طبيب يشخّص أسباب وجع المفصل الصدغي الفكّي
بين الفك والجمجمة يقوم مفصل دقيق صار ميدانا يُتقاذف فيه بالآراء والنظريات بين الأطباء الممارسين حول الطرق الصحيحة لمعالجة الآلام والإضطرابات الكثيرة التي تُصيبه. فكيف يستطيع الشاكي من هذا المفصل المسمّى المفصل “الصدغي الفكي السفلي” (Temporomandibular Joint-TMJ)، أن يتلمّس طريقه بأمان وسط هذا الحقل من الألغام؟
في ما يلي تبيان الحقيقة…
ينطمر المفصل الصدغي الفكي في داخله شبكة معقدة من الأعصاب والعضلات. وهذا المفصل، شأنه شأن سائر مفاصل الجسم، عرضة للمرض أو الإصابة. كما أن هذا المفصل تُناط به مهمة امتصاص آثار القوة الهائلة التي تولدها عملية مضغ الطعام وصرير الأسنان. ولما كان الفم جزءاً من المنظومة العضلية العاطفية التعبير بالوجه، فإن شعور الإنسان بالتوتّر يميل الى التوجّه والإنصراف نحو تلك المنطقة. وأحياناً يكون شكل ترصيف الأسنان وتركيب الفك سبباً في عدم ليونة حركة المفصل، أو يكون القرص الغضروفي الذي يوسّد المفصل، منزاحاً عن موضعه أو متآكلاً. وأكثر الذين يُصابون بذلك هم النساء. والمصابون الذين يؤمّون عيادات الأطباء طلباً للعلاج تكون شكواهم من ألم في عضلات الفك أو أمام الأذن أو من صدور طقطقة أو أصوات نتوء بالمفصل أو انقفال وصعوبة في المضغ والكلام ودوخة وصداع وألم عنقي بل وآلام بالظهر.
ولكن الإضطراب الصدغي الفكي (TMD)، كثيراً ما يُساء تشخيصه ويُبالغ في علاجه مبالغة تترك المريض حائراً كثيرا التنقل بين مختلف العيادات.
والممارسون الذين ينبرون لمعالجة هذه الحالة أو الحالات من أمراض الفك، كثيرون، ويشملون أطباء الأسنان طبعاً وخبراء التقويم وجراحي الفم والفكي العلوي الوجهي وخبراء التدليك والتغذية والعلاج الفيزيائي واختصاصيي الألم والأطباء النفسيين. غير أن الكثيرين من أولئك الإختصاصيين لا يتّفقون على أسباب هذه الحالات ولا على كيفية معالجتها.
وهذا التشعّب الواسع في الآراء حول كيفية معالجة هذا الإضطراب المعقّد، يشكّل تربة خصبة لكثير من الإختصاصيين غير المدربين تدريباً كافياً. ويقول رئيس فرع نيويورك للمجلس القومي لمحاربة الزيف الصحي، ان الإضطراب الصدغي الفكي ما يزال أسخن مناطق الخداع في حقل طب الأسنان. وعلى سبيل المثال، فإن مرضى كانوا يشكون ألماً غامضاً في أجزاء قصيّة من الجسم قد أسيء تشخيصهم بأنهم يعانون اضطراباً صدغياً فكياً. بل إن مريضات قد قيل لهنّ إن سوء العضّة يسبب الآلام الطمثيّة، ومرضى قيل لهنّ إن هذه الحالة كانت سبب عنّتهم.
واختلاف الآراء في أسباب الأمراض الفكيّة، ليس وليد اليوم، اذ أنه معروف منذ عهد بعيد. وقد خرج كثير من الأطباء بنظريات حول الإضطرابات والأمراض التي تصيب الفك، ذلك العضو الذي يؤدي عملاً شاقاً. وحتى في هذه الأيام فإن كثيراً من المرضى ما يزالون يواجهون في بعض العيادات السنية مجموعة من وسائل المعالجة تعود الى الثلاثينات، عندما كانت طقطقة الفك تُعتبر مشكلة آلية صرفة سببها سوء العضّة. وفي ذلك الحين كان أطباء الأسنان الذين سعوا لمعالجة هذه الحالة يعمدون الى إحداث تغيير في تضاريس الفك لكي يعيدوا التوازن الى الفم.
