المعاينة عن بُعد بلا تأمّل وجسّ وقرع وإصغاء
د. غالب خلايلي
منذ قرون، ومهنة الطب (الإنسانية البحتة) تُمارس بالطريقة التقليدية ذاتِها: يأتي المريض إلى الطبيب (أو العكس أحياناً)، وتُجرى الخطوات المعروفة من استجواب مفصّل وفحص دقيق (تأمُّل وجسّ وقرع وإصغاء)، ليُصار إلى التشخيص المباشر في أكثر الحالات (90-95% عند الطبيب النجيب، أو أعلى عند صاحب الفِراسة)، ومن ثمّ العلاج، فيما يُلجأ إلى العوامل المُساعدة في حالات قليلة (مخبرية أو شعاعية أو تشريحية مرضية) عندما يستعصي التشخيص، أو عند الشك، لتغليب اليقين.
هذا هو ملخص اللقاء بين الطبيب والمريض منذ أبقراط والرازي وابن سينا وابن النفيس الدمشقي وأبي القاسم الزهراوي (عظماء الطب على مدى الدهور)، وانتهاء بآخر خرّيج دفعتْه إحدى كليات الطب المتكاثرة كالفطور، إلى سوق العمل في القرن الحادي والعشرين.
وفي كل ما سبق، يكون سلاحُ الطبيب الحقيقي هو عقلُه، في عملية فكرية دقيقة، ومن ثمّ يدُه وقلمُه الذي يخطّ التشخيص والعلاج على الورق، بخط رتيب جميل أو مقروء أو ربما رديء (كما اشتُهر عن خطوط بعض الأطباء)، ليقعَ من يفسّر الخط الرديء بحيص وبيص، وإن كان هذا لا يعني أن صاحب الخط الأردأ أقلُّ فهماً، بدليل أنه لا التشخيص ولا العلاج تحسّنا بعد تطبيق الوسائط الكتابية الحديثة، لأن المهم أولاً وأخيراً هو عقل الطبيب، والآليات العقلية المَنطقية التي تحدثنا عنها في التشخيص والتشخيص التفريقي ، فيما يكون الحَكَم هو الضمير، وهذا هو بيت القصيد في كل العصور.
* * *
أنْ تصبحَ الكتابة حاسوبيةً (أي يصبح الحاسوب أداة كتابة) أمر جميل، إذ يجنّب أخطاء الكتابة والقراءة، وقد كنتُ من أوائل من اقتَنَوا حاسوباً في زمنه عام 1989، قبل معظم الأتراب، بل حتى قبل الدوائر الرسمية، يوم كان الحاسوب جهازاً معقّداً وغالياً وبطيئاً (يمكنك مثلا أن تحضّر إبريق شاي قبل أن يجهزَ للكتابة)، وإذا أخطأتَ خطأ بسيطاً أو انقطعتِ الكهرباء فيومك أسودُ أو إذا شئت رمادياً، لأنّ عليك أن تبدأ من جديد.
لكن أن تصبحَ (العملية التشخيصية) بدءاً من دخول المريض حتى خروجه مُحوْسَبةً، فهنا قد تبدأ مشكلة، يختلف حجمها حسب الشخص والمكان والزمان. طبعاً، سوف يبتسمُ أفراد الجيل الحديث أو يقهقه بعضهم الذي لا يعرف كيف يُمسك بالقلم، ولا يعرف أحدٌ له خطاً، لأنّه مَسَخَ اللغة أو تعلّمها ممّن مسخوها، وصار كل شيء عنده تطبيقاً (App) حتى فتْحُ الباب وصنعُ القهوة.
