في العيادة ذات اللون البنفسجي
في الرابعَ عشرَ من تشرين الثاني (نوفمبر)) 2022، دخلتْ عيادتي في العين (في الإمارات) سنتها الخامسة والعشرين بصمت[1]، وهذا الصمتُ اعتدتُ عليه آخرَ خمس سنوات، سنواتٍ لم تعدْ تشبه ما قبلها لظروفٍ عامة مختلفة، هي بعموميّتها لا بد أن تتركَ بصماتِها على الخصوصيّة.
أعود إلى حماسة الشباب المشوبة بالخوف والترقّب التي بدأتُ أعدّ بها العدة لافتتاح عيادتي عام 1998 بعد عَقد من وظيفة حكومية (في مستشفى العين). كنتُ مصمّماً على الخروج من شرنقة الوظيفة العامة مع أن كثيرين يتمنّونها كما تمنيتها، إذ إنّ العَقد الذي قضيتُه فيها أرهقني جسدياً ونفسياً، وإن جنيتُ به خبرةً ممتازة نتيجة العمل المتنوّع الضخم، وكذا الاحتكاك بأساتذة كبار أتَوا للتوّ إلى كلية الطب الناشئة، وأذكر منهم أوّلهم وأجملهم الأسترالي الاسكتنلندي جورج ماكسويل (وكان بارعاً في كل فروع طب الأطفال)، والنيجيري داوودو أستاذ طب الخدّج، والسويدي بو لندبلاد أستاذ البحث العلمي وأمراض الهضم، وكثيرين، رحمهم الله أكانوا أحياء اليوم أم في دار البقاء.
لم يكن أمر النقلة سهلاً لا شكلياً ولا مادياً، ففيه مغامرة كبيرة إذا فشلتْ انتهيتُ معها. ومع أن الأمورَ كانت معقّدة بالنسبة لشخصٍ قضى عمره طالباً (بيتوتياً) مجتهداً ثم موظفاً، وينحدر من عائلة لم تعرف بعد نكبة 1948 (وما ضاع من أرزاق) سوى العلم والثقافة طريقاً، إلا أن شجرة الرحمن ظلّلتني منذ لحظةٍ قابلتُ بها مدير التراخيص في وزارة الصحة بأبوظبي (لعله د. تيسير) الذي بدا أنه يعرفني على صغر سني النسبي (38 عاما) من كتاباتي، فكان كريماً جداً معي ومع مرافقي الأديب وليد مدفعي[2]. بعدها رحتُ أجمع بدأب بالغ صفحاتٍ من المتطلبات، إذ لا توجد مجتمعةً في مكان، ولا أحد يدلّك بالضبط على المطلوب. أما مادياً فهنا بيت القصيد، إذ أنفقتُ نحو مئتي ألف درهم هي كل ما معي (ومن ضمنها تعويض نهاية الخدمة الذي طار بعد دقائق من تسلّمه، أجرةً للبيت والعيادة لمدة سنة).

هل تصنع كلمةٌ فرقاً؟ هذا ما حدث عندما سألتُ سيدةً فاضلةً عن أهم شيء تبحث عنه في عيادة أطفال. أجابت: الطبيب! فلم أعد حائراً في اختيار المكان، ولا في خيارات أخرى، تعاونتُ مع كثير من الأصدقاء (أثمن ثروات الحياة) في جلبها أو صنعها. كنّا حقيقةً ننحتُ عيادةً في الصخر، كأنها ستدوم لعقود، وما ذلك إلا لحبّ الكمال والجمال، ضمن حدود الممكن.
بالطبع، هناك دائماً وفي أي مجال من يسحبك إلى الوراء ويخيفك من الفشل، ولكنني ما تراجعت، بدليل أنني اعتذرتُ عن عرضين معقولين، وأنا على نصف المسافة من العيادة. الأول: عرض عمل من مستشفى توام القريب بعد أن قدّمت استقالتي (التي قُبلت، خلافاً للمألوف، بصعوبةٍ بالغة)، وهو عرضٌ جيد إذا عرفتَ أن المستشفى (الأميركي التأسيس) أكثر دلالاً، حيث العمل أقل، والتجهيز أفضل، والراتب شبه مضاعف. والثاني: من المرحوم الأستاذ سامي القباني (جراح القلب الشهير الدمشقي وصاحب مجلة طبيبك) الذي اختارني لمنحة إيطالية في ميلانو من أجل التدريب على اختصاص القلب، على أن أعود إلى مستشفى الأطفال بدمشق، قسم جراحة القلب المنوي إنشاؤه بالمنحة الإيطالية (وقيل إنّ وراءها رجل دين شهير). فكّرتُ كثيراً وقتها، ولكني اعتذرت، إذ كان العرض الأول متأخراً جداً، والثاني رأيت فيه أن بضعة أشهر لا تكفي لصنع طبيب قلب مرموق، خاصة أن المنحة لم تشمل متطلبات العائلة. هكذا شاء القدر، وكما يقال: لو عرفتم الغيب لاخترتم الحاضر، فقد تأخّر إنجاز المشروع حتى 2011، أي ثلاث عشرة سنة مثمرة من مسيرة العيادة.
الذكريات بحلوها ومرّها كثيرة ولا شك، لكني أتذكر لحظةً فارقةً عُلّقتْ بها اللوحاتُ الضخمة للعيادة خارجها وعليها اسمي بخط كبير (وكان القانون يسمح بذلك) كيف هاجمني شعورٌ غريب مثل من علِق قاربه في عرض البحر الهائج، وعليه أن يصل سالماً. لقد بتُّ مكشوفاً تماماً، فما عاد مستشفىً كبير يرعاني، ولا زميلٌ أكبرُ يؤازرني، ولا تمريضٌ يساعدني، ولا استقصاءاتٌ تؤكّد تشخيصي، فأنا المسؤول الأول والأخير عن كل التفاصيل[3].

