لم يسبق لتعميم صادر عن مصرف لبنان أن أثار ضجّة كالتعميم الرقم 154 الذي ورد ضمن التعاميم 567 و568 و569. أمّا سبب الضجّة التي رافقت صدوره فعائد إلى أنّ هذا التعميم موجّه إلى فئة عملاء المصارف الكبار الذين حوّلوا أموالًا إلى خارج لبنان تفوق بمجموعها الـ 500 ألف دولار أو ما يوازيها بالعملات الأجنبية خلال الفترة الممتدّة بين 1/7/ 2017 حتى 2019/10/17، على أن يودِعوا في حساب خاص مجمّد ولمدّة خمس سنوات، مبلغًا يوازي 15 بالمئة من القيمة المحوّلة.
ولكن من هم هؤلاء العملاء؟ يجيب البند الثاني من المادة الثانية على هذا السؤال بالقول: “أنّهم رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة في المصارف كذلك كبار المساهمين فيه، فضلاً عن المسؤولين في الإدارات العليا التنفيذيّة والعملاء من السياسيّين، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة أو بواسطة شركات يمتلكها أيّ منهم. وحدّد التعميم نسبة 30 بالمئة بدلاً من 15 كمبلغ يُودع في الحساب الخاص المجمّد المذكور لهؤلاء السياسيّين، وكلّ ذلك بهدف استخدام هذه الودائع المجمّدة في المعاملات التجارية المحفّزة للاقتصاد.
على أنّ ملاحظات مهمّة ومتباينة طرحها رجال قانون وخبراء مال ومصارف دارت كلّها حول نقطة أساسيّة هي: هل يستطيع هذا التعميم أن يُلزم من حوّلوا أو هرّبوا أموالهم إلى الخارج، سواء كانوا من السياسيّين أو أصحاب المصارف أو المتموّلين أو المساهمين، أن يعيدوا النسبة المطلوبة (15 أو 30 بالمئة) لإيداعها في هذا الحساب المجمّد وخصوصًا أن البنك المركزي ليس سلطة قضائية ولا قانونية قادرة على إلزام هؤلاء إعادة هذه النِسَب من أموالهم تحت الملاحقة القانونيّة؟
يكاد أهل الاختصاص يُجمعون على رأي موحّد هو أنّ المصرف المركزي لا يتمتّع بصلاحيات تشريعيّة بموجب قانون النقد والتسليف. والبعض من هؤلاء يحتكم إلى دليلَيْن: الأوّل يتمثّل بالكتاب الذي أرسله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى وزير المالية غازي وزني في 9 كانون الثاني 2020 طلب فيه تزويد مصرف لبنان بصلاحيات استثنائيّة، وذلك في معرض الحديث عن “الكابيتال كونترول“. أمّا الثاني فيعود إلى أنّ هذا التعميم (154) استعمل عبارة “حثّ العملاء“ الذين حوّلوا تلك الأموال إلى الخارج. و“الحثّ“ هنا يعني قانونًا، وفق الملاحظات الأوليّة التي أعدّها المحامي والوزير السابق زياد بارود، “دفع العملاء إلى ما يمكنهم القبول به أو رفضه من دون أن يترتّب على هذا الرفض أية مفاعيل قانونيّة، وإن اتّضح من أحكام وردت في القرار توحي وكأنّ ثمّة جزاء سيطاول العميل الذي لا يتجاوب مع مضمون التعميم“!
ما لفت هو أنّ خبراء قانون ومصارف آخرين اعتبروا أنّ هذا التعميم هو الأهم الذي يصدر عن المركزي، وبالتالي يجب عدم اعتباره تعميمًا بسيطًا، كماقال القاضي بيتر جرمانوس في تعليقٍ له على هذا التعميم الذي “يجب أن يُقرأ بشكل جدّي، وأن يُعطى حجمه وعدم اعتباره تعميمًا بسيطًا”. وبرأيه، أنّ أحدًا لا يمكنه أن يُنكر صلاحية مصرف لبنان لناحية إصدار أي تعميم، وإذا أراد أحدهم الطعن واعتبار ما صدر عن المركزي غير قانوني ودستوري، فإن الواقع يؤكّد أنّ “أي تعميم يصدر عن المركزي غير قابل للطعن،وبالتالي يصبح ذا صفة تشريعيّة. ومن هنا على المعنيّين به أن يتعاطوا معه كواقع قانوني مصرفي”. الأهمّ، ودائمًا وفق القاضي جرمانوس، أنّ التعميم 154 متسلسل، وهذا يعني أنّه ليس بالإمكان فصله عن التعاميم السابقة.
