كاتدرائية سيدة العمود
د. الياس ميشال الشويري
كما أشرنا في مقالات سابقة نُشرت على موقع “تأمين ومصارف”، ضمن هذه المجلة الكريمة، فإن شخصية مار يعقوب بن زبدي تحتل مكانة بارزة في تاريخ الكنيسة المسيحية، إذ يُعدّ من أوائل تلاميذ السيد المسيح وأكثرهم غيرةً وحماسةً في نشر رسالة الإنجيل بين الأمم. وبينما تمحورت حياة معظم الرسل في أورشليم والمناطق المجاورة، تفرّد مار يعقوب برسالته التبشيرية في أقصى الغرب، حيث وصل إلى إسبانيا متحدّيًا المصاعب ومبشرًا في أرض لم تكن قد سمعت بالإنجيل بعد.
وفي لحظة تعب ويأس، أضاءت السماء قلبه بتجلي إلهي، إذ ظهرت له السيدة العذراء في مدينة سرقسطة، على عمود من اليشب، في حين كانت لا تزال على قيد الحياة، في حدث فريد من نوعه لا نظير له في تاريخ الظهورات المريمية. لقد غيّر هذا الظهور المبارك مسار الكرازة في تلك الأرض، وترك أثرًا روحيًا خالدًا تُرجم لاحقًا إلى بناء كنيسة عظيمة تُعرف اليوم بـ”كنيسة سيدة العمود“، والتي تُعد من أقدس المعالم الدينية وأشهرها في أوروبا.
وفي هذا المقال، نغوص في سيرة هذا الرسول العظيم، ونرصد معالم الظهور العجائبي، ونستعرض الأثر العميق الذي تركه في الوجدان المسيحي والإسباني على السواء.
- مار يعقوب بن زبدي – حياته ودعوته الرسوليّة
مار يعقوب بن زبدي هو أحد اثني عشر تلميذًا اختارهم يسوع المسيح ليكونوا رسلاً له. وهو ابن زبدي وشقيق يوحنا الإنجيلي، وقد عمل في مهنة الصيد قبل أن يتركها ويتبع المسيح. عُرف مار يعقوب بالحماسة والغيرة على خدمة الرب، حتى أُطلق عليه مع أخيه لقب “ابني الرعد” نظرًا لطبيعتهما النارية. كان من بين التلاميذ المقربين إلى يسوع، وشهد أحداثًا مفصلية مثل التجلي وقيام ابنة يايرس. حياته كانت مليئة بالإيمان والتكريس، مما جعله من أوائل الشهداء في الكنيسة.
بعد صعود المسيح، انطلق مار يعقوب في رحلات تبشيرية بعيدًا عن الأرض المقدسة. تشير تقاليد الكنيسة الكاثوليكية والإسبانية إلى أنه سافر إلى إسبانيا لنشر البشارة، رغم التحديات الكبيرة التي واجهها هناك. يُقال إنه واجه مقاومة قوية، إلا أن إصراره على الكرازة لم يفتر. ولم يجد في البداية الكثير من الثمار، مما دفعه للشعور باليأس والحزن. هذا الشعور شكّل خلفية لحدث روحي عظيم سيحدث لاحقًا في حياته في الأراضي الإسبانية.
مار يعقوب لم يكن فقط رسولًا مبشرًا، بل شهيدًا عظيمًا أيضًا. فقد عاد إلى أورشليم، حيث أمر الملك هيرودس أغريباس بقطع رأسه عام 44 ميلادية، ليكون أول رسول يُستشهد من أجل الإيمان المسيحي. ومع ذلك، فإن رحلته إلى إسبانيا لم تُنسَ، بل أصبحت محورًا لقصص وإرث روحي متين في أوروبا. نُقل جسده بعد استشهاده إلى شمال إسبانيا، حيث بُنيت كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا لاحقًا، أحد أهم مواقع الحج في العالم المسيحي.

