جبران مسعود مستعيداً ذكريات الماضي والى جانبه عصاه والغليون الذي يمجّ تبغه بين وقت وآخر
هو في عمر الـ 94 ومع ذلك فالمعلّم والأديب والكاتب والباحث ومُطلق معجم “الرائد” جبران مسعود، لايزال في توهّج عقلي أولاً، وصحة جسدية ثانياً، لا أقول يُدهشان جليسه وإنما يحملانه على اتباع عادة من عادتنا الشعبية: “الدقّ على الخشب”. ولولا ضعفٌ في النظر لم يأتِهِ بسبب العمر، وحركة بطيئة في التنقّل من آثار السنين المرهقة التي توالت عليه، لحسبْتَ نفسك أمام جبران مسعود ابن الأربعين أو الخمسين ولنقُل ستين سنة لنُبعد عنا صفة المبالغة.
فمنذ التقينا قبل خمس سنين أو ربما أقلّ، يوم اصطحبتُ اليه مجموعة من طلاب مدرسة الليسيه الفرنسية-فردان ليتعرّفوا عن قرب الى واضع معجم “الرائد”، ولا سيما الخاص بالطلاب، لم أجد فارقاً لافتاً بين اللقاءيْن. فجبران مسعود لا يزال كما هو، يُفضّل أن يكون “رهين المحبسَيْن” تماماً كالشاعر أبي العلاء المعري، رهين ضعف النظر (لا العمى كما حال القائل “هذا ما جناه أبي عليّ وما جنَيْت على أحد”)، ورهين البيت، محافظاً على عادات وتقاليد ضيافة وجد فيها منفعة صحيّة ربما، لا تتوافر اليوم عند أبناء جيل هذا الزمن: فنجان قهوة مرفق ببسكويت راحة الحلقوم..
وليست وحدها العادات التي يحتفظ بها جبران مسعود في يومياته، بل هو لا يزال كما عهده الأهل ورفاق الدرب والأصدقاء والزملاء والمحبّون والجيران: دمث الأخلاق، جميل المعشر، عفيف النفس وكريمها، مؤمناً ولكن مع كره شديد للإقطاع الديني والتعاليم المهترئة، كان قد عبّر عن هذا الكره في كتابه الأول “الرماد الأحمر”. وهو، الى ذلك، صلبٌ في معتقداته وقناعاته ونصيرٌ للحقّ الحقّ وليس “للحقّ المزيّف”!
ومع أن المسافة بين منزله ومنزلي تُحسب بدقائق مشياً على القدمَيْن، الاّ أن اللقاءات بيننا قليلة ومحدودة حالياً، مع أنه يراني من بعيد بفضل نظارتَيْه السميكَتَيْن وبدوره أراه جالساً على كرسيّ مريح موضوع على شرفة المنزل. لكن “المعلّم” لا ينسى الواجبات والأصول. ففي كلّ مرة أتهيأ للإتصال به بهدف المعايدة في مناسبات يُحسب لها الحساب، كالإحتفال برحيل عام وولادة آخر، يكون هو السبّاق دائماً في الإتصال والمعايدة، ما اضطرنّي أحياناً الى استباق حلول المناسبة بيومَيْن أو أكثر، لتقديم واجب التهنئة بالعيد، وتالياً الفوز بـ “السبق… الصحفي”!
على شرفة منزله يتحدّث بألم عن مدرسة المنار ومنزل العائلة القديم ومكتبة دار الحكمة
في لقائنا الأخير، قبل عشرة أيام، فتح لنا باب منزله بنفسه عندما قرعنا الجرس، وكان متكئاً على عصاه مصّراً على التأكيد أن عزيمة المرء وإرادته، إذا شاء، أقوى من كل الصعاب.