أما لماذا وصفتُ الأمر بالمشكلة؟ فلأننا نحن الأطباء صرنا عبيدَ أهل التقنية، إذ حُيِّدنا عن المنصة وتصدّر أهل التقانة المشهد، فما عاد بإمكاننا الخطوُ خطوةً دون مساعدتهم ومراقبتهم، وربما مراقبةٍ أعلى، ليصبح الأمر أكثر تعقيداً وتكلفة، بسبب غُزاة الإلكترون وقراصنة المعلومات، وفيهم الهاوي القوي، أو الضعيف، أو ذاك الذي يتسلّى، ناهيك عن المحترف معدوم الضمير الذي يُمكن أن يسبّب (وأقرانه) كوارثَ حقيقية للمنشآت، فيبتزّها أسوأ ابتزاز. ألا يكون الأمن السيبراني (Cyber security) إذن مهمة من أصعب المهمات، ويجعل أصحابها أهل الحلّ والربط، فيما انتفى دورهم في الماضي، يوم كانت المستندات ورقية، ولا يمكن الحصول عليها إلا بخيانة أو بسطو مسلح، ولا يمكن تدميرها إلا بحريق أو قصف، فيما يمكن مراهق على بُعد آلاف الأميال أن يخترق حاسوب أقوى المؤسسات؟
وهنا لا بدّ من استثناءات، بعضها إيجابي، إذ إنّ ثمة أطباء يتعلّم استخدام الوسائط الحديثة مهما بلغ من الكِبَرْ، وبعضها سلبي، وهذا راح يسود في بلادنا مع شحّ الموارد وغياب الإمكانيات، فكيف يمكن اعتماد التقنيات والطبيب لا يملك حاسوبا مثلا، أو لا تتوافر لديه الشبكات المناسبة من كهرباء وشابكة؟

يحدثني زميل عتيقٌ عن تجربته قائلاً: عندما آتي إلى عيادتي، أسمّي بالله وأدعوه أن يحفظها، لكن لا أخفيك أنني أحافظ على ضغطي طبيعياً فيها بالقوة، وأنا أواجه السياسات المستفيضة، والتنظيمات الإلكترونية المُكلفة والمعقّدة، تلك التي لا يمكنني إنجازها وحدي مهما (تشاطرت). صدّقني أنني أنام كل ليلة بعد أن تتلفَ أعصابي، وأستيقظ على ما يشبه الكابوس، أهذي بملفّ ما، ولا أدري بعدها كيف ينسلّ اليوم. يشبه ما أنا فيه تعلّم الهيروغليفية أو الصينية من أجل العمل. إذن لا بدّ أنا واقع تحت رحمة أهل التقنية، وليت واحداً يكفي، إذ لا بد من عدة أشخاص كي ينجزوا المطلوب، وبعض هؤلاء (مع تعدّد جهاتهم، وشدة الطلب عليهم) ليسوا بالكفاءة المطلوبة، ولا بالمتناول، ولهذا هم متطلّبون قياساً إلى حجم العمل المطلوب منهم، وإلى الإنتاجية في أوقات الضائقات، وهم غير عارفين بحالك فحسب، بل واثقون من حاجتك، فإمّا هم، وإما المخاطر التي تنتظرك (الغرامات مثلا)، ومن ثمّ دمار مشروعك الذي تعبتَ عليه عقوداً.
