مع أ.د. فادي علول عميد كلية الهندسة
د. غالب خلايلي
ها قد عاد آخر العنقود ولدنا سامي إلى البيت الخالي من إخوته الذين غادرونا مثل معظم أقرانهم إلى بلاد الله الباردة. عاد أخيراً قبل يومٍ وليلة فحسب من حفل تخرّجه في الجامعة، بعد أشهر من غياب حافل بالجدّ، عاد ومعه كل أغراضه المتواضعة التي رافقته نحو أربع سنوات في غرفة صغيرة غالية التكاليف ضمن حرم الجامعة، من ثلاجة صغيرة وبضعة صحون وملاعق ومقلاة وحاجات شخصية من ملابس وحاسوب ثقيل، هو العمود الفِقْري في حياته الجامعية، التي ابتدأت في البيت سنةً كاملة أيام الجنرال كوفيد التاسع عشر (2020)، حيث تابع كلّ دراسته في علوم الحاسب Computer Science وامتحاناته من غرفته Online في أيام باهتةٍ وليالٍ طويلة ما خلنا أنها سوف تنتهي، وكم رافقتْها مشاعرُ الكآبة مع غياب أيّ نشاط. قبل أيام قليلة فقط غادرتْنا أخته الأكبر منه مباشرة إلى ضباب لندن وصقيعها، شاقّة طريقاً صعباً في الحياة، إذ لم تتآلف وأجواء الدفء.
في السابعة إلا ربعاً من صباح السبت 21 كانون الأول 2024 البارد، أيقظ سامي أمّه التي أيقظتني بدورها والنوم ما زال بعينيّ. أنا لا أستيقظ عادة في مثل هذا الوقت، ولمَ العجلة للركض إلى عيادة صارت مع العطل المدرسية أبردَ من ثلج كانون، ولولا الحاسوب فيها، أبثّه نبضاتِ قلبي، ما أحسستُ بأي دفء. ركضتُ كثيراً في الماضي، بجدوى (أهمّها تعليم الأولاد) وبغير جدوى (فالمفاجآت تطيح بالأحلام)، على أنني كنت قد حضّرتُ نفسي أمس، حلاقةً للشعر وتجهيزاً للملابس، فلا أضيع الوقت الثمين في الصباح.
نحو الثامنة إلا ربعاً قادنا سامي هذه المرة في شوارع العين الفسيحة التي تعانق شمس الصباح الدافئة. انطلق في طريق العين – دبي الدولي، لينعطف بعد نحو 130 كم إلى شارع الشيخ محمد بن زايد (E611، الإمارت سابقاً) الذي يوصل بدوره بعد مسيرة نصف ساعة إلى مفرق الجامعة الأميركية في الشارقة AUS، بمعونة العم غوغل، وحمداً لله أنه لم يكن مزدحماً، مثل يوم ذهبنا به مساء قبل عامين، إلى حفل تكريم لسامي أيضاً، فكدنا نفقد الأمل بالوصول، وأنا الذي أغلي من مرضٍ ألم بي، ومن زحمةِ الطريق.
ها نحن أولاء أخيراً أمام فسحةٍ واسعة فيها حرم الجامعة البهي، في طريقنا إلى مبنى الاحتفالات الضخم، وقد امتلأت باحاتُه الجانبية بسيارات الناس القادمين، وبسيارات الشرطة التي تحمي المكان.
صفّ طويل من أجل الدخول والفحص الأمنيّ، وأنا برفقة زوجتي (إذ تركَنا سامي متوجّها إلى الحفل).
الله، الله، ما هذه الكائنات الرقيقة في الدور الطويل: صبايا كنوّار الزهر، رحنا نتسلّى معهن بالحديث، ويا لمحاسن الصدف: هذه من يافا، وتلك من حيفا، وثالثة من نابلس، أقمار مشرقة في أحلى صباح. لم أنتبه إلى الصف الخالي على يسارنا حتى نبّهني الحارس إلى أنه يمكنني الدخول منه، وقد خُصّص للذكور، فسحبتُ زوجتي معي، كيلا تضيع عنّي في الزحام.
