مجموعة من الأطّباء في أحد المؤتمرات
قد لا تجد شبيهاً للدكتور غالب خلايلي لناحية المحافظة على الإستقامة، اقتناعاً وممارسة في الحياة اليومية والعملية. واذا وجدتَ شبيهاً له، فالعدد قليل بل قليل جداً، خصوصاً في هذا الزمن المعادي لكلّ ما تربّى عليه الآباء والأجداد. وفي دردشة معه على الهاتف قبل أيام، دخل معنا “على الخط”، موضوع المؤتمرات الإستهلاكية التي يكثر انعقادها، لا سيما منها ما يروّج لأدوية وحليب أطفال وسواهما، فحبكت الفكرة في رأس طبيب الأطفال السديد الرأي المقيم راهناً في دولة الإمارات، وأطلق لقلمه المطواع عنانه، فكانت هذه المقالة السجعيّة، ربما تهكّماً على ما يحصل في “كل المؤتمرات الطبية “الكرنفالية”، كما وصفها، وهذا هو الأرجح، والقول، بعد ذلك، بصوت داخلي خافت: آه كم هزُلت الدنيا.. آه! فإلى المقالة..
د. غالب خلايلي
حدّثني صديقٌ صدوق، عن مؤتمر طبّي (معجوق)، في مدينة متلألئة لا تنام، يسعى إليها الأنام، دعتْه في اللحظة الأخيرة شركةٌ صغيرة، مع أنه من فئة السردين لا الهامور، لكنه (نافعٌ) لا يلفّ أو يدور، قال:
-“شددتُ الرِّحالَ أنا وأمّ العيال وأنا، من مدينتنا الهادئة التي لا تخطر على بال، بعد إفطارٍ خفيفٍ خشيةَ النوم في الطريق، واستعداداً لوجبة عامرة في فندقٍ ذي بريق، و”غوغلنا” الخارطة مخافةَ التَّوَهان، في مدينة كلّها أنفاقٌ وجسورٌ وبنيان. وفي الطريق شدّتني، يا صاحِ، صورُ النّطاسيين الفِصاح، منافسةً نجوم السينما الكبار المِلاح، كما شدّتني إطلالاتُهم في وسائل التواصل والتراسل، فرأيتُ فيها طلاوة كالمَحلب، وحلاوةً كالسحلب، لا ينافسُهم في ثقلها سوى اليورانيوم المنضّب.
المهم، يا طويلَ العمر عليَّ القَدر، وصلنا الباب، فاستقبلَنا الأحباب، من أهل الصين والبنجاب، وأخذوا منّا السيارة، وأعطَونا بدلاً منها شارة، يقرؤها “الماسوح”، فيعرف أين يمكن أن تروح وتسوح.
ودخلنا البهوَ حيث الجخّ والرخّ، والفيّ والميّ، فوجّهتنا صاحبة الوجه الحسن إلى الكرنفال، فمشينا حتى وصلنا وُجْهتَنا في الحال، فإذا نحن – وجهاً لوجه – مع المنظِّمات الراعِيات، في أجمل حللٍ وأبهى طلّات، يوزّعنَ الابتساماتِ، ويمسحن القادم بالنظراتِ، من تحت لفوق، ثم من فوق لتحت، كي يتأكّدن من المواصفات، أهي مناسبة للحضور، أم أنها شاذّة بين الجمهور!. وما لك بالطويلة يا أخي العزيز، والذهب الإبريز، إذ كنّا عِطاشاً نتوق إلى دمعة ماء، لكن هيهاتِ يا سيدي هيهات!.. ولولا أن حنّت علينا نادلةٌ (درويشة) بقنينة ماء، لكنا نموء: ماااء، مااااء”.
ويتابع الصديق: “والموضوع يا صاحِ واسعٌ كالمحيط، يصعب أن يخوضَ غمارَه سبّاحٌ نشيط، فكيف بهاوٍ مُعثّر، لا يُرى حتى بالمِجهر، ومع ذلك يحاول السّباحة على الشاطئ الهادئ، مخافةَ التعرّض لقرشٍ مفترِس، أو ملاقاةِ حوتٍ شرِس، فهو عند أحسن المُصنِّفين فرخُ سردين. كان أمر المؤتمر أشبه بكرنفال، لفتتْ نظري فيه أمورٌ ثِقال، لم تكن من قبلُ ذاتَ بال، أوّلها: زحامٌ تنافَس به عدد ضخم من الأطباء والطبيبات، والممرّضين والممرّضات، ومندوبي الدواء والمندوبات، فانحشروا جميعاً في ممرات (كوريدورات)، يزيد ضيقَها جمعٌ آسيوي مرتبكٌ من عمال الفندق والعاملات، أسعدَهم الزمان ببعض البخشيش والإكراميات، يعدّون القهوة والشاي للضيوف، ثم يأتون بصحون خِفاف يسمّونها (سناك)، وهي لخِفَتها وخفّة الأيدي، تطير فور ملامستها الطاولات، تتلقّفها أيادٍ دون أياد، فإذا بالفرح بادٍ هنا، والحزن باد هناك، أما الأدهى فهو أننا كنا مجبرين، على شمّ روائح الآخرين، بتلاصقٍ مريب، وتقاربٍ عجيب، فلا التهوية كافية، ولا (الأقنعة) وافية، وسبحان مبدّل الأحوال كيف اختفت مظاهر “كوفيد”، بعد عهد من خوفٍ ووعيد.