يتابع صاحبي قائلاً: ولأني لم أعتد الاستسلام، ولا أريد أن أصبح (عبداً) في مكان آخر يفرض شروطه القاسية في عالم غابت عنه القناعة، أقبل السباحة في بحر لجّي لا أدري كيف أخرج منه سالماً (ولو مبلولا) إن قصّر أهل التقنيات أو غدروا، وكم يحدث هذا، وكم هي معقّدة الآليات المطلوبة لعيادة صغيرة تناضل من أجل الاستمرار، فتعامل كما لو كانت مستشفىً يسخّر فريقاً من التقنيين بميزانية مُجزية، ولمَ لا ما دام يجني الكثير، بعدما تحوّل الطبّ (ولا أعمّم) إلى تجارة، والمرضى إلى سلع؟
* * *
الوجه السلبي الآخر للحياة التقنية هو غياب التفاعل الاجتماعي، وإهمال التفكير أو جعله في المقام الثاني، فعندما يقف الحاسوب بينك وبين المريض، فلا يرى وجهك ولا ترى وجهه (كما يشتكي كثيرون)، وعندما يفكّر الحاسوبُ عنك، فيقودك بدلاً من أن تقودَه، وعندما يصبح التخاطب بين الزملاء بالرسائل فقط، تُفقد ميزات مهمّة من حياة الطبيب، ناهيك عن المرضى، نوضّحها بالأمثلة التالية:
-فهذه، أوليفيا ثورنتون، طبيبة أعصاب إيطالية تتحدث عن زميلٍ مارس الطب نحو خمسة عقود، وما فتئ يتغنّى بـ (الأيام الخوالي) بل يتحسّر عليها، عندما كان الأطباء متفاعلين، يتناولون الغداء معاً، ويتشاركون المناسبات الاجتماعية، خلافاً للوقت الحاضر الذي يبدو فيه الطبيب (المعاصر) حبيس نفسه، يتناول الطعام وحده، ويحملق في الحاسوب والبيانات، فصار إنساناً آلياً خالياً من التفاعل.
– وهذا فرنسيسكو سيمولا طبيب علم الأورام في إيطاليا (63 سنة) يؤيدها، ويؤكد أن ما سبق سيؤدي إلى إفقار الطب، وفقدان الثقافة والخبرة عند الزملاء الأصغر سنًا، الذين سوف يعانون أكثر من متلازمة الاحتراق المهني، فيما يكمن الحل بالعودة إلى أنسنة الطب.
– وهذه الزميلة طبيبة التخدير العربية ل. ح تحمد الله على التقاعد، وتقول إن زملاءها الذين ما زالوا يعملون يعانون كثيراً من التعقيدات الإلكترونية، وترجو لو تتحقق أنسنة الطب.

– أما طبيب العيون الأميركي كالفن نيكولاس (89 سنة) الذي بدأ عمله عام 1966 مع عدد قليل من الزملاء في منطقة فقيرة توافرت أرقام (Pager النداء الآلي) بفلوريدا، فيتحدث عن الشعور العميق للزمالة في ذلك الوقت، أما بعد تقاعده فيخبرنا أن معظم الممارسين يختبئون وراء خدمة الرد، ومركز الرسائل، ومكتب الاستقبال، والمناطق المحمية (بالممرضة المسؤولة مثلاً)، حتى يصبح من المستحيل الوصول إلى الطبيب، فيما اعتاد كالفن أن يرى حالات الطوارئ الليلية وعطلات نهاية الأسبوع، بسهولة في مكتبه، إذ كانت جميع المعدات والأدوات والسجلات في متناول يده. أطباء اليوم لا يعرف بعضهم بعضاً، إلا ما ندر، ولك أن تتخيل (نتيجة هذا الفقر الاجتماعي) وجود رقم مساعدة يتصل به أولئك الذين يشعرون بالاكتئاب أو الانزعاج من الدعوى القضائية أو إرهاق العمل أو اضطراب ما بعد الصدمة، والسبب غياب أصدقاء مقرّبين تمكن محادثتهم و(الفضفضة) لهم.
-وتخبرنا طبيبة الجلد الإيطالية فيليسيا غالو أن الأطباء الشباب فقدوا مع التطوّر التقني الثراء الذي تمنحه لهم العلاقات الإنسانية مع المريض، فكم من حالة لجأت إليها لطلب النصيحة، وكم أتتها بطاقات لزفاف مرضاها. هذا اجتماعياً، أما طبياً، فقد كان يستحيل وضع تشخيص دون العودة إلى أصول الطب، لأن التقنيات المتاحة كانت قليلة.
