القربانة تُجسد ثلاثية التعليم المسيحي
د. الياس ميشال الشويري
السلام هو أحد أعظم القيم التي تُعلّمها المسيحية، وهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والآخرين. في تعاليم المسيح، يُعتبر السلام عنصرًا جوهريًا في الحياة الروحية، حيث يرتبط بالحب والمغفرة والمصالحة. تبدأ رحلة السلام عندما يتصالح الإنسان مع نفسه، ثم مع الآخرين، وأخيرًا مع الله. يستند هذا البحث إلى ثلاث ركائز أساسية مستمدّة من تعاليم المسيح: سلام الله الذي يحفظ قلوبنا، المغفرة بين المؤمنين كما غفر الله لنا في المسيح، والسعي إلى المصالحة قبل العبادة.
1- سلام الله يحفظ قلوبكم وأذهانكم في المسيح يسوع.
النص في فيلبي 7:4 يقدّم وعدًا مهمًا للمؤمنين بأن “سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ يَحفَظُ قُلوبَكم وأَذْهانَكم في المسيحِ يسوع“. هذا السلام الإلهي لا يُشترى ولا يُكتسب من خلال الجهد البشري، بل هو نعمة إلهية تمنحها العلاقة الوثيقة مع الله من خلال المسيح. تتجاوز فكرة السلام هنا الشعور العام بالراحة أو الطمأنينة، فهي تشير إلى حالة روحية أكثر عمقًا وثباتًا، حالة من الأمان الداخلي الذي يعكس الثقة المطلقة بالله رغم التحديات والصعوبات.
أبعاد السلام الداخلي. ان ثلاث مزايا ترتبط بـ “السلام الداخلي” هي:
-الهدوء في مواجهة الأزمات، لأن سلام الله يمنح المؤمنين القدرة على مواجهة التحديات والصعوبات بروح مفعمة بالثقةاا والاطمئنان. فهو سلام يتحدى الفهم البشري، إذ إنه يجعل الإنسان قادرًا على الثبات وسط العواصف.
-التحرّر من القلق والاضطراب، لأن الإنسان بطبيعته يواجه مشاعر القلق والاضطراب، سواء كانت ناتجة عن مخاوف تتعلق بالمستقبل أو تحديات في الحياة اليومية. ومع ذلك، فإن السلام الذي يمنحه الله يساعد المؤمن على التغلب على هذه المشاعر من خلال توجيه أفكاره واهتماماته نحو الله.
–سلام العقل والقلب، ذلك أن السلام الذي يأتي من الله يحفظ قلوبنا وأفكارنا. العقل والقلب في المسيحية يشكلان مركز الحياة الروحية؛ حيث أن العقل هو منبع الأفكار والإدراك، والقلب هو موطن المشاعر والعواطف. سلام الله يغطّي هذين المجالين، ممّا يحمي المؤمن من الأفكار السلبية والمشاعر السامة.
-السلام كحماية روحية. السلام الإلهي لا يعمل فقط كعنصر للراحة، بل هو درع روحي يحمي المؤمن من تأثيرات الشر والخطيئة. عندما يحفظ الله قلوبنا وأفكارنا في المسيح، فإنه يمنحنا القوّة لمقاومة الشك والخوف والاضطرابات النفسية التي قد تؤدّي إلى الابتعاد عن الله.
2- ليصفح بعضكم عن بعض كما صفح الله عنكم في المسيح.
في رسالة أفسس 32:4، يحثّ الرسول بولس المؤمنين على التسامح بقوله: “لِيَكُنْ بَعضُكم لِبَعضٍ مُلاطِفًا مُشفِقًا، ولْيَصفَحْ بَعضُكم عن بَعضٍ كما صَفَحَ الله عنكم في المسيح“. المغفرة في المسيحية ليست مجرّد فعل بل هي موقف روحي يعكس طبيعة الله. إنها تعبير عن محبة غير مشروطة تهدف إلى إزالة الأحقاد والخلافات التي تعكر صفو العلاقات الإنسانية.
أهمية المغفرة في المسيحية.. وهنا أيضاً يجب التوقّف عند ثلاث مآثر:
-المغفرة كطريق للسلام الداخلي:.عندما يغفر الإنسان، فإنه لا يحرّر الشخص الآخر من الدين الأخلاقي فقط، بل يحرّر نفسه من عبء الغضب والحقد. الغفران يُسهم في استعادة السلام الداخلي ويجنّب الإنسان الدخول في دائرة الانتقام أو الكراهية.
