مهنة تقتضي التضحية والصبر والصمت
في الحياة الطبية حالات يتمّ تحويلها بين الزملاء، وتكون إما مكتوبة، وهي للحالات الساخنة التي تتطلّب الاستشفاء، أو شفهيّة، وهي للحالات الباردة التي تُحوّل من زميل في المنطقة (أ) إلى زميله في المنطقة (ب)، كيلا يتجشّم المرضى عناء التنقّل.
والسؤال الجوهري: هل يُلبّى الغرض من التحويل؟
الجواب حسب تقديري في كثير من الحالات الشفاهية: لا، ولذلك أسباب مختلفة تتراوح بين الإيجابية والسلبية، منها أن صورة الطبيب (ب) وطريقته العلاجية لا تتطابقان في ذهن المريض مع الطبيب (أ)، ولو كان ممتازاً، اذ من المعروف أنه لا يوجد شخصان أو حتى أخوان متطابقان، ناهيك عن أن لطبّ الأطفال خصوصيةً عند أحبائنا، يعتادون فيها طبيبَهم الخاص، إلى درجة تشبه “الغرام” أحياناً، لينفروا من الطبيب الجديد، أو يبكوا عند ملاقاته. ومن سوء الحظ أحياناً حدوث الاختلاطات منذ الزيارة الأولى، هذه التي يمكن أن تحدث مع أي زميل، لكن المريض لا يرى مبرّراً للوم سوى طبيبه الجديد (وهنا أقترح على كلّ زميل أن يبلغ مرضاه بالاختلاطات الممكنة، فإذا حدث أحدُها كانوا على دراية، ثم على ثقة بمعرفة الطبيب، منوّهين أن الثقة عملية تراكمية مع الوقت وليست صُدفاً، فتثبتها الأيام عند معظم المرضى.
وقد يسأل سائل: لماذا قلنا (معظم) لا (كلّ)؟ وبرأيي هذا الاستثناء طبيعي، إذ لا يوجد اتفاق جماهيري على حكمة طبيب معين، مهما بلغ من المعرفة، بل إن اللعوب بالكلمات والعواطف (وصاحب البروباغاندا لاسيما في وسائط التواصل) قد يجذب الناس أكثر من السائر على صراط مستقيم، ناهيك عن أن بعض الناس، لعلّة نفسية (كالنُّفاس والوسواس) أو اجتماعية (الطلاق، الشك بالإخلاص) – لا يعجبهم العجب، ولا يشفيهم حكيم، ثم ألا نعرف في الحياة من يروق لنا ولا يروق لغيرنا، هكذا من غير أسباب؟
والمضحك أحياناً أننا قد نكتشف في تحويل المرضى أن الزميل (أ) يريد أن يتخلّص من مريضه الملحاح أو غير الراضي أو البخيل أو المعقّد، علماً أن الزميل (ب) سرعان ما يكتشف خاصية مريضه من الزيارة الأولى، إذ يقرأ الحال من أسئلته، وطلبه لأكبر خصم، ومراجعته مرّة أو أكثر دون مقابل، ثم من اتصالاته الهاتفية في أوقات متباعدة طالباً استشارةً لا علاقة لها بأول شكوى، وكم نرى أمثال هؤلاء، إلى درجة أن بعضهم يبقى سنةً أو سنواتٍ يذكّرك بنفسه (وأنت الذي حفظتَه عن ظهر قلب) أنه “المريض فلان والذي حوله إليك الصديق علان”!
وهنا يسأل السائل من جديد: وكيف يتحمّل الطبيب “غرائبَ” إن لم نقل “ثقل دم” من هذا النوع؟
زملاء كثيرون لا يتحمّلون، بل لا يمكن أن يجيبوا أحداً على الهاتف، بُخلاً أو حرصاً، وهم معذورون إلى حد ما، خاصة أن الاستشارات الهاتفية مضيعةٌ للوقت (والمال) أحياناً، والأهم أنها قد تحمل في طياتها المخاطر، بسبب سوء فهم المتصل أو سوء نيته، لكن عنّي أقول: إنني أتحمّل (غالباً) ما لا يتحمّله غيري، تمريناً لنفسي، وإشفاقاً، فإذا شعرتُ أن في الأمر مخاطرَ أخبرتُ سائلي أن يراجع أقرب طبيب، وليس بالضرورة أنا، ولا أفضّل أن أكون، ما لم يصمّم على ذلك.