وما هي الآليّة التي يمكن أن تُعتمد لتنفيذ هذا التعميم؟
يجيب القاضي جرمانوس عن السؤال بالقول: “من المفروض على المصرف أن يبلّغ عميله (المعني بموضوع التحويل أو التهريب) سواء بواسطة رسالة الكترونية أو إنذار خطّي مثبّتَيْن، أنّ عليه إعادة النسبة المطلوبة إلى صندوق الودائع المجمّدة. فإذا نفّذ الطلب وقام بتحويل المبلغ ينتهي الموضوع عند هذا الحدّ. ولكن في حال الرفض، فعلى المصرف أن يبلّغ المركزي الذي عليه، أوّلاً، تبليغ هيئة التحقيق الخاصة التي تباشر بالتحقيقات إذا كانت هناك عملية تبييض أموال، ومن ثمّ، ثانيًا، النيابة العامة التمييزيّة للملاحقة. وبديهي القول أن المسؤوليّة عندها تقع على كلّ من لا يُبلّغ سواء المصرف أو مفوّض المراقبة بتبييض الأموال! لهذا، يقول جرمانوس، أنصح محاميّ المصارف أن ينتبهوا وينفّذوا مضمون التعميم لأنّ كلّ تلكّؤفي هذا الموضوع سيعرّض المصرف إلى الملاحقة القانونيّة“.
وفي قراءة للخبير الاقتصادي د. جاسم عجاقة، فإنّ هذا التعميم، كما تعميم الوسيط ذي الرقم 567، يشكّلان دعامة أساسيّة لإعادة نهوض القطاع المصرفي. أكثر من ذلك، ذهب إلى حدّ القول: “خيرًا فعل حاكم مصرف لبنان بوضعه التعميمَيْن موضع التنفيذ، لأنّهما بمثابة خارطة طريق لإعادة إحياء القطاع المصرفي، فضلاً عن أنّهما ضمانة لإعادة الودائع إلى أصحابها“.
ولكنّ: هل للمركزي سلطة قضائيّة أو قانونيّة لإلزام هؤلاء العملاء، إعادة جزء من أموالهم؟
يجيب د. عجاقة على السؤال بالقول: “طبعًا لا، ولهذا استخدم المركزي عبارة “حثّ العملاء” وأرفقها بسلّة من الإغراءات كتقديم المصرف للعميل المقصود إفادة خطيّة صريحة بهذا المعنى باستعادة وديعته مهما تكن الظروف عند حلول الأجل المتّفق عليه. كذلك أتاح المركزي للمصارف منح هذه الفئة من المودعين فؤائد عالية، كما ورد في البند الثالث من المادة الثانية من دون التقيّد بسقوف محدّدة”.
وفي حال كان قرار العملاء سلبيًا؟
ردّ عجاقة على السؤال بالقول: “يمكن فضحهم وتسليم الملفات إلى القضاء الذي يعالج مسألة استعادة الأموال المنهوبة بعد أن تُزوّده لجنة التحقيق الخاصة بأسماء هؤلاء ضمن إطار مكافحة تبييض الأموال وتهريبها”.
من جهته، علّق نائب رئيس جمعية المصارف نديم قصّار بالقول: “أنّ حاكم المركزي يعي تمامًا تفاصيل هذا التعميم وأهدافه وحيثياته، وبالتالي فهو متأكّد من قانونيّته تمامًا. أمّا دور المصارف فسيقتصر على تطبيق التعميم بالتمنّي على كبار عملائها وجوب استرجاع النِسَب المذكورة، وإن لم يفعلوا، عندها تقوم المصارف بتبليغ مصرف لبنان”. تابع: “بهذا التعميم ستتكشّف الأمور أمام من اتّهم المصارف ولا يزال في تهريب الأموال إلى الخارج“.
إنّ هذا التعميم “إيجابي جدًّا، يضيف قصّار، وكأصحاب مصارف سنطبّقه ونسترجع الأموال من الخارج إلى لبنان. حتّى نسبة الــ 15 بالمئة المطلوب من العملاء استرجاعها منذ العام 2017، تبقى أقلّ من الفائدة التي تقاضوها طوال السنوات الثلاث وتبقى بإسمهم في حساب خاصّ“. أضاف: “لا شكّ أن هذا التعميم صدر بعد دراسة قانونية معمّقة من قبل المركزي، وتطبيقه سيمنع الـ Haircut على أموال المودعين. إنّها مبادرة حلّ فلنتلقّفها“.