ها قد افتُتِحت العيادة باحتفال مهيب كتبت عنه الصحف المرموقة (وأنا واحد من أبنائها)[4]، وقوبلت بحبّ كبير توضّح بعد نصف عام. ولم يتغيّر الأمر بعد سنوات طويلة من دخول التأمين الطبي الذي بدأ عام 2006، وبقيتُ خارجَه حتى اليوم، بل على العكس، تحسّن العمل، الذي لم يؤثّر عليه حتى بناء مستشفيات خاصة كثيرة، وواحدٌ منها كبير ملاصقٌ لعيادتي (أيضاً 2006)، المؤسف فيه أنه أطاح بغابة النخيل الجميلة المجاورة لي.
عدة أمور مؤثّرة حدثت بعد أقل من عَقدين، أوّلها: حضور أطباء كثر من أماكن الاضطرابات العربية. وثانيها: فوعة المراكز الكبيرة والمستشفيات الخاصة. وثالثها: (ثورة) وسائط التواصل والدعاية، فما عاد المرء يفتح عينيه في صبح أو مساء إلا ويجد دعاياتٍ ترويجية، كثير منها غير دقيق أو مضيّع للوقت، والأسوأ أنه بات من لا يعمل بهذا (السحر) كأنه غير موجود. بتَّ ترى دعايات لأطباء في الشوارع تذكرك بنجوم السينما القدماء مثل رشدي أباظة، ورحتَ ترى على وسائل التواصل ما لا يقبله عقلٌ واعٍ، ولكنه العصر ووسائله وناسه. أدّعي أن كل ذلك أضر بالثقة وبالمهنة الطبية، خاصة أنها غدت مادية بحتة في بعض الأماكن ومرتبطة بهدف[5] Target دون أثر جيد مقابل، إن لم يلحق ضرراً عميقاً في بشرات الناس وأسنانهم وكيميائهم ومناعتهم، عبر استنزاف الأدوية والتحاليل والقبول غير المبرّر، استغلالاً للجيوب أو بطاقات التأمين، ليلعبَ التموّجُ الاقتصادي، مثلما حدث في أزمة كوفيد 19، دوراً قضى على عيادات ومراكز كثيرة، وأضرّ بأطباء وممرضات ضرراً كبيراً.
واليوم، بعد خدمة خمسة وثلاثين عاماً خارج الوطن الأم، الوقت الذي يفترض أن يخفّف فيه المرء الأعباء أينما كان (ولا أقول يتقاعد)[6]، يجد نفسه ملاحقاً بواجبات تفرضها الالتزامات الحياتية:
1- التراخيص: وتصعب يوماً بعد يوم، فإمارة أبو ظبي، المنارة المتميزة، تنفرد دون باقي الدول بأصعب الشروط، سعياً وراء الكمال، ولهذا تجد مرافقَها عموماً، ومستشفياتِها خصوصاً، من الأكمل والأجمل في العالم، وأحمد لله أنني بقيت صامداً في وجه العاصفة التي ذكرتها قبل قليل، وغيرها لاسيما الصحية، واستطعتُ تحقيق الشروط الصعبة (مثلاً آخر تفتيش لعيادتي المتواضعة بدأ، بوجود مهندس إلكترونيات خبير يساعدني، في التاسعة والنصف صباحاً وانتهى في الخامسة والنصف مساء).
2- التكاليف: وهي كثيرة في بلد شروط العيش فيه عالية، ولا أقفُ هنا عند التفاصيل، ولا تبدل السلوك المالي للناس (خاصة وأن عيادتي المستقلّة الوحيدة لا تعتمد التأمين)[7]، وأذكر أن أي يوم عطلة أو إجازة أو مرض هو يوم تتراكم فيه المصاريف ويتوقّف الدخل.