ثم ورد التفسير العصري بإن الإضطراب الصدغي الفكي ليس مشكة سلوكية، يُصيب عموماً النساء العاملات اللواتي تحمّلنَ مقتضيات أعمالهن ومسؤولياتهن على أن يحرقن أسنانهن بسبب التوتّر المفرط. وفي الثمانينات جاء التصوير بالرنين المغناطيسي بمنظر جلي للمفصل مما أوجد حافزاً لأن يتمّ إصلاح القرص الغضروفي جراحياً، سواء أكان ذلك ضرورياً أم لا داعي له. والإختلال في التوازن الهورموني وعدم انتظام الهيئة التي يتخذها بعض المرضى يعدّان من التفسيرات الحديثة لهذه الحالات من الإضطراب الصدغي الفكي. واليوم نجد أن لهذه النظريات والآراء مؤيديها ومصدّقيها من المرضى الذين يدفعهم اليأس الى طلب الشفاء.
والواقع ان الإضطراب الصدغي الفكي يشمل طائفة واسعة من الإضطرابات العصبية والعضلية والسلوكية والميكانيكية، ليس لها سبب فرد ولا علاج وحيد. ويمكن تقسيم هذه الإضطرابات بين فئات ثلاث:
– اضطرابات في العضلات التي تُستعمل لفتج الفك وغلقه وللمضغ. وصريف الأسنان (Bruxium) يُمكن ان يحدث تشنجاً أو توتراً عضلياً، وهو ما يُمكن أن يحدث أيضاً عند مضغ قلم الرصاص أو بسبب سوء تركيب الأسنان الصناعية أو الغناء أو التثاؤب.
– اضطرابات تحدث في المفصل أو ما حوله، بما في ذلك الإصابة بحالات التهابية أو أمراض تنكسية كالتهاب المفصل أو تآكل القرص الفكي. فإذا لم تُعالج هذه الحالات فإن الأربطة والنسيج المحيطة بالمفصل يُمكن أن تلتهب.
– اضطرابات في عظام القحف والفك، تتراوح بين الكسور والتشوهات الخلقية والتطورية كالإفراط الشديد في العضة.
وهناك أعراض أخرى، كالإنفعال العام وسوء العضة والهيئة، اذا كانت ترهق عضلات العنق والوجه، يظن الآن في أنها في كثير من الحالات تسبب مشاكل ثانوية ناشئة عن الإضطراب الصدغي الفكي. وهنالك استثناء فرد: هو أن أولئك الذين يحرقون أضراسهم (صريف الأسنان)، كثيراً ما يفعلون ذلك بحكم توتّرهم. فإذا ما عولج سبب الشدّة العاطفية، اختفت هذه العادات السيئة عادة مع اختفاء المشاكل العضلية التي تُسبّبها.
ان الأبحاث الراهنة تميل الى التركيز على المفصل نفسه. فالعلماء المعنيون يرون أن المصابين بالإضطراب الصدغي الفكي تتضاءل في أجسامهم السوائل الطبيعية التي تبقي سائر المفاصل ليّنة الحركة طريّة. وقد أفاد أولئك العلماء بأنهم اكتشفوا وجود نسب كبرى من ناقلات الألم في مفاصل فكوك المرضى بالإضطرابات الصدغية الفكية، وكذلك أنظميات ومواد مسببة للإلتهابات والتلف. ولما كان حوالي 85% من المصابين الذين يسعون لعلاج آلام الفك، هم من الشابات في سن انجاب الأطفال، فإن بعض الباحثين قد استنتجوا بأن الهورمونات، بما فيها الأستروجين، ربما كانت هي المسبّبة لتمدّد الأربطة المحرّكة للفك.