وزاد في ذاك الوبال، ضيقُ قاعة المحاضرات، التي إذا غصّت ببعض الحاضرين، بعد مَسْح الهواتف (لإثبات الحضور)، دفع المراقب بمن بقي إلى المصاعد، فينكبِسون كالمخلّل في مِصعدين، يغليان ويفوران هازِئين، وسط نظرات ازدراء، تكاد تتّهمك بأنك البلاء، ولكنك تتجاهل الأمر حتى ينتهي الحشر، في غرف صغيرة، وفي طابقٍ ينافس أسفله بضيق ممرّاته، واحتباس روائحه، ولا تنقصه عن مثيله (والشكوى لله) سوى سيارة رياضية فارهة، ودرّاجات نارية فاخرة، ألوانها باهرة، وطلّتها ساحرة، ولهذا يتعثّر بها الضيوف في الذهاب والإياب، فلا تسمع سوى الآهات، وعبارات (الله! الله! الله حماك)، تلك التي تضفي السكينة على من خربتْ تسريحتُه، أو تحطّمت نظارتُه أو التوى كاحلُه. يعني، يا أخي، كم كان مناسباً عرض سيارة إسعاف في البهو، فتسعفَ الشاهقين المصابين بصدمة الاشتهاء. ما علينا!.
أما الأمر اللافت التالي فهو مزاحمة الفريق العلمي المنظّم والإداري، حتى إن المرء لا يخطر على باله اسم إلا ويجده هناك، متهندساً بثيابه الرسمية، أو بثياب السباحة أو السهرة المخمليّة، فكرنفال (التعليم الطبّي المستمر) الذي صار صناعةً ذهبيّة، هو أيضاً فرصةٌ جميلة للتلاقي، ولإمتاع جارَةِ المآقي، وأخذ استراحة المحارب المُتعب في مقارعة الأدواء، وعقبات التأمين الكأداء، وضغوط أصحاب المشافي والدواء، هو وأسرته التي تعاني انضغاطَ عائلِها في عملٍ لا يرحم، لا في (مَرامِه) ولا (أرقامه).
فاتني أن أذكر لك يا صاحِ سعادة الأحباب، عند اللقاء بعد طول غياب، وحبورَ من تلقّى سبع دعوات، تنطقُ ببهجة لقائهم الأعين، وتلهج بحمد الشركات الألسن، أما عند الاطمئنان على الدَّخْل وعدد المرضى بتودّد، فترى النشوةَ والحبورَ والتورّد، لا الشحوب المفاجئ والتردّد، أي والله، ما علينا.
هذا من جهة العلم والعلماء؛ أما من جهة التمويل والترويج، فلا أحد يجهل أهمية شركات الدواء، ولا السيّارات والدراجات، ولا بيت القصيد: وسائل التواصل.
وشركات الدواء، لا رأيت البلاء، هي الأصل ولها الكلام الفصل، كيف لا وهي تتبع إمبراطورياتٍ بترليونات الدولارات، منها ما يختصّ باللقاحات لأمراضٍ مضت وأخرى آتيات، وثانيةٌ تروّج أصناف الدواء، وثالثة تروّج أنواع الحليب (من بقر وماعز وأفراسٍ وأُتُن)، ولعلها تتاجر أيضاً بالحشيش والتُّتُن، لهذا تتكدّس في مدن البهاء والضياء، كأن مندوبيها ومندوباتها عرسان، يدارون ويداوِرون القططَ السِّمان، فيما تنبئهم حاسّتُهم (القِطّية) بلا جدوى الضواحي، في أي منحىً من المناحي، حتى إذا أتى بعضهم مخطئاً العنوان، أدركت شواربُه خطأ الزمان والمكان، فتحوّل من عريس ظريف إلى ابن عُرس مخيف. أستطيع القول دون تأتأة أو رأرأة: لقد باتت الشركات هي الأصل، حتى قبل الطبّ والأطباء، وما هذه المهرجانات سوى تجلٍّ من التجليات.
أقفز بك الآن إلى وسائل التواصل، التي أصبحت الجمر في مناقل شواء الفكر، تهيّئ الجماهير العريضة كي تمسي مريضة، وتؤهّبها لحمّى الاستشفاء، مع أيّ عرض سخيف أو هُراء، دع عنك الآن ما يسمّونه التجميل، من تنفيخ وترميمٍ وتلميع وتشحيم، وتكبير وتصغير ودسّ وقص، فما كل هذا سوى استنزافٍ للتأمين وابتزازٍ للجيوب، والباقي عند علّام الغيوب.
وأخيراً: أيشكّ أحدٌ في أنّ أهمّ ما في عالم اليوم أمران: التواصل والمواصلات؟ لقد أدرك سَدَنة الكرنفالات، أهمّية الدعايات للسيارات والدراجات، خاصّة أن الفاخرَ منها بات قِبلة أغنياء الطب والصيدلة، بعد عهدٍ من حرمان و(مسألة).
مرّ الوقت سريعاً يا كرام، وغفا من غفا أثناء المحاصرات (لا نقطة فوق الصاد)، ونام من نام، وكان لا بدّ من العودة بمساعدة “غوغل” العظيم، والسير على هدى الرحمن الرحيم، فيما ظلّ الأكثر حظوةً يتسامرون في الرّدهات، يراقبون العلامات التشريحية المتميّزة للداخلين والداخلات، في حضورٍ مهيب لوسائل التراسل والتواصل.
تساءلت في ختام الكرنفال عن الخاسر الأكبر في الطب العصري، فلم أجد للأسف غير الأطباء الملتزمين، والمرضى المساكين”.
قلتُ لصاحبي: ألا ترى أنك تبالغ؟ “قال: أسلّيك”، ضحكتُ وقلت: “بارك الله فيك”.
25 آذار 2023(
(إنّ الصور المرافقة لا علاقة لها بالمادة)