الدعاء الواحد
د. الياس ميشال الشويري
في المجتمعات العربية والإسلامية، نلاحظ إقحامًا مفرطًا لاسم الله في مختلف جوانب الحياة العامة، لا سيما في المجالين السياسي والاجتماعي، حيث تتكاثر الأحزاب والحركات التي ترفع رايات دينية وتدّعي الحديث باسم الله، وتحتكر تفسير النصوص وتوجيه الناس وفق أجنداتها. هذا الإقحام لا يُعبّر في الغالب عن التزام روحي صادق، بل عن توظيف سياسي سافر للدين بغية كسب الشرعية وتجنيد الجماهير. لقد أُفرغ اسم الله من محتواه المقدّس، وأُقحم في صراعات حزبية، وانتصارات وهمية، وخطابات مليئة بالزيف والتضليل، ما يدفعنا إلى مراجعة هذا المسار الكارثي. في هذا البحث، نسلّط الضوء على ثلاثة محاور: القداسة المستباحة، توظيف الدين في السياسة، والنتائج المجتمعية والثقافية لهذا الإقحام.
- القداسة المستباحة – بين الإيمان الأصيل والعبث الدعائي
إنّ ذكر اسم الله في السياقات الدينية جزء أصيل من العقيدة والعبادة، ولكن حين يُستعمل في غير مواضعه، يفقد معناه المقدّس. لقد تحوّل ذكر الله إلى أداة خطابية تُستعمل لتبرير القتل، والسرقة، والفساد، وحتى الفشل السياسي والعسكري، ما يضعف الإيمان الحقيقي ويشوّه صورة الدين. فالربط بين الله والانتصارات الميدانية، أو الهزائم، يخالف مبدأ الحرية والمسؤولية البشرية في صنع القرار.
تُروّج بعض التيارات لخطاب مفاده أن “الله معنا“، وأن كل من يعارضها فهو عدو لله، فتحتكر الخطاب الديني وتحوّله إلى سلاح أيديولوجي. هذه النظرة المغلقة للقداسة تُحوّل الدين إلى وسيلة قمع لا خلاص، وتستبيح اللغة الدينية لمآرب بشرية. وهكذا، ينشأ جيل يرى الدين مجرد شعار، لا عمقًا أخلاقيًا وروحيًا.
إنّ الإكثار من ذكر اسم الله في السياقات الدنيوية – من أسماء المحلات التجارية إلى الحركات الميليشيوية – لا يعكس تقوى بقدر ما يعكس فقرًا في الأخلاق العامة. لقد تحوّل “اسم الجلالة” إلى شعار يُرفع فوق المنابر، بينما تُنتهك قيم الدين في الواقع، ما يتطلب إعادة الاعتبار لقدسية الإيمان بعيدًا عن الاستغلال.
- توظيف الدين في السياسة – السلطة باسم الله
شهدنا في العقود الأخيرة صعود حركات وأحزاب تتخذ من الدين ستارًا لتثبيت سلطتها وتبرير فسادها. تحمل أسماء مثل “أنصار الله“، “جيش الله“، “حزب الله“، وتُصوّر نفسها وكأنها وكيلة الإله على الأرض. هذا التوظيف يُلغي مبدأ المحاسبة، إذ يُحرّك المشاعر الدينية لتقديس الزعيم والسكوت عن تجاوزاته.
السياسي الذي يُلبس مشروعه عباءة الدين يصبح فوق النقد، ويجرّ المجتمع إلى عقلية “الحق الإلهي” و”العدو الكافر“. بهذا، يُحوّل الصراع السياسي إلى صراع عقائدي، ويزج بالمجتمعات في حروب أهلية لا نهاية لها. يصبح الدين سلاحًا فتاكًا يُستخدم في الميادين أكثر مما يُتلى في المساجد.
في لبنان، على سبيل المثال، أُقحِم الدين في كل تفصيل من تفاصيل الحياة السياسية، حتى غدا الخطاب الطائفي – وليس الوطني – هو المهيمن. يُبرَّر الفساد والإخفاق باسم “الدفاع عن الجماعة“، و”مشروع المقاومة“، و”مشروع العدالة الإلهية“، بينما تغيب الكفاءة والعدالة، ويُقمع صوت المواطن باسم “المقدّس“.

- الآثار المجتمعية والثقافية لإقحام الله في كل شيء
إقحام الله في التفاصيل اليومية والسياسية يُنتج انفصامًا بين القيم الدينية الحقيقية والواقع المعيشي. فبينما يدعو الدين إلى الصدق، والعدالة، والتواضع، نجد من يرفعون رايته أكثر كذبًا وفسادًا. هذا التناقض يُفقد الجيل الشاب الثقة في الدين، ويزرع في النفوس رياءً دينيًا بدلًا من الإيمان الصادق.
حين يُوظَّف الدين في تبرير الحروب والانقسامات، تتآكل مفاهيم التعايش والاختلاف. يُربّى المواطن على الولاء الأعمى، وعلى طاعة “الزعيم الديني“، فينهار الحسّ النقدي والعقلاني. تُخلق بيئة لا تنتج إلا التعصّب، ولا تعرف معنى الدولة الحديثة، حيث يُصبح الإيمان عقبة أمام الحرية بدل أن يكون ضمانتها.
ثقافيًا، يتحوّل الدين إلى أداة للرقابة والتخويف بدلًا من أن يكون مصدرًا للتحرّر. فالفن يُهاجم لأنه “غير أخلاقي“، والمرأة تُقمع باسم “الفضيلة“، والنقد يُجرَّم بحجة “المساس بالمقدّسات“. بهذا، تُخنق الثقافة، ويُقمع الإبداع، وتُصادر الحريات العامة، ويُعاد تشكيل الوعي الجماعي على أسس الاستسلام والخوف.
- الخاتمة
إنّ الدعوة إلى إخراج الله من الحسابات الحزبية والسياسية لا تعني محاربة الدين، بل حماية له من الاستغلال والتشويه. الدين علاقة شخصية وروحية، لا مادة للصراع والهيمنة. حين يُستعمل اسم الله لتبرير القتل، وتحصين الزعيم، وتزوير الواقع، فإنه يُفرَّغ من محتواه ويُحوَّل إلى أداة قمع. لذلك، بات من الضروري أن يفصل الناس بين الإيمان والدعاية، بين الدين والسلطة، ويعيدوا لله مقامه المقدّس بعيدًا عن أبواق الخداع والمصالح الضيقة. كفانا استغلالًا لله، فقد آن الأوان أن ننصر الله بقيمه لا بشعارات كاذبة باسمه.