وأياً يكن السبب، فما أن يبدأ ألم المفصل الفكي، حتى يجد المريض نفسه وقد غرق في دوامة من التشخيصات، كيف؟ ومتى؟ وهلّم جرّا. ولكن كثيراً من النقاد الطبيين يبدون قدراً كبيراً من التشكك في كفاءة الآن التشخيص الفكي الإلكترونية الباهظة التكاليف، التي يزعم أصحاها مقدرتها على تحديد الموقع الصحيح للفك، كمقدمة لمعالجة تقويمية تستهدف تعديل مواقع الأسنان لكي تنسجم معه. صحيح أن موقع الفك قد يكون مختلاً أحياناً، غير أن هذه المعدات الغالية الثمن لا تستطيع تقديم المعلومات الدقيقة حول الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه.
ويوصي رئيس عيادة الإضطرابات الصدغية الفكية والجراحة السنية في كلية طب الأسنان بجامعة كولومبيا، بأنه ما إن يتمّ التوصل الى تشخيص صحيح لأسباب الشكوى، حتى يصبح ملائماً اللجوء الى طريقة علاجية محافظة شاملة قابلة للنكوص عنها عند الحاجة، وان يتجنب الجراح الإجراءات الجراحية غير المعكوسة، فالجراحة الفكية (لإصلاح أو تعويض القرص أو المفصل، والإستعاضة عنهما بغراس غضروفية صنعية مثلاً)، أو اجراء تقويم لتغيير عضة الأسنان.
ويقول هذا الخبير أن عدداً كبيراً من الأشخاص الذين يعانون طقطقة فكية عند الكلام أو مضغ الطعام، وبعض الأعراض الأخرى، ليسوا في حاجة إلى أجراء علاج رئيسي، بل إن بعض هؤلاء الأشخاص لا يحتاجون الى أي معالجة قط.
وبصورة عامة فإن المشاكل العضلية بالفك تكمن معالجتها بأمان عن طريق اللجوء الى بعض التمرينات البسيطة للفك والكمادات الحرارية وعقاقير إرخاء العضلات والرذاذ التحذيري، التشنجات ، وتناول المآكل الطرية لتخفيف إرهاق العضلات، لوقف وتفادي مسببات التوتر. والإلتهابات الفكية تستجيب للعلاج بالستيرويدات القشرية الكورتيزون وما اليها من العقاقير المقاومة للإلتهابات. وكثيراً ما يكون بالمستطاع التحكم بمسببات الألم عن طريق إعطاء المصاب جرعات مخفّضة من اللا مخمدات.
وكثير من أطباء الأسنان يصفون لمرضاهم واقيات فموية بلاستيكية، أو جبائر استقرارية توضع فوق الأسنان العلوية أو السفلية. وهذه الأدوات تلبس عادة أثناء الليل فتبقي الفكّيْن متباعدين مما يقلّل فرص صرف الأسنان وحكّها ببعضها. واليوم يُشكل العلاج الفيزيائي جزءاً رئيساً من رق العلاج، حيث يلقن المرضى كيفية القيام بتدريبات على حركات الفك واللسان وذلك من أجل إعادة تدريب العضلات المشدودة، وكذلك على الهيئة بحيث تمنع الأوضاع المسبّبة لإرهاق عضلات الرأس والعنق والوجه.
وبعض المعالجين الفيزيائيين يستعملون أجهزة غير جلدية للتحريض العصبي تساعد على استرخاء العضلات، وكذلك قد يلجؤون الى طريقة المعالجة بفائق الصوت وذلك لزيادة وتيرة شفاء الأنسجة. ولكن من سوء الطالع أن هذه الأدوات كثيراً ما يُساء التوصية بها من قبل بعض أطباء الأسنان الذين يستخدمونها كوسيلة علاجية قائمة بذاتها، بدلاً من جعلها مندمجة مع برنامج شامل للتدريب وتخفيف الإرهاق.