د. الياس ميشال الشويري
يُعتبر النظام المصرفي الركيزة الأساسية في استقرار الاقتصاد الوطني وثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها المالية. ومن بين أبرز التشريعات التي اعتمدتها الدول لتعزيز هذا النظام، تبرز السرية المصرفية التي يُفترض أن تكون وسيلة لحماية خصوصية الأفراد والمؤسسات على حد سواء. غير أن التجربة اللبنانية مع هذا المفهوم أخذت منحًى مختلفًا وخطيرًا، إذ تحوّلت السرية المصرفية من وسيلة قانونية إلى درع يحتمي خلفه الفاسدون، والمتورطون في نهب المال العام والخاص، والسياسيون الذين استغلوا مواقعهم لخدمة مصالحهم الخاصة على حساب الدولة والمواطن.
في لبنان، لم تكن السرية المصرفية يوماً أداة لتعزيز الشفافية أو ضمان حرية الاقتصاد، بل أصبحت أحد أبرز رموز الانهيار والانحلال المؤسساتي، خاصة بعد تفجّر الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد منذ أواخر عام 2019. وقد كشفت هذه الأزمة بوضوح فادح الاستخدام السياسي والمصرفي للسرية المصرفية، وكيف تحولت إلى وسيلة لحماية المختلسين بدل مساءلتهم، وإلى جدار عازل يمنع استرجاع الأموال المنهوبة، ويُفشل كل محاولات الإصلاح والمحاسبة. من هنا، تبرز الحاجة الملحة لإعادة النظر في مفهوم السرية المصرفية في لبنان، ليس فقط كنص قانوني، بل كأداة بنيوية تُستخدم لعرقلة العدالة، وتعطيل التحقيقات، وإفشال أي نهوض اقتصادي حقيقي.
- السرية المصرفية كأداة لحماية الفساد
في السياق اللبناني، لم تكن السرية المصرفية مجرد قانون مالي يُنظّم العلاقة بين المصارف والمودعين، بل تحولت بفعل التجربة إلى جدار حديدي يحجب عن القضاء والمواطنين والمؤسسات الرقابية أي معلومة تتعلّق بالحسابات المشبوهة أو التحويلات المالية غير المبررة. فقد سادت لسنوات عقلية أن السرية المصرفية تُضفي طابعاً من الحداثة والثقة على النظام المصرفي، لكن ما حصل فعلياً هو عكس ذلك تماماً، إذ أُسيء استخدام هذا القانون وتم توظيفه لخدمة الفاسدين وتوفير الحماية للمختلسين.
منذ بداية الأزمة المالية في لبنان، كشفت العديد من التقارير الاستقصائية عن تهريب مليارات الدولارات إلى الخارج، نفذها سياسيون ومصرفيون متورطون في منظومة الفساد. غير أن أي تحقيق قضائي لم يتمكن من الوصول إلى الحسابات الخاصة بهؤلاء بسبب الحماية القانونية التي توفرها السرية المصرفية. وبدلاً من أن يتم محاسبة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة، بقي القضاء مكتوف الأيدي، فيما تعمقت حالة الفقر والانهيار لدى الشعب اللبناني، وسط مشهد عبثي تتكامل فيه السياسة والمال في حماية الفساد.
الخطورة لا تكمن فقط في وجود هذه السرية، بل في الإصرار على إبقائها رغم كل ما ظهر من نتائج كارثية. فالمسؤولون السياسيون الفاسدون الذين تورطوا في السرقات الكبرى، لا يزالون يختبئون خلف هذا الغطاء، مستفيدين من ضعف الدولة وتواطؤ بعض القضاة، ما يجعل من لبنان نموذجاً صارخاً لدولة تُقنّن الفساد بدل مكافحته. وهذا يُظهر أن بقاء السرية المصرفية على حالها هو خيار سياسي واقتصادي ممنهج، وليس مجرد تقصير تشريعي عابر.
- ازدواجية تطبيق السرية المصرفية بين المواطنين والنافذين
تكشف التجربة اللبنانية أن السرية المصرفية لم تُطبّق بشكل عادل على جميع المواطنين. ففي حين يُحرم اللبناني العادي من حقّه في معرفة مصير ودائعه أو في الاطلاع على المعلومات المصرفية التي تهمه، يتمتع كبار السياسيين والنافذين في الدولة بحصانة شبه مطلقة تسمح لهم بالتلاعب بحساباتهم، وتهريب أموالهم إلى الخارج تحت غطاء القانون. هذا التمييز الصارخ أنتج ما يشبه طبقتين ماليتين: طبقة مستضعفة تُعاقب دون ذنب، وطبقة متحكمة فاسدة محصنة من أي مساءلة.
خلال العامين الأولين من الأزمة، تمكّن العديد من كبار المسؤولين الفاسدين من سحب وتحويل أموالهم بمبالغ ضخمة، مستفيدين من علاقاتهم مع إدارات المصارف، ومن قوانين تحميهم من الملاحقة. وفي المقابل، حُجزت أموال مئات آلاف اللبنانيين داخل المصارف، دون أي قدرة على التصرف بها، لا لشراء دواء أو دفع أقساط التعليم أو حتى لتأمين أبسط متطلبات الحياة. هذا الواقع يعكس انعدام العدالة ويُكرّس غياب المساواة أمام القانون.