في تمام العاشرة صدحتِ الموسيقى مؤذنةً ببدء الحفل. حاولنا الدخول عبر الطابق الأرضي فمنعَنا الحراس لأنه مليءٌ عن بَكرة أبيه، فصعدنا أدراج طابقين، ودخلنا قاعة ضخمة تعلو الأرضية، وهي الأخرى تغصّ بالناس من كل الأعمار، مع كم كبير من سلال الورد وطاقاته الجميلة بأيدي صبايا يانعات.
نصف ساعة والموسيقى تصدح ريثما دخلت أرتال الخريجين والخريجات إلى المقاعد المخصصة في المنصة، فيما الجهاز الإداري والأكاديمي حاضرٌ بملابسه التقليدية الجميلة، تتقدمهم الرئيسة والمستشار الأعلى، لينتظم الطلاب والطالبات أخيراً بأحلى حللهم السوداء المزيّنة بأوشحة حريرية تختلف حسب الاختصاص، ما بين عسلية ومشمشية وألماسية وبنفسجية، تعلو رؤوس الجميع قبّعات التخرج. كانوا نحو 454 خريجا بين دكتوراة وماجستير وشهادات أساسية في الهندسات المختلفة والفنون، من 39 جنسية مختلفة، غلبت عليها الإناث (241 مقابل 213)، وشكل أهل البلد نحو 28%.
وبعد تلاوة عطرة من القرآن الكريم، ألقت رئيسة الجامعة سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي كلمة ترحيبية أكدت فيها أن “الآباء والأمهات هم الأبطال الحقيقون، وأن الاستثمار في التعليم أفضل هدية”. وخاطبت الخريجين: “ثقوا بأن تعليمكم في الجامعة زودكم بالثقة والنزاهة والهدف لتحقيق النجاح، فدعوا مواهبكم الفريدة تتألق، واجتهدوا لإحداث تغيير إيجابي في مجتمعاتكم وخارجها. تذكّروا أنكم جزء من عائلة الجامعة، وهي شبكة تمتد عبر القارات، ولكنها متصلة بعضها ببعض من خلال الخبرات المشتركة والالتزام بالتميز. أنا فخورة جداً بكل واحد منكم، وواثقة من أن رحلتكم إلى الأمام ستترك أثراً دائماً”.
بعدها ألقى المستشار د. تود لورسن Chancellor كلمة هنأ فيها الخريجين: “لقد وصلتم إلى مرحلة رائعة! وبينما تخطون إلى الفصل التالي، نشعر بالفخر والإثارة للرحلة التي تنتظركم. وأنتم تتركون بصمتكم في العالم وتُسهمون في التقدم، نأمل أن تحملوا دائمًا قيم الخدمة والتفاني. هذه أيضًا لحظة للتفكير في الدعم الذي لا يتزعزع من أهليكم وأساتذتكم وأصدقائكم. إنني أشجعكم على مواصلة التطور والسعي لتكونوا قوة قوية للتغيير الإيجابي في هذا العالم، مرتكزين على اللطف والنزاهة والرحمة، مما يجسد التميز المهني والالتزام بتحسين المجتمع”.
ثم جاء دور الضيف كريس جاردنر رجل الأعمال الشهير، المتحدّث والمؤلف الذي ألهمت قصة حياته الملايين، في رحلته من التشرد إلى أن يصبح رجل أعمال ناجحاً.
ينبغي أن أهمس في آذانكم أن الصوت في قلعة الهندسة لم يكن قوياً بما فيه الكفاية كي يصل كل الأسماع، خاصة أن هناك من يحتاج إلى صوت أعلى (كبار السن مثلا)، لكنّي فوجئت أنه حتى الشبان في المنصة لم يسمعوا بشكل جيد، مما جعل بعض الحضور يغفو مرتاح الضمير وسط همهمات الجمهور. على أن الصوت علا عند إذاعة أسماء الخريجين كي يستلموا شهاداتهم من رئيسة الجامعة بالغة الرقة والأناقة، لتعلوَ بين خريج وآخر صيحات حماسية، بعضها ناشز لا يتناسب والقيمة الحضارية للمكان، لكن: هكذا هم الطلاب عبر السنين، فالأمر كان مماثلاً قبل ثلاثة عشر عاماً عندما تخرّجت ابنتي الكبرى ريم، ثم أخوها لؤي، ثم ديمة، وكان كذلك في جامعة ليدز البريطانية العام الماضي.
وأخيراً جاء دور ابننا سامي، الذي أذيع اسمه في أواخر الحفل، وكنتُ قد تجمّدت من طول الجلوس والبرد (رغم ملابسي الشتوية)، فخرجتُ إلى البهو المزود بالشاي الساخن والقهوة والحليب، وأنواع العصير الجاهز (مع قطع ليمون لمن يرغب)، فإذا به يعج بأهالٍ أنيقين مبتسمين في جو ودي دافئ جميل، يحتلفون بأبنائهم في غربةٍ تآلفوا معها في عقود. وطبيعي أن أجد عدداً من المعارف القدماء، فنتناول أطراف الحديث، حتى إذا ما خرجنا إلى فناء المكان، رأيناه عالماً آخر يضج بالحيوية: فرق موسيقية شعبية مصرية وفلسطينية (أحضرها الأهالي)، ومعها عقدت حلقات الرقص والدبكة في جو من الفرح، وطقس شتوي خليجي لطيف جدا.
جلتُ بين الفرق، أتأمل وجوه الحاضرين المشرقة، وحماسة عازفي المِجوز وقارعي الدف والطبول، وعندما سمعتُ أغنية “وين ع رام الله”، تساقطت دموعي غصباً عنها، فابتعدتُ كيلا تفتضح مشاعري المختلطة وسط المبتهجين. دمتم بخير.
العين في 22 كانون الأول 2024
إضاءات: جئتُ بكلمات المشاركين من موقع الجامعة.
https://www.instagram.com/reel/DD1W7lIt7Sm/?utm_source=ig_web_button_share_sheet
https://www.aus.edu/celebrating-the-class-of-fall-2024
ملاحظة: مبروك لسامي ولوالديه وشقيقه وشقيقتيه، ولكل الخريجين، أمل مستقبل الدول العربية التي باتت تصدّر الكفاءات العلمية سنة بعد سنة …كفاءات هي موضع فخر واعتزاز وقت نصادف يومياً ما يندى له الجبين!
والتهنئة بالنسبة الينا في مجلة وموقع “تأمين ومصارف”، هي تهنئتان: أولى تخرّج سامي خلايلي في علوم الحاسب (فألف مبروك)، وثانية هي انقاذه موقعنا من خطر الزوال وفيه كل أرشيفنا وبياناتنا ومراسلاتنا واللائحة تطول..
فبعد عجزنا عن “فك” قفل صندوق البريد الذي منعنا من الدخول الى الموقع بمعاونة اختصاصيين، ولأسباب فيها الكثير من التكهنات، نُصحنا بنسيان رمز الدخول الى صندوق البيانات و العمل عاى إنشاء حساب جديد آخر. عندها لم أجد بدّاً، وكآخر محاولة للانقاذ، سوى الإتصال بالدكتور غالب خلايلي في مدينة “العين” الاماراتية، لعلّ نجله سامي، الخريج الجديد في علوم الحاسب، يتمكّن من إيجاد حلّ لمعضلة عايشتها خمسة أيام بلياليها أقّضت مضجعي وطردت النوم من عيني!
وبعدما زوّدته بما يلزم من المعلومات “السرية” للدخول الى الموقع، وبعد ساعات قليلة من المحاولات المشكورة، ولا أعرف إذا كانت مضنية أو سهلة،و الارجح سهلة بالنسبة اليه، جاءني اتصال الفرج من “العين” في الإمارات العربية حيث يقيم د.خلايلي، من سامي تحديداً ينقل اليّ البشرى السارة: “لقد سويّ الأمر، وعاد الموقع الى العمل في تلقّي البيانات والصُور وفق الـ email الخاص بالمجلة”.
كانت فرحتي مزدوجة أيضاً وقت خلتُ أن الدنيا قد “أطبقت على رأسي”، كما يقال: فرحة أولى مرتبطة بتخرّج سامي، وفرحة ثانية بأنه ،بارك الله فيه، نجح في امتحانه العلمي الأول (ربما) بإعادة الطمأنينة الى قلبي، مع أدراكي العميق، وكما أسلفت، أن هذا الإنجاز الكبير بالنسبة اليّ، هو “مزحة” بسيطة بالنسبة اليه…
أخيراً لا بدّ من شكر د. خلايلي الذي جعل دموع الفرح تتساقط من عيني وأنا أقرأ هذه المقالة الأدبية الوجدانية الرائعة التي هي لسان حال كلّ والد ووالدة لحظة تخرّج أبنائهم…
“فضلو”