3- تقدم العمر: ومعه تتسلل الشيخوخة إلى العظام والمفاصل والأجهزة (فلا تعود مطواعة كما من قبل)، عدا مفاجآت الأمراض، ومعها يتضاعف الضمان الصحي ويزداد التعطيل. إن ابن الستين والسبعين ليس مثل ابن الثلاثين والأربعين، وهو يجد نفسه في الظروف الصعبة بين خيارات صعبة أيضاً، ما بين الاستمرار أو الرحيل أو الهجرة.
هنا أحمد الله أنني أتابع عملي بوتيرة مقبولة مريحة، وهذه الجزئية المهمّة (حقّي في الراحة) يفهمها مريض، ويتقبّلها بحكمة، فيرتاح، فيما لا يقدّرها آخر مستعجل، فيبحث عن بديل (وهذا حقه، وما أكثر البدائل) لتريحه فيختفي، أو لا تريحه فيعود.
أنا وأمثالي، بعد طول الممارسة، نتمتّع بخبرة واسعة، وذهنية عالية نرجو أن يحفظها الله، وأن يستفيد الناس منها، لكننا بالمقابل غير قادرين على الركض والدوام الطويل والسهر (مع اختلاف قدرة التحمّل بين طبيب وآخر في العمر نفسه أو أكبر).
هل تكفي أسطر قليلة للحديث عن ربع قرن (أو ما يزيد عن ثلث قرن بإضافة العمل الأول) كبر فيه من كنا نعالجهم وصرنا نعالج أولادهم؟[8] لا بالتأكيد. هي سيرة عمر فيها الكثير، ومسيرة دؤوبة لم تكلّ في الاجتهاد والمواظبة، فتكللت بالنجاح والسمعة العطرة، رغم التحدّيات التي لا بد منها (والمفاجآت المؤلمة أحياناً).

وفي الوقت الذي تهدأ به حركة المرضى ويعمّ السكون عيادتي البنفسجية (وهو لون مدينة العين المفضل، ويدعى العيناوي، نسبة إلى شعار فريقها في كرة القدم)، ألجأ إلى قراءتي وكتابتي، فأشعر بالراحة والاطمئنان، كما الوليد في حضن أمه، فأستخلص لكم من رحيق تجاربي كتاباتٍ معطرةً، آمل أن تصلكم عبر الحبل السرّي الذي يربطني بكم، فتفيدكم وتسرّكم، راجياً لكم الصحة والسلامة والطمأنينة وطول العمر.

—————————-
[1] كنا في البدايات نقيم حفل غداء في حديقة غناء من حدائق العين، في ذكرى افتتاح العيادة، يجتمع فيه الأصدقاء من كل حَدَبٍ وصوب، واليوم تفرق هؤلاء (بمن فيهم أولادي الذين كبروا) في أماكن لا تحصى من العالم، وغادر بعض الأصحاب الكرام الدنيا مأسوفاً على عشرتهم الطيبة.
[2] وليد مدفعي (دمشق 1932-2008) هو كيميائي صيدلاني وأديب شهير عمل في الصحافة والإذاعة والمسرح وعالم الأدوية وتصنيع العطور، وأصدر كتباً كثيرة أولها (مذكرات منحوس أفندي 1960)، وهو والد زوجتي الذي شجعني كثيراً بما عنده من خبرة على ولوج عالم القطاع الخاص.
[3] لهذه الصعوبات أحجم كثيرون في العقدين الماضيين عن افتتاح عيادة خاصة، لا سيما بعد أن صعبت الشروط مع الزمن، فبقيت عيادتي الوحيدة المستقلة في طب الأطفال، فيما الأطباء الباقون (لعلهم مئات) منضوون تحت ألوية المستشفيات أو منضمون إلى مراكز متعددة الاختصاصات.
[4] الخطأ الشائع أن يقال: غطته الصحف ترجمة لكلمة Cover الإنجليزية.
[5] الهدف Target كلمة تعني أن الموظف ملزم بتحقيق دخل لا يقل عن الرقم المذكور في الهدف، والمتعارف عليه أنه ثلاثة أضعاف الراتب، وما زاد يعطى عليه نسبة، وما نقص يمكن أن يعفيه من مهامه، ولهذا يقبل الملتزم بالهدف أن يختلق عند المريض ما يزيد الدخل! أو.. يرحل.
[6] لست مؤمنا بتقاعد الطبيب التام (أو أي شخص صاحب خبرة) ما دام قادراً على العطاء.
[7] غياب التأمين أكسبني أناساً أعزاء، وأفقدني أيضاً أناسا أعزاء، وأنا اليوم غير قادر على مجاراة متطلبات التأمين الكثيرة وانتظار الموافقات المتشككة، ولا بوارد استقطاب عدد أكبر من المرضى، الأمر المرهق لي لو اعتمدت التأمين، علماً أن العيادة لم تقف عائقا بوجه أحد لا يملك ما يكفي ولا يستطيع تأمين العلاج لأطفاله.
[8] لا يشكل هؤلاء أكثر من واحد بالألف على من مرّوا على العيادة، فعيادات الأطفال سريعة التقلب، إذ تستقبل أجيالاً وراء أجيال، يختفي معظمها في بلدانهم الأصلية أو المهجر الذي شاع اللجوء إليه في العقدين الماضيين.