وكالة عالمية ضخمة يستغني البعض عن خدماتها
الأزمة المالية التي تمرّ بها صحيفة نداء الوطن اللبنانية، ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة. واذا كان فريق العمل فيها، بغض النظر عن رضى أو عدم رضى ملاّك الإمتياز، قد قرّر أعضاؤه متابعة الإصدار الكترونياً مدة شهر كامل من دون دفع رواتب للمحررين، لعل وعسى، أي لعلّ من يأتي من المستثمرين أو الطامحين الى عمل سياسي ويضخّ فيها مالاً لتعود ورقياً الى الحياة، فإن هذا الحل المتوافر بين اليدين، لا يبدو أنه سيجلب الترياق الى صحيفة بدأت تعاني سكرات الموت ورقياً، بالنظر الى التكلفة الباهظة والميزانية الضخمة التي يجب أن تُرصد لها، في ظروف صعبة للغاية، وفي ظلّ غياب الإهتمام بالصحافة المكتوبة ليس في لبنان وإنما في دول العالم أجمع، مع هذه الثورة التكنولوجية التي أكلت الأخضر واليابس ولم تشبع ولن تشبع، وقد يكون الآتي أعظم.
انطلقنا من هذه المقدمة لنُشير الى ما هو أقسى وأشدّ ايلاماً: استغناء الوسائل الإعلامية عن وكالات الأنباء العالمية وأهمها “الأسوشييتد برس” التي كانت وحدها ولا تزال تصنع الخبر ما يقرب من قرنين، وتحديداً منذ الحرب المكسيكية-الأميركية عام 1846 ، أي منذ لجأت الصحف الكبيرة والصغيرة اليها للحصول على تقاريرها من أماكن لا يمكن مراسليها الوصول اليها. اذ، وبفضل وجود أكثر من 200 مكتب حول العالم، ظلّت هذه الوكالة الإعلامية الأميركية الشريان الحيوي للصحافة بتزويدها بالمقالات والصُور وبتكلفة لا تُشكّل أي عبء على صاحب الجريدة. ومن عايش الفترة الذهبية للصحف يعرف جيداً ما أقول، والى درجة أن صحفاً لبنانية (وعربية) كانت تحتجب عن الصدور في اليوم التالي اذا لم تمدّها الوكالات بالأخبار، والأمثلة كثيرة.
نعود ال جوهر الموضوع لنشير الى أن سلسلَتَيْن صحافيَتَيْن أميركيَتَيْن كبيرتَيْن قرّرتا التخلي عن خدمات الـ “A.P”، تصغيراً لكلمة الأسوشييتد برس، هكذا كان الصحافيون يسمونها، هما شركة غانيت ناشرة صحيفة USA Today وأكثر من 200 صحيفة محلية، وشركة ماكلاتشي التي تنشر صحيفتَيْ ميامي هيرالد والـ “كانساس سيتي ستار”، فضلاً عن صحف أخرى، وكل ذلك لضبط الأنفاق وشد الأحزمة لتوفير ملايين الدولارات، وبرأي الناشرين أنه لم تعد توجد أية مشكلة في سدّ الفجوة الأخبارية بوجود الهاتف الذكي الذي بات أفضل مراسل ميداني في الوقت الحاضر، على رغم المخاوف على صدقية الأخبار المنقولة وعدم وجود قواعد التزام ومحاسبة وتحمّل مسؤولية.

كريستين روبرتس، المديرة التنفيذية لشركة «غانيت» علّقت على الخطوة بالقول: “نحن نصنع أخباراً أعم وأشمل كل يوم من (الأسوشييتد برس)». بيد أن بعض مراقبي وسائل الإعلام – بمن في ذلك العاملون في الصحف المتضررة – حذّروا من أن القرار سيقطع مصدراً حيوياً للتقارير الموثوق بها التي أصبح القراء يعتمدون عليها. ورأى بعضهم القرار «خسارة» لا يمكن تعويضها، منتقدين ادعاءات مسؤولي الشركتين عن تحقيق الوفر المادي، في وقت فرض التقليص المتواصل على طاقم إعداد التقارير، الاعتماد أكثر فأكثر على الخدمات الإخبارية للمساعدة في سد الفجوات!
وبالنسبة لأستاذة الصحافة في الجامعة الأميركية (في واشنطن) ومؤلفة كتاب التحوّط مارغو سوسكا، فشجبت الخطوة قائلة: “ان صناديق الاستثمار الخاصة تساعد في تدمير الصحف الأميركية وتقويض الديمقراطية؟»، مضيفة إنها «تشعر بالقلق بشأن ما قد يملأ تلك الصفحات الآن». ثم أردفت: «وكالة الأسوشييتد برس هي واحدة من أكثر المؤسسات موثوقية في مجال التغطية الإخبارية على المستوى الوطني وعلى مستوى الولايات»، مشددة على الدور الذي تلعبه «التقارير الموضوعية» للوكالة في سنة الانتخابات الحالية، قبل أن تضيف: «بالنسبة لأي شخص يهتم بالأخبار في ظل ديمقراطية فاعلة، فهذا مجرد مسمار آخر في النعش!”

