حَبّات البرد نحن في الخليج
د. غالب خلايلي
نثر الجو على الأرض برد
أي درٍّ لنحورٍ لو جمد
لؤلؤ أصدافه السحب التي
أنجز البارق منها ما وعد
عندما يقرأ القارئ شعر الشاعر الأندلسي ابن حمديس؛ يظنّ خيراً بالبرد؛ ويبدأ بتخيل جِيد الحِسان النواعم مطوقةً بعقود اللؤلؤ؛ في جنة الفردوس؛ ولا يعلم كيف استيقظنا هلِعين صباح الإثنين الثاني عشر من شباط ٢٠٢٤؛ على صوت “قصف” الرعد والبَرَد؛ وخرير المياه في البيت؛ حتى لكأن بيتنا مؤلف من صفيح القصدير؛ وليس ذاك البيت المنيع ذا الخرسانة المسلّحة المبني بأمانة فائقة.
أفي حلم نحن أم علم؟
يمر وقت على النائم وهو يسبح في أضغاث أحلامه وأهوال ما يمكن أن يكون قد رآه؛ قبل أن يصحو على حقيقة هذه الأصوات؛ ويدرك ما هو فيه؛ وأن عليه أن ينهض -رغم الجو البارد- لاستدراك ما يمكن استدراكه؛ وأنى له في العتم ذلك؛ والشمس لم تشرق بعد؛ فيما الشارع القريب يلمع بأضواء البرق ويرعد مع الرعد وسط ضباب كثيف؟
ومع ذلك يسرع وأم العيال (والعيال أصلا بعيدون)؛ لدرء بعض الخطر الوافد قبل أن يستفحل؛ وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل غرقه بالماء.
ويا لهول المنظر بعد النزول الحذر على درج زلِق من كثرة الماء الهابط من السطح؛ وبعد فتح الباب الرئيس؛ حيث حبات البَرَد الكبيرة تملأ المكان الذي يكاد يغرق بالماء؛ فيما أصص الورد والريحان منتوفة الرؤوس والعروق والفروع، مبعثرة هنا وهناك كأن قطيع ماعز برّياً شرساً عبث بها ومزّقها شرّ ممزق؛ أو كأن معركة حامية الوطيس جرت هنا وتركت وراءها كل هذه الأشلاء.
والمكان: مدينة مهرجان الزهور
وأين هذا (الصخب) كله؟
لا؛ ليس في لندن عاصمة البرد والضباب؛ بل في العين؛ مدينة الهدوء الساحر الجميل والحدائق الغناء؛ المدينة التي يندر أن ترى المطر إلا ما ندر؛ في قيظ الصيف أحيانا (أمطار موسمية)؛ أو في الشتاء المعتدل الذي يشبه الربيع؛ وأقصى البرد فيها ما يتطلب سترة بسيطة وبعض دثار؛ المدينة التي تستعد لافتتاح مهرجان الزهور بعد يومين؛ في الرابع عشر من شباط الشهير؛ وفي الحديقة الشهيرة (الجاهلي) قرب قلعتها الشهيرة.
وهذا كله أيضا على الرغم من تحذير السلطات المشدد من اضطراب الجو المتوقع قبل يومين؛ واتخاذ الإجراءات المناسبة كافة بما في ذلك مكوث الطلاب وكل من ليس عنده عمل ضروري في البيوت.
ومع ذلك، لا بد مما ليس منه بد؛ ومما كتبه الرحمن، ولو بأقل الأضرار الممكنة بالنسبة لمثل عائلتي الصغيرة؛ أضرار لا تذكر مقارنة بغيرها؛ ومن ذلك – عدا تضرر الزرع الذي يعوض إن شاء الله- علامات تركتها أحجار البرَد وحصياته على هيكل السيارة الواقفة في العراء أملا في غسلها دون جهد!؛ وهل كنا نعلم أن المطر سيغضب غضبةً مضرية تفتك بزجاج سيارات كثيرة كما انتشر في الأنباء؟
ها نحن أولاء نقبع في المنزل بعد أن جففنا ما ابتل؛ وجمعنا ما تراكم من حطام الريحان والورد الذي يمنع تصريف المياه؛ لنسمع هدير الرعد وقصف المطر طيلة اليوم؛ ونسمع من بعيد صوت سيارات الإسعاف والشرطة تهرع إلى المحتاجين؛ الذين نرجو أنهم جميعا في خير؛ ولم يتضرروا في هذا اليوم العصيب.
إجازة لا بد منها
أدركني النعاس والتعب في الوقت الذي يجب أن أهرع به الى عيادتي؛ فقررت النوم قليلا مع ثقتي شبه المطلقة أن أحدا لن يفكر بالقدوم إلي في مثل هذا الجو؛ أولاً لأنه صعب؛ وثانياً لأن كثيرين يخرجون إلى البراري ل (الاستمتاع) بيوم نادر من المطر.
أنا، حقيقة، لا أحب مثل هذه المغامرات؛ وإن كنت أعشق أوراق الخريف الصفر المحمرة المتساقطة؛ وكذا السير تحت المطر الخفيف مع مظلة؛ وليس بالطبع تحت وابل من البرَد.
في الثانية عشرة ظهرا هدأ الجو إلى حد ما؛ فقلت: أستطلع عيادتي! ولكن أول مستديرة مليئة بالماء أعادتني بإرادتي إلى بيتي؛ خاصة مع غياب ضرورةٍ للذهاب؛ وتذكرت كم من قبل (اقتحمت) برك الماء في الشوارع الماطرة أيام الضرورة؛ وغاصت سيارتي فيها حتى منتصفها؛ وتباطأت حتى ظننتها تعلق؛ ثم اجتازتها بمعجزة للقاء مريض محتاج أو إنقاذ روح.
لا يسعني في مثل هذا الجو العاصف سوى تقديم أسمى آيات الشكر والاحترام والتقدير لكل من خرج من بيته هذا اليوم والأيام المماثلة من أجل إنقاذ أرواح الناس وخدمتهم؛ ومن أهم من رجال الإسعاف والإنقاذ والأطباء والشرطة وأهل الطوارئ في الطرق ومؤسسات الماء والكهرباء؟
مع الرجاء لكل محتاج في هذا العالم بالصحة والعافية والدفء.. دمتم بخير.
العين ١٢ شباط ٢٠٢٤