الأدوية الجنيسة للفقراء يُعمل على منعها
د. غالب خلايلي
ليست هي المرة الأولى التي أتحدث فيها عن عالم الدواء وما فيه من استغلال لمعاناة البشر، رغم فوائده.
وما جعلني أعود إليه اليوم، خبرٌ طازج طلبت فيه بريطانيا من الهند أن توقّع اتفاق التجارة الحرة بينهما، ومن بنوده (التريث) في صنع الأدوية البديلة أو الجنيسة Generic التي يقلّل انتشارها أرباح شركات الأدوية. ويبدو ان طلب المملكة المتحدة تمديد مهلة براءات الاختراع الدوائية قوبل بالرفض من قبل الهنود، لأن قبولهم يعني حرمان الفقراء، وما أكثرهم في الهند والعالم، من حق التداوي.
ووفق الإحصاءات، تُسهم الهند عالميا في 20% من الأدوية الجنيسة، كونها من أكبر الدول المصنّعة للأدوية في العالم، ومع أنها تستورد 70% من مكونات الأدوية من الصين، إلا أنها تحاول إنتاج المزيد محليا. ولنذكّر أنه حتى الدول الكبرى من أهم زبائن الهند؛ فنحو 40% من أدوية الولايات المتحدة التي لا تحتاج إلى وصفة وتلك منخفضة التكلفة تأتي من الهند، وكذا 25% من تلك التي تُباع في المملكة المتحدة. كذلك توفر الهند نحو ثلثَيء الأدوية المضادة للفيروسات، كتلك التي تُستخدم لمكافحة فيروس الأيدز على مستوى العالم، مما حدا برئيس وزراء الهند ناريندرا مودي بعدّ بلده “صيدلية العالم”.
ومع ذلك تتعرّض الهند لحملات تشويه أدويتها وأنها غير مطابقة للمواصفات،
مع أن الكثير من مصانع الأدوية الهندية عالمية المستوى، والأطباء الهنود يثقون إلى حد كبير بالأدوية المصنوعة في بلدهم، لكن يشتبه في إمكانية بيع أدوية مزيفة أو منخفضة الجودة في البلدات والقرى الصغيرة؛ حيث ينخفض مستوى الرقابة، مع وجود عدد من معدومي الضمائر (مثل كل بلد) الذين يزيفون الأدوية؛ وما أوسع هذه التجارة المربحة جدا في العالم.
والسؤال هنا: هل الشركات الدوائية العالمية الضخمة بعيدة من الزيف والاستغلال؟
لا بالتأكيد؛ فقد عهدنا الدول الغنية (وهي غالبا في الشمال) تنهب الدول الفقيرة (الجنوب)، كما عهدنا الأغنياء يعيشون على دم الفقراء، ولا يخرج كثير من شركات الدواء عن هذا (القانون)، وإن حاول بعضهم تلطيف الأمر بالقول: إن شركات الأدوية ليست ملاكا من السماء، بل هي مثل كل تاجر يهدف إلى الربح، ولذلك تجد مثلا أن شركات الدواء لا تستثمر في البحث والتطوير لمعالجة الأمراض التي تكون أسواقها صغيرة جدا أو تصيب سكان دول فقيرة جدا لتوليد عائد إيجابي على هذا الاستثمار (لاحظ انتشار الملاريا والسل في الدول الفقيرة)، وبالطبع يمكن أن تتآمر شركة أدوية ما لمنع نزول دواء جديد من منافس لها عبر رفع قضايا أو دفع رشى وعمولات، والمحاكم مليئة بهذا النوع من القضايا. كما أن هناك انتقادات مشروعة للطرق التي يتمّ من خلالها تطوير الأدوية وتسويقها من قِبل أباطرة الصناعة، وهناك حالات مثبتة لحجب النتائج السلبية، واستخدام المشاهير للمبالغة في ترويج فوائد الأدوية الجديدة عند تقديم الدواء للأطباء، ناهيك عن جيوش مندوبي المبيعات الذين ينتشرون في عيادات الأطباء (المهمين لهم طبعا؛ ولهم صفات خاصة!) كل صباح وظهر ومساء وليل، أو في مكاتب المؤثرين من صيادلة ومديرين يطلبون دواء ويرفضون آخر تبعا لما يقدّم لهم من مغريات حسية ومادية لا تبعا لمصلحة المرضى.
والسؤال الآن: هل كل ّالشركات تتآمر على الناس؛ وهل كل علاج ناجع ولا يحمل أية مخاطر؟
هناك تيار كبير منتشر (Trend) بين الناس يتحدّث عن تآمر لا ينتهي في الدواء واللقاحات تحت مسمى Big Pharma ويعنى بها (حسب فهمي الموضوع) الأخطبوطات الدوائية، التي لا يستبعد العقلاء وجودها، لكن ليس إلى الحدّ الهستيري. خذوا هذا القول مثلا: “في العام الماضي، كان 16 مليون شخص يحصلون على العلاج الكيماوي يوميا، ومتوسط ثمن الجرعة هو ألف دولار، ما يعني 16 مليار دولار يوميا”. “لا يوجد اقتصاد في العالم يكسب مثل هذا المبلغ، نتحدث هنا عن قوة خفية وتجارة عالمية هائلة”. كان هذا تصريحا حديثا لممثل مصري ولاعب تايكوندو لاقى شهرة واسعة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في أحد اللقاءات التلفزيونية، التي قال خلالها: “إن علاج السرطان بسيط لكن لا أحد يسمح لك بالوصول إليه”.
لنقل هنا، إنه في الطب لا ينجح العلاج دوماً رغم بذل كل جهد مخلص؛ فما بالك في مرض خطير ومعقّد كالسرطان؟ لكن تداول ذلك شعبيا أو إعلاميا قد يحمل مغالطات مهمة. كما أن لأي دواء آثار جانبية محتملة ولو بنسب ضئيلة، وبعض هذه الآثار مزعج أو خطير، لكن هذا لا يقتضي إيقاف الأدوية (واللقاحات) كلّها لأنه يمكن أن تكون لها آثار. هذا يشبه قولهم: لا تسلك طريق السفر (المأمون عادة) لأنك قد تتعرّض لحادث. لو فكر كل شخص بهذه الطريقة لجلس الناس في بيوتهم.
في الختام: أتذكر الفقراء عموما وكبار السن المتقاعدين الذين لا يستطيعون شراء الأدوية بسبب غلائها الفاحش؛ بعضهم ينتظر إحسانا من هنا أو هناك؛ وقد نضب الإحسان أو كاد بسبب تعقد ظروف العالم واتجاهه نحو المادية المقيتة؛ وبعضهم ينتظر هجرة تؤمن له بعض عيش كريم؛ فيما تبذخ شركات الأدوية الأخطبوطية على من يشتكون البِطنة والتُخمة، فأقول: في الأمر إن.. وعشتم.
العين في ٢٢ أيلول ٢٠٢٣
من المقالات التي تحدثت عن المشروع البريطاني الهندي:
https://www.telegraph.co.uk/business/2023/08/25/britain-trade-deal-india-row-cheap-generic-drugs
https://www.thelancet.com/pdfs/journals/lancet/PIIS0140-6736(22)02298-X.pd