وبإزاء هذه الضجة، وفي عزّ الحملات الإنتخابية في الولايات المتحدة، ذهب البعض الى القول أن ما جرى هو لتحسين عقود التجديد مع الوكالة. ومن ذلك أن الناطقة باسم الـ«أسوشييتد برس» نيكول منير قالت: “إنها تأمل أن تواصل شركتا «غانيت» و«مكلاتشي» استخدام خدمات المحتوى الإخبارية الخاصة بها”، كاشفة عن أن «المباحثات معهما مستمرة»، ما يشير إلى أن قرارات الناشرين يمكن أن تكون جزءاً من استراتيجية التفاوض على العقد. كذلك أفادت مئير في بيان آخر: «نحن نقدّر صعوبة اتخاذ هذه القرارات، ونفهم بعمق التحديات التي تواجهها صناعة الأخبار… ولكن في الوقت نفسه، سيكون هذا بمثابة ضرر لمستهلكي الأخبار في جميع أنحاء الولايات المتحدة الذين لن يروا بعد الآن الصحافة القائمة على الحقائق من (الأسوشييتد برس)». وعلى رغم ذلك، ذكرت «غانيت» أنها ستواصل الحصول على خدمة تغطية بيانات الانتخابات من الـ«أسوشييتد برس»، وكذلك استخدام كتاب الأنماط الخاص بها، وهو عبارة عن مجموعة من المبادئ التوجيهية اللغوية والنحوية لغرف الأخبار.
الى ذلك، أوضحت وكالة A.P “أن رسوم الصحف الأميركية تمثل فقط نحو 10 في المئة من دخلها السنوي، وأن الخسارة في الإيرادات من «غانيت» و«ماكلاتشي» لن تؤثر بشكل كبير في مواردها المالية. وبينما تواصل الشركتان التشديد على أن قرار الاستغناء عن خدمة الـ«أسوشييتد برس» سيمكّنهما من الاستثمار بشكل أكبر في إنتاج أخبارهما الخاصة، فإن وعودهما بزيادة أعداد الطاقم الإخباري وتخصيص أموال إضافية، لم تطبّق بعد على الأرض. وفي مؤتمر صحافي عُقد في مدينة أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا، تطرّق مايك ريد، الرئيس التنفيذي لشركة «غانيت»، إلى موضوع الاستغناء عن خدمات الوكالة، فقال إن مُحتوى الوكالة «لم يعُد يُقرأ جيداً مثل القصص المنتجة محلياً، وعلى هذا النحو، كان من الأفضل من الناحية المالية توفير المال وتوظيف مراسلين محليين لإنتاج المزيد مما يريده القراء”.

من ناحية ثانية، وعلى رغم إعلان ريد عن جهود لتعزيز غرف التحرير، وتعهّد الشركة أخيراً باستثمار مبلغ 2 مليون دولار لتوظيف عاملين جدد في غرف الأخبار، فإن ثمة شكوكاً كبيرة حول نيات «غانيت» فيما يتعلق بإمبراطورية الأخبار المحلية الخاصة بها؛ إذ، على العكس من ذلك، أضرب في العام الماضي، مئات الصحافيين في صحف «غانيت» في عدة ولايات احتجاجاً على خفض عديد العاملين في غرف تحرير الشركة. وأفاد بعض العاملين بأن أجور بعض الموظفين العاملين منذ أكثر من 30 سنة، ليست متناسبة مع جهودهم، وثمة وظائف شاغرة منذ أكثر من سنتين لم تملأ بعد. وبالفعل، وفق إحصاءات وظيفية، عمدت «غانيت» – التي تعد أكبر سلسلة صحف في أميركا – إلى تقليص عدد موظفيها خلال السنوات الثلاث الماضية بنسبة 47 في المئة. وهو ما دعا البعض إلى القول إن ادعاءات رئيسها التنفيذي عن زيادة عدد الموظفين لتقديم أخبار محلية قوية «ادعاءات مضحكة”.
يُذكر هنا أن كلاً من «غانيت» و«ماكلاتشي» عانت صعوبات مالية خلال السنوات الأخيرة؛ إذ عمدتا إلى الاندماج مع شركات أخرى، وسيطرت صناديق تحوّط استثمارية وشركات أسهم خاصة عليهما، بعد مزاد إفلاس. ولكن، رغم ذلك، تبين أن مسؤولين تنفيذيين في الشركتين حصلوا على أجور خيالية. وعلى سبيل المثال، ووفقاً لإيداعات هيئة الأوراق المالية والبورصة، حصل ريد، المدير التنفيذي لـ«غانيت» نفسه، عام 2021، على راتب سنوي يقرب من 8 ملايين دولار، بينما واصلت الشركة تسريح الموظفين!