كنّا اثنَيْن: المصوّر حنا نعمة وأنا، وكانت القهوة جاهزة مع بسكويت راحة الحلقوم، وكانت كاميرا حنا “متوثّبة” بدورها.. كاميرا لا “تحبس” أنفاسها ولا أنفاس من يحضع الى التصوير وكذلك من يتابع المشهد: فاللقطات تتوالى وجبران مسعود جالس، متحدث، منتقل الى الشرفة، حيث بدا منزل العائلة القديم المجاور الذي وُلد وتربى وترعرع فيه على يد أم فاضلة وأب كاهن هو “الأبونا مسعود” الذي انطبع اسمه بشارع فرن الحايك بالأشرفية وكأنهما واحد، ما يُذكرك بالحسين بن منصور الحلاج وقصيدته الشهيرة: “أنا أنت وأنت أنا”..
وبعد جولة مع ذكريات الحيّ والحرب وملجأ المبنى الذي كان يهرع اليه مع زوجته المرحومة، ومن تلك الذكريات ما لا يزال عالقاً بالذهن قبل عشرين عاماً أو ما يزيد، أشار الى مكان المكتبة المواجهة لمنزله أيضاً والتي كانت في الوقت نفسه مقراً لدار نشر “بيت الحكمة” التي كان يملكها وأصبحت اليوم بعهدة Hachette Antoine. وهنا أنتقل بي الى مدسة “المنار” التي أسسها ولم تُعمّر طويلاً رغم النجاح الذي حقّقته بسبب مضايقات من جيرانه لا يُحبّ أن يغوص في تفاصيلها ولكنّ بمجرّد تذكّرها واستعادة فصول تلك المضايقات، تراه يستعيد حادثَيْن آخريْن أشدّ ايلاماً: الحرب الأهلية ورحيل زوجته الكاتبة جوزفين مسعود.
لكن هذه الذكريات الأليمة الثلاث المحفورة في ذهنه ووجدانه والتي أدمت قلبه، لم تجعله يستسلم للواقع المرير في الحياة. فهو مذ كان في السابعة عشرة من عمره (سنة 1947)، انطلق في مسيرته الأدبية المستمرة الى الآن، رغم بلوغه الأربعة والتسعين عاماً وكانت الباكورة قصيدة له عن “فلسطين” أحدثت ضجة وتعاطفاً معه ليُصدر بعد عام “الرماد الأحمر” الذي حقّق انتشاراً واسعاً جرّاء ما تضمّنه من آراء جريئة. وفي العام 1950، أنهى علومه بتفوّق في بكالوريوس الأدب والتاريخ من الجامعة الأميركية في بيروت ومن ثمّ نال شهادة أستاذ في العلوم في الأدب العربي في العام 1953 من الجامعة ذاتها، ليفرد بعد ذلك خمسة عشر عاماً من عمره في تأليف “الرائد” وهو معجم لغوي وعصري صدر في العام 1992، وكان متميّزاً في مفرداته المرتّبة وفقاً لحروفها الأولى. وفي العام 2016، أصدر “موسوعة الأدب العربي: فنونه وعصوره وأشهر أعلامه” في ثمانية مجلدات بعد سبع سنين من العمل التأليفي الشاق والمضني، وقد تمّت هذه النتاجات الفكرية والأدبية فيما كان يتولّى مناصب رفيعة خلال مسيرته المهنية وأبرزها: استاذ الأدب العربي والفلسفة الإسلامية والتاريخ والجغرافية في الـ International College في بيروت، ومدير الدروس العربية في القسم الفرنسي فيها، وأستاذ الفلسفلة الإسلامية في صف الـ Freshman في الجامعة الأميركية ايضاً. وبحكم مركزه الأدبي والعلمي المتقدّم الذي وصل اليه في التعليم والتدريب والخبرة، انتُدب الى الرباط في المغرب، محاضراً في الأدب العربي واللغة العربية في دورة تأهيل لأساتذة مغاربة..