في مقابل هذا الترحيب، اعتبر المحامي زياد بارود أنّ هذا التعميم غير قانوني، فإلى مَ استند؟
الجواب: لأسبابٍ عدّة، منها إشكاليّة كفرض تدبير زاجر بمفعول رجعي، ومن دون نصّ تشريعي يجيز هذا التدبير، ضمن شروط قاسية، احترامًا للأحكام الدستورية ومنها النظام الاقتصادي الحرّ، الملكية الفردية، حرية التصرّف بالأموال الخاصة وحريّة حركة الأموال. “وعلى افتراض أنّ هذا التدبير جائز، يقول الوزير بارود، كيف يمكن عميلاً أمواله غير مشبوهة ومعروفة المصدر وممتثل لكلّ القواعد أجرى تحويلاً بين 1/7 /2017 و17/10/ 2019 لدراسة وإقامة أولاده في الخارج ولشراء منزلٍ هناك، أو للاستثمار في شركة، أو لتسديد ضريبة، أو تنفيذ حكم قضائي… كيف لهؤلاء أن يعيدوا 15 بالمئة ممّا تمّ إنفاقه؟“
ويتساءل أيضًا من ضمن ملاحظاته الأوليّة عن التعميم: “كيف يمكن مصرفًا أن يستنسب في معدّلات الفائدة من دون طائل بحيث تتخطّى المعدّلات القصوى المسموح بها لإغراء المعنيّين بالقرار؟ وهل يمكن أن تكون الفائدة صفر باستنساب مصرف منفرد وعلى 5 سنوات؟“
وينتقل وزير الداخلية الأسبق إلى نقطة ثانية في مجال الملاحظات التي أدلى بها بخصوص هذا التعميم ومنها: كيف يمكن ودائع موضوعة في صندوقٍ خاص أن تحفّز الاقتصاد الوطني ولا ضمانات على هذا الصعيد؟ وكيف بإمكان هذا العميل أو ذاك، أن يستعيد وديعته في ظلّ انهيار الثقة نتيجة الضبط التعسّفي وغير القانوني لحركة الأموال، سحبًا وتحويلاً؟
ومن الملاحظات أيضًا، ما له علاقة بتحويل الودائع إلى أسهم أو سندات دين دائمة قابلة للتداول والاسترداد وفق ما ورد في المادة الرابعة. يقول في هذا الصدد: أنّ هذا إشكالٌ من إشكال الـ Bail-In، فإذا بقي اختياريًا، كما ورد في تلك المادّة، فليس هناك من إشكال، لكن ماذا لو أصبح إلزاميًا وبديلاً مقنّعًا من الـ Haircut؟ يبقى المثير للاستغراب وهو ما ورد في المادّة الخامسة حول إحالة المصرف المخالف أو المتقاعس على الهيئة الرقابية العليا وفرض تدابير وعقوبات، وفقًا للحالة؟ إنّ هذه المسألة تدخل ضمن الصلاحية التنظيميّة للقطاع التي يتمتّع بها المصرف المركزي أوّلاً. أمّا بالنسبة للعملاء، فكيف يمكن “للحثّ“ أن يؤدّي بمن لا يرغب بالتجاوب، إلى عقوبات جزائية خطيرة تتعلّق بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب؟ ثمّ ما الرابط بين البندَيْن 9 و21 من المادة الأولى من القانون 44/2015 اللذيْن يشملان الفساد، بما في ذلك الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة والاثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي… ما الرابط بين التقاعس عن تطبيق هذا القرار، أي عدم تجاوب العميل مع الحثّ وبين هذَيْن البندين؟ فإذا كان العميل قد حوّل أموالاً إلى الخارج ناجمة عن فساد أو تهرّب ضريبي فثمّة آليات واضحة للملاحقة بحسب القانون 44،ويمكن أن تحصل على كامل الأموال وليس نسبة منها فقط. أمّا أن يلاحق العميل الذي لم يمتثل للحثّ على قاعدة أيّ منهما، ففي ذلك تخطٍّ للأحكام القانونية النافذة حيث لا عقوبة جزائيّة من دون نصّ تشريعي وعلى هذا الأساس يمكن الطعن بالقرار أمام مجلس شورى الدولة لمراجعة إبطال، ودائمًا حسب بارود.
يبقى أن نسأل: هل تعميم 154 انقاذي فعلاً؟ هل هو لتغطية من نهب أموال الدولة، وبذلك يوضع حدّ لهذا المطلب الجوهري للمنتفضين؟ هل هو لإعادة الاعتبار إلى المصارف اللبنانيّة؟ وأخيرًا وليس آخر: هل هو فعلاً يحفّز اقتصاد لبنان المتهالك؟
الأسئلة كثيرة والجواب رهن ما ستُقدم عليه الحكومة الجديدة وما تسعى إلى تنفيذه من وعود…