المستشار عيد عبدالله الناصر
هذا الفيلم يناقش بطرافة وظرافة وخفّة فنية أحد الاستثناءات الموجودة في وثيقة التأمين البحري، وهو استثناء “القوة القاهرة” أو Act of God والذي يعني أن الوثيقة لن تُغطيّ أي خسارة تنجم عن الطبيعية مثل الأعاصير والبراكين والرياح .. ونلاحظ بأن بنية الفيلم قدّمت الموضوع بطريقة نقدية، كوميدية لا تخلو في التهكّم والفكاهة، وصيغت بطريقة ذكية بحيث أعطت الحكاية دلالات فلسفية ودينية واجتماعية خطيرة جداً وأبعد من أن نحصرها في نص وثيقة التأمين.
أعتقد بأن وثائق التأمين الآن، قد تمّ إعادة صياغتها في ما يخص هذا الإستثناء، بحيث صارت تلك الوثائق تُحدّد بشكل واضح ما هو سبب الاستثناء، بعدما كان النص عبارة عن مصطلح مطاطي عام تتلاعب شركات التأمين بمعناه وتؤوّله متى وكيفما شاءت.
لوضع القارئ في سياق الحديث دعونا نقرأ ما هو تعريف القوة القاهرة؟
“An Act of God is an accident or event resulting from natural causes without human intervention, and one that could not have been prevented by reasonable foresight or care. For example, insurance companies often consider a flood, earthquake or storm to be an Act of God.”
الترجمة: “فعل القوة القاهرة هو حادث ناتج عن أسباب طبيعية دون تدخل بشري، وهو حدث لا يمكن منعه ببصيرة أو رعاية معقولة. على سبيل المثال، غالبًا ما تعتبر شركات التأمين أن الفيضانات أو الزلازل أو العواصف ناجمة عن قوة قاهرة، ولهذا فهي تستثنيها من التغطية التأمينية.”.
كيف عالج الفيلم هذا الإستثناء؟

الفيلم عبارة عن حكاية رجل متقاعد، و كان قبل تقاعده يمارس المحاماة،مهنته، (ولذلك فهو يعرف دهاليز اللعبة وأسرارها). بعد تقاعده اشترى مركباً للنزهة والتسلية بصيد السمك .. و في أحد الأيام هبّت عاصفة عنيفة وأشعلت النار في ذلك القارب. قدّم الرجل مطالبة الى شركة التأمين ليحصل على التعويض عن الأضرار التي أصابت مركبه، ولكن شركة التأمين، وإعتماداً على نص الوثيقة، رفضت دفع التعويض لأن سبب الخسارة هو “القوة القاهرة” المستثنى منها .
الرجل لم يستسلم، وفكّر في الموضوع، وقال بأن هذه القوة القاهرة هي الله، وأن لله ممثلين ومتحدثين باسمه يعيشون بيننا، وهم رجال الدين في الكنائس وغيرها الذين يجمعون الصدقات والتبرّعات من الناس بإسم الله، وهم أغنياء بما فيه الكفاية ليعوّضوا الناس عن خسائرهم. ولهذا رفع قضية أمام المحكمة ضد ممثلي الكنيسة (كرمز ديني) على أساس أنهم يمثلون كلمة الرب وطالبهم بتعويضه عما تعرض له من خسائر مالية.
مع حبكة الفيلم والحوارات صار رجال الكنيسة في ورطة حقيقية، فإن قالوا بأنهم يتحدثون بإسم الرب فإن عليهم أن يتحملوا مثل هذه الخسارة والتي قد تكلفهم مليارات الدولارات (لأن هناك ملايين المطالبات مثلها)، وإن قالوا بأنهم لا يمثلون الله في مثل هذه القضايا، فسوف يفقدون مصداقيتهم عند أتباعهم ومناصريهم والمؤمنين بهم ..
هنا تحرّكت قوى الضغط والمصالح من كل جانب، وهي شبكة تداخلت فيها السياسة ورجال الأعمال ورجال الدين ..، ووصلت الأمور الى حد تهديد الرجل وبعض أفراد أسرته، ولكنه إستمر في دعواه حتى حانت اللحظة المناسبة، أي بعدما أكد فيها للمشاهد زيف المدعين بأنهم يمثلون كلمة الله، وبأنهم في الحقيقة مجرد طبقة طفيلية تبحث عن مصالحها الذاتية وتستغل بساطة الناس وجهلها.
حين وصلت الأمور الى تلك النقطة،هُدّد بفصل أخيه من عمله، وكان ، على ما يبدو، موظفاً بدرجة ممتازة ووضعه الإجتماعي كان مريحا. وقبل أن تبدأ جلسة الحكم بالقرار دارت الكاميرا على باب المحكمة لتلتقط صورة لطابور طويل يصطف فيه الآف الناس، وكلّ منهم يحمل ملفاً في يده، وهم ينتظرون صدور حكم المحكمة، وتوقعوا أن تلزم المحكمة “ممثلي الرب” بتعويض المتضررين بحكم أنهم وكلاؤه في الأرض وينوبون عنه، وهي إشارة إلى الأعداد الهائلة من الناس الذين رفضت شركات التأمين تعويضهم عن الأضرار التي تعرّضوا لها سابقاً بحجة وجود ذلك الإستثناء في الوثيقة. أي ان المحكمة لو أصدرت حكمها على إعتبار رجال الدين ينوبون عن الرب، ومن ثم الزامهم بتعويض المتضررين من تلك الأفعال (فستكون سابقة قضائية)، وسوف تكون المبالغ المطلوب سدادها خيالية.
عندها، وحين دخل قاعة المحكمة، أعلن تنازله عن الدعوى، بمعنى أن الفكرة قد وصلت وهذا هو المهم. البطل لم يكن يسعى للمال بقدر ما كان يسعى لكشف “زيف المنظومة”. وتنازله عن الدعوى في النهاية هو أقوى مشهد في الفيلم، لأنه يؤكد أن هدفه لم يكن شخصيًا، بل كان لإيصال رسالة رمزية للجميع، وقد نجح في ذلك بامتياز. لقد أثبت أن المنطق البسيط والحق الطبيعي قادران على هزّ أكبر وأعقد الأنظمة.
للمزيد راجع:
https://www.youtube.com/watch?v=jqNrcNaMdmQ&list=PLVFPAoh38dEd6m-gsRapqjKIyG LtArWQP&index=1&t=9s