-المغفرة تجلب السلام المجتمعي. في مجتمع مليء بالنزاعات والخلافات، تعتبر المغفرة المفتاح للحفاظ على وحدة الجماعة واستقرارها. التسامح بين الأفراد يعزز من المحبة والوئام، ممّا يخلق بيئة سليمة للعيش والتفاعل.
-مغفرة الله كمثال أعلى. المغفرة التي يقدّمها الله من خلال المسيح هي المثال الأعلى الذي يجب أن يتبعه كل مؤمن. الله يغفر الخطايا دون قيد أو شرط، وهو يدعو المؤمنين ليظهروا نفس الروح من التسامح في حياتهم اليومية.
-مغفرة متبادلة من أجل سلام شامل. الصفح المتبادل بين المؤمنين هو الأساس الذي يرتكز عليه السلام الاجتماعي. عندما يغفر كل فرد للآخر، يتمكّن المجتمع من تجاوز الخلافات والنزاعات التي قد تؤدّي إلى الانقسام والعداوة. المغفرة في المسيحية ليست فعلًا فرديًا بل هي عملية جماعية تهدف إلى تحقيق السلام بين الأفراد والمجتمعات.
3- إذهب وصالح أخاك ثم عُدْ وقرِّب قربانك.
في متى 23:5-24، يؤكد المسيح أهمية المصالحة قبل العبادة بقوله: “فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك”. هذا النص يظهر بوضوح أن العلاقة مع الآخرين جزء لا يتجزأ من العلاقة مع الله.
-المصالحة كشرط للعبادة. وهذه أيضاً من الأولويات وتتضمّن شرطَيْن:
-أولوية المصالحة على الطقوس. تعليم المسيح يوضح أن المصالحة مع الآخرين لها أولوية على ممارسة الطقوس الدينية. لا يمكن للإنسان أن يتقرب إلى الله إذا كان في نزاع مع الآخرين. المصالحة هي شرط مسبق للعبادة الحقيقية.
-المصالحة تعزّز الوحدة الاجتماعي. دعوة المسيح إلى المصالحة قبل العبادة ليست فقط لأجل السلام الروحي للفرد، ولكن أيضًا للحفاظ على وحدة المجتمع. عندما يتمّ حلّ النزاعات بشكل شخصي ومباشر، يتجنّب المجتمع الانقسامات والتوترات التي قد تعكّر صفوه.
-السعي إلى المصالحة. في تعاليم المسيح، المصالحة ليست مجرد تسوية للنزاعات، بل هي فعل محبة يسعى من خلاله المؤمن إلى إعادة بناء العلاقات المكسورة. المصالحة تتطلب التواضع والاعتراف بالخطأ، وهي خطوة نحو تحقيق السلام الداخلي والخارجي.
-مفهوم السعي إلى السلام في المسيحية. السعي إلى السلام هو محور العديد من التعاليم المسيحية، وهو مرتبط بتحقيق العدالة، والمحبة، والمصالحة بين الناس. يعتبر المسيح أن صانعي السلام هم “أبناء الله” (متى 9:5)، وهذا يبرز أهمية السلام كقيمة إلهية. السلام ليس فقط غياب النزاع، بل هو عمل إيجابي يتطلب الجهد للتوفيق بين الأفراد والجماعات المتنازعة. صانعو السلام يتجسدون كجسر بين الأفراد، ويعملون على تحقيق الوئام الذي يعكس حب الله للبشرية.
4- الخاتمة.
السلام والمغفرة والمصالحة تشكّل ثلاثية أساسية في التعليم المسيحي. هذه القيم ليست فقط من أجل التعايش بين البشر، بل هي جزء من علاقة الإنسان بالله. في المسيحية، لا يمكن للفرد أن يعيش في سلام حقيقي دون أن يكون في علاقة سليمة مع الآخرين ومع الله. السعي إلى السلام هو دعوة مستمرة لكل مؤمن ليكون عاملًا للخير في هذا العالم، وأن يعكس من خلال سلوكه وتعاملاته محبة الله وسلامه.