أسباب كثيرة ربما لا تريح المريض المحوّل إليك، منها أنك تتقاضى مبلغاً أكثر من زميلك، أو أنه يتوقع أن كلفة علاجه يتحمّلها التأمين، ما دام “يجرم” عظامه كل عام، فيصدم إذا عرف أنك خارج (التغطية)،
ناهيك عن تدني المقدرة عند بعض الناس بسبب الظروف الخاصة (فقدان العمل) أو العامة (الفساد)، وهنا أهمس في أذن قارئي أنني لستُ ذلك المتجبّر ما عرفتُ ضيق أحوال الناس، ولم يكن كذباً. يبقى المزعج أن هناك من هو قادر، ولا يريد أن يمدّ يده إلى جيبه، وكم في الجعبة من قصص، لكن أذكر حادثتين، أولاهما لرضيعة شقّ عليّ أن ترحل وأمها في الجو الحار، فقدّمت الوصفة هديةً غير آملٍ بسوى شكرٍ من أبيها ذات مساء، الأمر الذي لم يحدث، وثانيهما حالة لعوب بالكلام أخبرني، بعد إغداق عبارات المديح التي أخشاها جداً في أول زيارة، أنه (حامل دكتوراه، ونجم وسائط اجتماعية!)، وبعد الفحص خرج مزمجراً، فقلت: أمري لله! لكنه اتصل بعد قليل لائماً السكرتيرة، واقترح إعادة الوصفة، فوافقتُ، مع شكي أنه صوّرها.
ربما خرجت قليلا عن الموضوع، لكن لا بأس ما دام إلى حقل قريب، ذلك أن المادة التي لا غنى عنها شريكةُ معظم المهن في الحياة، ومنها الطب.

والآن: هل هناك سوء نيّة في كل تحويل؟
لا، بالتأكيد، فكثيراً ما يرغب الزميل بإراحة مريضه، ودعم زميله، ولكن النتيجة لا تكون إيجابية دوماً، غير ناسين أن هناك تحويلات لأسباب كثيرة غير ما ذكرنا، منها إلى الاختصاصات التي لا نستطيع الخوض فيها، وكذا طلب العناية بالمريض المُضنى (إلى مستشفى)، ولهذه التحويلات صفة رسمية غالباً، يفترض أن يتم الردّ عليها كتابياً، مما لم يحدث معي خلال ربع قرن أكثر من مرتين، وكانتا بعد أشهر وبالبريد.
وهناك من التحويلات ما هو ودي، تجاوزاً لعقبات مادية أو معنوية (الفقر، غياب التأمين، غياب الاهتمام) قد تحول دون حُسن العلاج، وهنا يلجأ الزميل إلى من يتوسّم فيه الخير من الزملاء، فيكتشف مع الوقت معدنهم الأصلي بعد نزع السيلوفان، وزوال اللمعة المذهّبة، فإذا بك تجد معدناً نبيلا أكثر بريقاً من الذهب عند بعضهم، لا تتغير صفاته مهما مرّ الزمن، أو تجد معدنا كامداً تحترق فيه ورقتك مع أول استشارة، فلا يعود من ظننته صاحبك يرد عليك، وإن خبرتي في المعدن الثاني -مع الأسف- أكثر.
إن موضوع التحويل إلى المستشفيات ذو شجون، خاصة أن طبيب الطوارئ غالباً ما يكون مشغولا بحالات صعبة، من كل حَدَب وصوب. وهنا أرى واجباً أن نشدّ على يد كل زميل مخلص يعرف واجباته، ونقول له: كان الله في عونك، على أن يقرأ بعناية ما كتبه زميله، وأن يترفّق بسمعته ما دام في الطرف الأقوى، مهما تكن الحالة صعبة، فالمريض على الأغلب أكثر تعباً من الطبيب، ولا يهمّه أن يعرف “أن من يستقبله مظلوم ومحروم من النوم مع أنه خير طبيب!”، فمهنتنا تقتضي التضحية والصبر والصمت، ولو كانت الحالة (إمساكاً مزمناً) وصلت بعد نهاية الدوام.
غالب خلايلي
في 18 / 5 / 2023