- ظهور السيدة العذراء لمار يعقوب في سرقسطة – الحدث والمعنى
من أبرز الأحداث التي يخلدها التقليد الكاثوليكي في إسبانيا هو ظهور السيدة العذراء لمار يعقوب في مدينة سرقسطة (Zaragoza) على نهر إيبرو. يُعتقد أن هذا الظهور تم في حياته، وهو ما يميزه عن باقي ظهورات السيدة العذراء التي حدثت بعد انتقالها إلى السماء. كانت السيدة العذراء لا تزال على قيد الحياة حين ظهرت لمار يعقوب، لتشجّعه وتمنحه العزاء في لحظة كان يشعر فيها باليأس من قلة التجاوب مع رسالته في البلاد الإسبانية.
ظهرت السيدة العذراء على عمود من اليشب (المرمر)، وسط نور عظيم ومهيب، وأوصت مار يعقوب بأن يبني كنيسة في الموضع الذي ظهرت فيه، مؤكدة له أن عمله التبشيري لن يذهب سدى. يُعتبر هذا الحدث من أقدم ظهورات السيدة العذراء الموثقة في التاريخ المسيحي، وهو فريد بكونه حصل في أثناء حياتها الأرضية، لا بعد انتقالها. السيدة العذراء أعطت العمود رمزًا للقوة والثبات، وهو اليوم محفوظ في قلب الكنيسة التي شيّدت هناك.
هذا الظهور ترك أثرًا لاهوتيًا وروحيًا عميقًا، وأصبح مصدر إلهام للتبشير المسيحي في أوروبا. وقد آمن الكثيرون بعد هذا الحدث، وبدأت الدعوة تتوسع. وقد اعتبر الإسبان هذا الظهور علامة محبة خاصة من السيدة العذراء نحو شعبهم وأرضهم، فازداد ارتباطهم بها حتى أصبحت تُعرف باسم “سيدة العمود” أو “Nuestra Señora del Pilar“، وتُعد اليوم شفيعة لإسبانيا وللشعوب الناطقة بالإسبانية في العالم.

- كنيسة سيدة العمود في سرقسطة – التاريخ والمكانة الروحية
بُنيت كنيسة صغيرة أولًا في موقع الظهور في القرن الأول الميلادي، كما أوصت السيدة العذراء. ومع تعاقب القرون، تطورت الكنيسة وتوسعت، حتى أصبحت كاتدرائية ضخمة تُعرف اليوم باسم كاتدرائية سيدة العمود (Basílica del Pilar). الموقع يتوسّط مدينة سرقسطة ويُعد من أقدس الأماكن في إسبانيا، حيث لا يزال العمود محفوظًا داخل الكنيسة وتتم زيارته من قبل الملايين سنويًا.
الكنيسة ليست فقط صرحًا معماريًا بديعًا، بل مركزًا روحيًا ضخمًا. تحتوي على عدة مصليات وتماثيل ولوحات فنية شهيرة، بما فيها أعمال للفنان غويا. ويُقام في الكنيسة العديد من الصلوات والمناسبات، لاسيما في 12 تشرين الأول من كل عام، حيث يحتفل الإسبان بعيد سيدة العمود، ويرتبط الاحتفال بتاريخهم الوطني والثقافي. ويُعتبر الحج إلى هذا المكان من أهم التقاليد الدينية في إسبانيا، وحتى من قبل العلمانيين.
أصبحت كنيسة العمود رمزًا للوحدة المسيحية الإسبانية، ومكانًا يجد فيه المؤمنون السند والتعزية. وقد نُسبت للعذراء هناك معجزات كثيرة، وأعمال شفاء روحي وجسدي. كما باتت مركزًا للحوار بين الحضارات، حيث يزورها مؤمنون من خلفيات متعددة. روح الظهور لا تزال حاضرة في حياة الكثيرين، وتُعد بمثابة تذكير دائم للثبات في الإيمان، مثل العمود الثابت الذي ظهرت عليه السيدة العذراء لمار يعقوب في قلب إسبانيا.

- الخاتمة
إنّ قصة مار يعقوب بن زبدي وظهور السيدة العذراء له في سرقسطة تحمل دلالات إيمانية وتاريخية كبيرة، ليس فقط للإسبان بل للمسيحيين حول العالم. ففي قلب هذه الرواية نجد التلاقي العميق بين الألم البشري والتعزية الإلهية، وبين الجهد الرسولي والدعم السماوي. لقد شكّل العمود الذي ظهرت عليه السيدة العذراء رمزًا للثبات وسط الشكوك، وللنور وسط الظلمة. ولا تزال كنيسة العمود في إسبانيا شاهدة على هذه اللحظة التاريخية الفريدة، ومنارة روحية تنبض بالإيمان والحياة.