ماكرون وميقاتي ووزيرا الخارجية اللبناني والفرنسي
د. الياس ميشال الشويري
انطلق أمس (24-10-2024) الخميس في العاصمة الفرنسية باريس، مؤتمر دولي لدعم لبنان بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في وقت تواجه البلاد أزمات متعددة الأبعاد تشمل النزاعات المسلحة، الانهيار الاقتصادي، وتفاقم الأوضاع الإنسانية. المؤتمر، الذي تغيّبت عنه الولايات المتحدة، جمع قوى عالمية أخرى لتقديم مساعدات إنسانية عاجلة للبنان بلغت نحواً من مليار دولار، بالإضافة إلى دعم قواته الأمنية، والدفع نحو وقف إطلاق نار، استنادًا إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الصادر عام 2006. كما غنيٌ المؤتمر بحشد المجتمع الدولي لتقديم المساعدات اللازمة للبنان الذي يعاني من تداعيات النزوح والأزمات الداخلية.
أحد الأهداف الرئيسية للمؤتمر هو الضغط من أجل وقف إطلاق النار في لبنان بناءً على قرار مجلس الأمن 1701، الذي دعا إلى منطقة خالية من الميليشيات في جنوب لبنان تحت السيطرة الحصرية للدولة اللبنانية وبمساعدة قوات حفظ السلام (اليونيفيل). هذه الخطوة تعد ضرورية لاستعادة الاستقرار الإقليمي وفرض سلطة الدولة في المناطق الحدودية التي تشهد نشاطًا مستمرًا للمجموعات المسلحة. بالإضافة إلى ذلك، هدف المؤتمر إلى معالجة الأزمة الإنسانية التي خلفتها النزاعات المسلحة وتفاقم الأوضاع الاقتصادية في لبنان. تشير الوثيقة الإطارية التي أرسلت إلى الوفود المشاركة إلى ضرورة حشد المجتمع الدولي لتقديم مساعدات إنسانية تتراوح ما بين 500 ألف إلى مليون نازح لبناني وسوري داخل البلاد، وهي واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية التي يواجهها لبنان.
للأسف، لبنان، الذي كان يُعتبر لسنوات طويلة جسرًا بين الشرق والغرب بفضل نظامه الاقتصادي الحرّ وموقعه الجغرافي المميّز، يعاني اليوم من أزمة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة. منذ عام 2019، واجه انهيارًا ماليًا شاملًا، حيث فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، وتدهورت مستويات المعيشة، وتزايدت معدلات البطالة والفقر. الأزمة الاقتصادية جاءت نتيجة تراكمات الفساد وسوء الإدارة عبر عقود، حيث قام السياسيون والمصرفيون بنهب أموال الدولة ومدخرات المواطنين. وفي ظلّ هذه الظروف، أصبحت المساعدات الدولية ضرورة ملحة لإنقاذ لبنان من الانهيار التام. إلا أن هذه المساعدات يجب أن تكون مشروطة بإصلاحات شاملة، وتخضع لإشراف الدول المانحة لضمان عدم تحولها إلى وسيلة جديدة لزيادة ثروات الفاسدين.
1- أسباب انهيار لبنان الاقتصادي.
الأزمة الاقتصادية اللبنانية ليست مجرد نتيجة لعوامل خارجية أو مؤقتة، بل تعود إلى مجموعة من الأسباب العميقة التي تعكس الفشل في إدارة شؤون البلاد. هذه الأسباب تشمل:
- الفساد المؤسسي: الفساد أصبح جزءًا من النظام السياسي اللبناني، حيث استغل العديد من المسؤولين مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الشعب.
- سوء الإدارة الاقتصادية: الحكومات المتعاقبة فشلت في إدارة الموارد بشكل فعال، واعتمدت بشكل مفرط على القروض والمساعدات الخارجية دون وضع خطط تنموية طويلة الأجل.
- الأزمات السياسية: الانقسامات الطائفية والسياسية حالت دون تنفيذ أي إصلاحات حقيقية، مما أدى إلى شلل الحكومة وعجزها عن اتخاذ قرارات مصيرية.
- الديون المتراكمة: لبنان تراكمت عليه ديون هائلة نتيجة السياسات المالية الفاشلة، مما جعله غير قادر على سداد ديونه أو حتى تمويل مشروعات أساسية.
2- دور المساعدات الدولية في إنقاذ لبنان.
في ظل هذا الانهيار الاقتصادي، لجأ لبنان إلى المجتمع الدولي طلبًا للمساعدة. الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كانت مستعدة لتقديم الدعم، لكن بشروط صارمة مرتبطة بتنفيذ إصلاحات اقتصادية وهيكلية. هذه المساعدات تمثل حلاً مؤقتًا لإنقاذ الاقتصاد اللبناني، ولكنها ليست سوى جزء من الحل الشامل. يجب أن تُستخدم هذه المساعدات بطريقة تضمن الاستفادة منها في تحقيق استقرار اقتصادي، وليس دعم الفاسدين.