السنوات الأربع والتسعون لم تَنَل من قدرته على الصمود ومواجهة صعوبات الحياة
وبعد جوائز وأوسمة نالها وأهمها جائزة “أصدقاء الكتاب” (1973) عن أفضل كتاب لبناني هو معجم “الرائد”، إضافة الى وسام الأرز الوطني أيام الرئيس شارل حلو ووسام الإنترناشونال كوليدج، أكبّ على رواية “أنين الغضب” التي صدرت طبعتها الأولى عام 1999 لتليها طبعتان ثانية وثالثة، على غرار الطبعات العديدة المستمرة لمعجم “الرائد”، ما دفعه الى سرد قصّته ولو من خلف الستار في كتاب يصدر قريباً عن دار “Hachette Antoine” عنوانه “غضب الأنين”. ويوم زرناه في منزله، كان يُعيد قراءة النسخة المصحّحة (البروفا) ليتأكد من أخطاء إضافية قد تكون وقعت وذلك قبل دفع الكتاب الى الطباعة. وهنا علّق على كتابه الجديد المنتظر بالقول: “هذا آخر ما سأنتج، به أقفلت باب التأليف”.
جبران مسعود “الناسك” ، اذا جاز التعبير، والذي يتحسّر لأنه لم يواكب التكنولوجيا الحديثة، لا يخرج من صومعته الاّ في أيام الآحاد والأعياد عند ابنته رانيا المقيمة قريباً من منزله، فيما ولداه ميشال الذي عمل في حقل العلاقات العامة والنشر قبل سفره الى كندا وسامي الذي يُدرّس الفلسفلة الإسلامية في جامعة في مونتريال كندا. والى الثلاثة، فإن ابنته ميّه المقيمة في كيفلاند، متزوّجة من طبيب عيون هو البروفسور الياس طرابلسي الذي يُعدّ من بين الأشهر في العالم أجمع، وقد زار لبنان ودولاً عربية أخرى قبل فترة وألقى محاضرات عن جديد هذا الطبّ.
“غضب الأنين” بعد “أنين الغضب” يُشعرنا كم أن جبران مسعود متألّم. وعندما تسأله كيف يتدبّر أحواله ومعيشته وثمن أدويته، يكتفي بالقول: من إيرادات مبيعات بعض كتبي، بخاصة معجم “الرائد” الذي يشقّ طريقه ولا يزال بنجاح كبير في الدول العربية. لكن هذه الإيرادات لا تكفي، فأتدبّر أمري بطرقٍ أخرى وهنا أشكر ابنتي رانيا زوجها المهندس نبيل دبغي المقيمَيْن في بيروت واللذين يوفران لي ما أحتاجه من رعاية وعناية… وعندما تسأله عما إذا كانت الدولة تلتفت اليه والى أمثاله من الأدباء الصامتين التاركين أعمالهم الفكرية تتحدّث عنهم، يردّ بابتسامة فيها الكثير من الشجن المكتوم في قلبه والذي سيفجّره في آخر كتبه “غضب الأنين”، كما فجّر غضبه الأول في “الرماد الأحمر”، رغم شعوره بأن الإصلاح “فالج لا تعالج” وأن الفساد بات بحكم الواقع وهو مستمر..
مع ذلك، فجبران مسعود باقٍ يعيش مع الأمل لأنه يعرف، وهو نجل كاهن مؤمن، أن “حبّة الحنطة ان لم تقع في الأرض وتَمُتّ، تبقى وحدها. لكن إذا ماتت تأتي بثمر كثير”، كما قال السيد المسيح…
ولا بدّ “للرماد الأحمر” و”أنين الغصب” و”غضب الأنين” من أن يُنبتوا أجيالاً تنتفض وتُصلح ما أفسد الدهر، ولو متأخراً….
يحتسي القهوة ويُحلّيها ببسكويت راحة الحلقوم
مع معجم الرائد الذي اشتغل عليه 15 عاماً
يبحث عن أخطاء في الصفّ رغم ضعف النظر
جبران مسعود يُمسك بصورة له في الستينات أو السبعينات مدخناً غليونه وقال لنا أرغب في أن تتصدّر كتابي الجديد والأخير غضب الأنين
أمام مجموعة من كتبه
متحدثاً الى فضلو هدايا