-وأخيراً نذكر طبيب الأعصاب الأميركي هوارد تكر Tucker الذي يبلغ المئة اليوم، وما زال يمارس الطب منذ 75 سنة في كليفلاند (أوهيو) وغيرها، ليخبرنا أنه اختار تخصصه لأنه عقلي جداً، ولأنه سعيٌ فكري قبل اختراع التصوير المقطعي، إذ كان على المرء أن يعمل بجد من أجل التشخيص، ويتضمن ذلك، بعد الاستجواب والفحص، بزل السائل الشوكي، وتخطيط كهرباء الدماغ. يقول: كنا نرى المريض، ونتصل بالطبيب المحوّل، ونناقش (الحالة) معه بطريقة ممتعة جدا. الآن، عندما تتصل بالطبيب يقول لك: “دعني أقرأ ملاحظتك”، وهذا نهاية الأمر! لا يريد التحدّث معك. لقد تغيّر الطب بشكل كبير. كانت لدينا علاقات دافئة للغاية بيننا وبين مرضانا. كنا ننظر إلى مريضنا، وندرس تعابيره، والآن ينظر الزملاء إلى الشاشة، ونادرًا ما ينظرون إلى المريض.
نذكر كل ذلك دون أن نستعرض أمرين مهمين:
أولهما، أن الأنظمة الإلكترونية ليست وصفاتٍ سحريةً ولا كتباً مقدسة، فهي كثيراً ما تتباطأ وتعيق وتتعطّل وما أكثر ما نرى أو نسمع عبارة (System Error) فتعطّل أفراداً أو طوائف أو مدناً، كما إنها قد تكون متخلّفة عن الركب وذات نواقص مهمّة، ما دام منجزُها بشراً، أو أن العاملين بها دون المستوى، فإذا بالمعاملة التي تحتاج دقائق لا تنتهي بأسبوع أو أكثر، وإذا بإشارة مرور معينة تصلبك فيما تتحرك باقي الإشارات حولها دورات وهي واقفة، والأمثلة المعيقة (رغم كل فوائد التقنية) لا تنتهي.
وثانيهما، وجهات نظر الهدف (أي المرضى)، وكثير منهم بالتأكيد غير سعيد أمام التكاليف العالية والتجاهل الذي تفرضه التقنية، والوقت الطويل الضائع في تعبئة البيانات (إذ تأخذ 90% من الوقت، فتعيق رؤية مرضى منتظرين)، الأمر الذي أنشئت من أجله في بعض الأماكن كتائب مساعدة تكتب بإسهاب (من أجل التأمين) عوضاً عن الطبيب، وهنا لا بد أن نذكر بأنه لا رقيب على ما يكتب سوى رقابة الضمير، فمن هو الذي ينظر بعين هذا الطبيب أو ذاك أو يسمع بأذنيه؟ لنؤكد أن علم الطبيب وضميره صاحبا المكانة الأولى قبل كل توثيق..
* * *
لقد صارت ممارسة الطب اليوم – للأسف، وحتى قبل التطوّر الإلكتروني- موجعةً بحق، خاصة بالنسبة لطبيب لا يريد أن يقف الحاسوب عائقاً بينه وبين مرضاه، وبينه وبين زملائه، وكذا لا يريد أن يحوّل عمله إلى تجارة تعتمد استئجار آخرين، إذ لا يريد أن يرهق مرضاه بممارسات مكلفة ومؤلمة مادياً ونفسياً (تخيل اضطراب عائلة بأكملها عند قبول مريض في المستشفى لاسيما دون حاجة)، وإن كانت بطاقة التأمين من (النوع الفخم الذي يغطّي) التكاليف المبالغ بها، وكذا تكاليف الحياة الفخمة لأطباء لم يعد يقنعهم، في سباق الحياة المحموم، شيء.
أما وأن التقنية هي أسّ الحياة اليوم وعمودها الفِقْري، ولا مجالَ للتراجع خاصة بعدما عمّق أسسها كوفيد، أتساءل، مع غياب الأمل بأنسنة التقنيات: أبتنا جيلاً عفا عليه الزمن، أم أن الزمن عفّت عنه العافية…
الجواب ليس سهلا، وأتركه لضمائركم وخبراتكم وللزمن.
العين في 12 تشرين الأول 2022