمة (سليلة أصحاب المواهب المختلفة)، أن تدرس فنّ التصوير والإخراج في الجامعة الأميركية في الشارقة، لتتخرج وكلها آمال عظام، لكنها تُصدم بواقع مرّ لم تتصوّرْ أنها ستلاقيه في مدينة الأحلام بين 2018 (مع بوادر أزمة الاقتصاد) و 2021 (ثاني سنوات كوفيد)، بدءاً من البحث المضني عن عشّ للسكن (ولا أقول شقّة)، حيث المراوغة واردة والإيجارُ مبالغ فيه، ومروراً بالبحث عن عمل، في وقت تتضاءل به الأعمال، وتعلن بعض شركات إفلاسها، فتبدأ كريمتُنا بالمعاناة المُرّة، تتقلّب من شركة إلى أخرى لا تعدم فيها من يستغلّ ملامحها البريئة ولهفتها إلى العمل، دون تقدير لحقيقة قوتها (فهي عند اللزوم أحدّ من شفرة الحلاقة) ولا روعة موهبتها (وأسواقنا قلّ أن تفهم سوى العمل الآلي الضاغط)، فتفكّر كيف لا تستطيع أن تؤمّنَ مصروفها، وهي الخرّيجة التي تعتزّ فوق العادة بنفسها، فتشعر بها وكأنها رجلٌ كامل الأهلية والمسؤولية، وليست تلك الصبيةَ الرقيقةَ التي ما زالت في كنف عائلتها.
هنا قرّرت ديمة (بعدما رأت حلماً موحياً) أن تشدّ الرّحال من عالم الشمس إلى عالم الضباب في أيلول 2021، لتدرسَ الماجستير (في التصميم ثلاثي الأبعاد وأصول البحث) في كلية الفنون، جامعة ليدز بيكيت البريطانية، في أحضان طبيعة ساحرة عاش بها شكسبير ووليام وورد سوورث وآلاف العلماء والفنانين والمبدعين.

وما أسرعَ ما تمرّ الأيام التي تساقط أوراقها مثل أشجار الخريف! وتمرّ سنتان حافلتان بالعمل والأمل كالبرق، وتوشك ساعة التخرج أن تدقّ معلنة الموعد يوم (الخميس 20 تموز 2023)، فتبدأ قبلها بأشهرٍ رحلتُنا – الوعرةُ في مجاهل عالم الفيزا، أنا ووالدتها، فإذا بالمساعي تنجح بعد رحلة ورقية طويلة، وإذا بنا اليوم وجهاً لوجه أمام آلاف من الخريجين وأهاليهم في أحلى حلل وأبهى طلات وأجمل أخلاق، أتوا من مختلف بقاع الأرض، ليشهدوا هذا الحدث المهم في حياة أبنائهم.
ويا للجمال الرائع الفتّان في يوم نادر الشمس في هذه البلاد التي يملؤها البرد والمطر والضباب حتى في الصيف! شبان ملء العيون وشابات جميلات نضرات، يتألقون جميعاٌ بلباس تخرّجهم المميّز، يتنقلون في الحديقة وبين المباني التاريخية كفراشات بين الأزاهير والأشجار، ويلتقطون مئات الآلاف من الصور هم وأهاليهم المتألقون في يوم لا يُنتسى..
وبدقة إنكليزية صارمة، تبدأ المراسم الاحتفالية بعد أن تمتلئ المدرّجات الضخمة بالطلاب جهة اليمين، والأهالي في الوسط واليسار، كلٌّ في مكانه المحدّد سلفاً بسلاسة خيالية.
وعلى أنغام الموسيقى العذبة، تفتتح البروفيسورة سيلكه ماكهولدMachold Silke القائمة بأعمال رئيس الجامعة الحفل، وتقدّم رئيسَ مجلس حكّام الجامعة ديفيد لوين David LOWEN الذي قال في كلمة موجزة: “عندما أنظر إلى خرّيجينا اليوم تحت الأضواء أثق بأننا قمنا بدورنا كاملا تجاههم وتجاه أعضاء هيئة التدريس والمجتمع”، ثم يطلب من الخريجين الوقوف والتعبير عن مشاعرهم، فتعلو أصوات البهجة، ثم يُطلب الأمر ذاته من الأهالي، فيقف الجميع في حب آسرْ. تأتي بعدئذ كلمة عميد كلية الفنون الدكتور أوليفر براي Oliver Bray المطوّلة قليلا لكن المفعمة بالحيوية والتشجيع لدور الثقافة والفن، إذ يؤديان عملا نبيلا يُغني الحياة المليئة بالشدائد (ومنها ليالي كوفيد الطويلة ونهاراتها العابسة)، وقد أثبتت الفنون جدارتها، حيث أضافت 116 بليون جنيه استرليني في سنة)، وخلقت ثلاثة ملايين وظيفة، وحتى محليا وُجدت 48 ألف فرصة عمل في 8500 شركة، وإن كان الموظف بدرجة ميكي ماوس (مازحاً)، لكن ما له الأخير وقد جنى اسمه منذ العام 1928 اثنين وخمسين بليون دولار، إذن فالفنون عمل منتج خلّاق، وليست وظائف دونية. وأوضح العميد أنه كان مخططا لمدينة ليدز منذ 2015 أن تكون عاصمة الثقافة الأوربية، لكن خروج بريطانيا (البريكست) أفشل المهمة، دون أن يُفشل إرادة العطاء والتقدّم.

وما إن انتهت الكلمات حتى بدأت إذاعة أسماء الخريجين والخريجات، كلٌّ يمر بالعميد ويحييه بلمس قبعته وتنزيلها قليلا إلى الأسفل، والعميد يقابله بحركة مماثلة تعبر عن التقدير والاحترام المتبادلَيْن، ولا نغفل هنا ذكر بعض الحركات الاستعراضية المضحكة التي يقوم بها بعضهم على المسرح، ولا صفير الجمهور وصراخ بعضهم المألوف في جامعاتنا، كما اكتشفنا، فالطلاب هم الطلاب، والمشاعر هي المشاعر.
من تاريخ جامعة ليدز بيكيت( Leeds Beckett University أو LBU)
عُرفت هذه الجامعة سابقًا باسم «جامعة ليدز متروبوليتان» LMU وقبلها بـ «جامعة ليدز بوليتكنيك»، وهي جامعة عامة في مدينة ليدز، غرب يوركشاير، شمال إنجلترا. وتعود أصول إنشائها إلى العام 1824، مع تأسيس «معهد ليدز للميكانيكا». وقد أصبحت مؤسسة مستقلة للتعليم العالي في 1 نيسان 1989، ثم اكتسبت صفتها الجامعية في عام 1992، فيما اعتمد الاسم الحالي للجامعة منذ أيلول 2014. ومنذ 1992 تمّ تخريج 20668 طالب، فيما يضم مجتمع خريجي الجامعة الأقدمين 214800 طالب، يعيشون في 165 بلداً وقد بلغ عدد خريجي هذا العام 2023 ، تسعة آلاف طالب في مختلف المجالات، تمّ تخريجهم على مدى أيام.

في الختام لا يسعنا سوى أن نهنئ كل الخريجين، ونخصّ هنا ديمة، ونقول لها: مباركة جهودك. لقد تعبتِ فنلتِ ما تتمنين، ونرجو لك التقدّم والازدهار في عالم الحياة والأعمال، آملين أن تكوني وأمثالك مفيدة لوطنك وللإنسانية.
مانشستر، الأحد 23 تموز 2023