ما هو أخطر من كل ذلك هو أن هذه الازدواجية لم تُقابل بأي مساءلة أو احتجاج رسمي من الدولة، وكأنها جزء من نظام مُرسّخ، تقبله السلطة وتُشجع عليه المصارف. فالسرية المصرفية تحولت إلى “سور منيع” للفاسدين، وليس ضمانة قانونية للمواطنين. وهذا يضرب أسس النظام الديمقراطي ويُقوض مبدأ الشفافية الذي يُفترض أن يكون حجر الأساس لأي نظام مصرفي عادل.

- السرية المصرفية كعائق أمام الإصلاح الدولي
من أبرز العوائق التي واجهت أي مسعى دولي لدعم لبنان ماليًا واقتصاديًا هو وجود السرية المصرفية بصيغتها الصلبة وغير القابلة للاختراق. فقد كانت الجهات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، واضحة في شروطها لتقديم المساعدات، ومنها ضرورة رفع السرية المصرفية عن الحسابات المشبوهة، وتمكين أجهزة الرقابة من تتبّع التحويلات المالية الكبيرة ومصادرها، كجزء من جهود مكافحة الفساد وتحقيق الشفافية.
غير أن هذه المطالب قوبلت بتلكؤ واضح من جانب الدولة اللبنانية، سواء في البرلمان أو في الحكومة. فمشاريع القوانين التي طُرحت لرفع السرية المصرفية أو تعديلها، تم تمييعها أو تفريغها من مضمونها. وهذا ما أعاق التفاوض الجدي مع الجهات الدولية، وأظهر أن الدولة اللبنانية غير جادة في محاربة الفساد أو فتح ملفات الحسابات المشبوهة. وهكذا، أُفشل العديد من البرامج الإصلاحية، وخسر لبنان فرصًا ثمينة للدعم، ما زاد من حدة الانهيار المالي.
السرية المصرفية، بهذا المعنى، لم تعد مجرد مسألة تقنية تتعلّق بالقانون المالي، بل أصبحت مسألة سيادية تُعرقل استقلال القرار الوطني. فهي تمنع كشف الحقائق، وتُبقي النظام الفاسد محصّنًا ضد أي اختراق إصلاحي داخلي أو خارجي. وفي ظل غياب الإرادة السياسية لرفع هذا الحاجز، ستبقى السرية المصرفية من أبرز مظاهر تعطيل مسار الإصلاح، ومن أخطر عوامل الإبقاء على الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه اللبنانيون.

- الخاتمة
لقد أثبتت التجربة اللبنانية أن السرية المصرفية، كما هي مطبقة حاليًا، لم تُعزّز الثقة بالنظام المالي، ولم تُحافظ على خصوصية المودعين، بل أصبحت مرادفًا للتغطية على الفساد والسرقة المنظمة للمال العام والخاص. فبدلاً من أن تكون أداة لحماية المواطن، تحوّلت إلى سلاح بيد الطبقة الحاكمة وأصحاب المصارف لتكريس الحصانة والإفلات من العقاب، وتعميم ثقافة اللاعدالة، وخلق نظام طبقي مالي يُحرم فيه الناس من أبسط حقوقهم بينما تُهرّب أموال النافذين إلى الخارج بلا حسيب أو رقيب.
إن استمرار التمسك بالسرية المصرفية بصيغتها الحالية، ورفض تعديلها أو رفعها في الحالات التي تقتضي ذلك قانونًا وأخلاقيًا، يعني الإصرار على منع المحاسبة، وحماية المنظومة الفاسدة، وعرقلة كل مسار إصلاحي قد يُعيد للبنان بعضًا من توازنه المالي والاقتصادي. ومن هنا، فإن رفع السرية المصرفية عن الحسابات المرتبطة بالمسؤولين والنافذين، والسماح بتحقيقات شفّافة تحت إشراف قضائي مستقل، لم يعد خيارًا بل ضرورة وطنية، وأحد شروط إعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها.
إن المعركة ضد الفساد لا تبدأ فقط من سنّ القوانين، بل من الجرأة على تطبيقها بعدل ومن دون تمييز، وعلى رأسها كسر حاجز السرية المصرفية عندما تكون متورطة في التستّر على الجرائم المالية. فبغير ذلك، ستبقى البلاد رهينة منظومة فاسدة تنهب دون مساءلة، ويستمر المواطن في دفع ثمن الانهيار من جيبه وكرامته ومستقبله.
في الختام، أصحاب المصارف في لبنان لم يكتفوا بسرقة جنى عمر الناس، بل تاجروا بكرامة المواطنين كما يتاجر القواد بجسد من يسيطر عليه. تحالفوا مع الطبقة السياسية الفاسدة، وهرّبوا أموالهم إلى الخارج بينما تركوا الشعب يئنّ تحت الذلّ والفقر. لم يبقَ لهم من شرف المهنة شيء، فقد خلعوا عن أنفسهم آخر ستائر الحياء. التاريخ لن يرحمهم، والعدالة، مهما تأخرت، ستطالهم!