3- أهمية ربط المساعدات بالإصلاحات.
أحد أهم التحديات التي تواجه المساعدات الدولية للبنان هو ضمان وصول هذه المساعدات إلى الشعب اللبناني بشكل فعلي، وليس إلى جيوب الفاسدين. لتحقيق ذلك، يجب أن تكون المساعدات مشروطة بإصلاحات هيكلية واضحة تشمل:
- إصلاح النظام المالي والمصرفي: لا يمكن إنقاذ الاقتصاد اللبناني دون إعادة بناء الثقة في النظام المصرفي. يجب وضع قوانين صارمة تضمن حماية أموال المودعين، وإصلاح البنك المركزي لضمان عدم تكرار الأخطاء السابقة.
- مكافحة الفساد: المساعدات يجب أن تكون مشروطة بتنفيذ إصلاحات حقيقية لمحاربة الفساد. يتطلب ذلك إنشاء مؤسسات مستقلة لمكافحة الفساد، وتمكين القضاء من ملاحقة المسؤولين الفاسدين.
- تحقيق الشفافية في الإنفاق: يجب أن تخضع جميع الأموال الممنوحة للبنان لرقابة صارمة من قبل الدول المانحة والمؤسسات الدولية لضمان استخدامها في المشاريع التي تخدم مصلحة الشعب وليس لمصلحة النخب السياسية.
- إصلاح القطاع العام: يجب إعادة هيكلة القطاع العام لضمان كفاءته وقدرته على تقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.
4- أمثلة على المساعدات الدولية المرتبطة بالإصلاحات.
هناك العديد من الأمثلة على دول تعرضت لأزمات اقتصادية شبيهة بلبنان واستفادت من المساعدات الدولية، ولكن تحت شرط تنفيذ إصلاحات. من بين هذه الأمثلة:
- اليونان: بعد أزمة الديون السيادية في 2010، حصلت اليونان على حزمة إنقاذ مالي من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، ولكن بشروط صارمة تتطلب تنفيذ إصلاحات اقتصادية كبيرة. رغم الألم الذي واجهته اليونان نتيجة لهذه الإصلاحات، إلا أنها تمكّنت في النهاية من استعادة استقرارها المالي.
- مصر: في أعقاب ثورة 2011، عانت من أزمة اقتصادية حادة. حصلت على قروض ومساعدات دولية مشروطة بتنفيذ إصلاحات تشمل تحرير سعر الصرف وتقليص دعم الطاقة، وهي خطوات ساهمت في استعادة الثقة بالاقتصاد المصري.

5- دور الدول المانحة في مراقبة المساعدات.
من الضروري أن تتدخل الدول المانحة والمؤسسات الدولية لضمان توجيه المساعدات بشكل صحيح. لتحقيق ذلك، يمكن اتخاذ الإجراءات التالية:
- إنشاء هيئات رقابية دولية: يجب أن تتفق الدول المانحة على إنشاء هيئات رقابية مستقلة تعمل على مراقبة تنفيذ المشاريع التي تُمول من المساعدات الدولية. هذه الهيئات يجب أن تكون لها صلاحيات واسعة في التدقيق والمساءلة.
- التعاون مع المجتمع المدني: من الضروري أن تلعب منظمات المجتمع المدني دورًا في مراقبة استخدام الأموال والتأكد من أن المشاريع التي يتم تمويلها تلبي احتياجات المواطنين.
- الشراكة مع القطاع الخاص: يمكن إشراك القطاع الخاص في بعض المشاريع التنموية لضمان تنفيذها بكفاءة، وبما يتجنب التدخلات السياسية.
6- التحديات المرتبطة بتنفيذ الإصلاحات
على الرغم من أن الإصلاحات هي الشرط الأساسي لاستقبال المساعدات، إلا أن تنفيذها يواجه تحديات كبيرة في لبنان:
- المعارضة السياسية: العديد من النخب السياسية المستفيدة من النظام الحالي قد تعارض تنفيذ الإصلاحات لأنها تهدد مصالحها.
- الطائفية والانقسامات الداخلية: الانقسامات الطائفية تعرقل أي محاولات لتوحيد الجهود الوطنية لتنفيذ إصلاحات شاملة.
- الفقر والبطالة: تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، خاصة في قطاعي الطاقة والمالية، قد يؤدي في البداية إلى زيادة في
- معدلات البطالة والفقر، وهو ما يتطلب تقديم برامج اجتماعية لمساعدة الفئات الأكثر تضررًا.

7-الخاتمة.
المساعدات الدولية تمثل طوق النجاة للبنان في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يعصف به، لكنها لن تكون فعّالة إلا إذا اقترنت بإصلاحات جذرية وشاملة. بدون هذه الإصلاحات، سيبقى لبنان في دوامة من الفساد وسوء الإدارة. على الدول المانحة والمؤسسات الدولية أن تلعب دورًا حاسمًا في ضمان تنفيذ هذه الإصلاحات، عبر مراقبة صارمة لتوجيه المساعدات نحو إعادة بناء المؤسسات وخدمة الشعب اللبناني، بعيدًا عن أيدي الفاسدين. الإصلاحات ليست خيارًا، بل هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان واستعادة الثقة المحلية والدولية، وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشود.