بقلم فضلو هدايا
لا أحد يعي تمامًا أين ذهبت المساعدات (العينيّة والمادية) منذ لحظة وصولها إلى المطار، إلى حين توزيعها (أو اختفائها)، باستثناء شحنتَيْ الشاي السيلاني الفاخر من سيريلنكا وشحنة الأسماك (12 طنًّا) من موريتانيا، إذ تسلّم الأولى رئيس الجمهوريّة وحوّلها إلى ضبّاط وعناصر الحرس الجمهوري، فيما تسلّمت الشحنة الثانية قيادة الجيش التي وزّعت الأسماك على الجمعيّات المحليّة المؤازرة والمُبلسمة جراح المنكوبين، كما على مطابخ ميدانيّة أُنشئت لتأمين المأكل والمشرب للمحتاجين وما أكثرهم! وما كان للبنانيّين أن يعرفوا أين ذهبت الشحنتان المذكورتان لو لم تُثَر حولهما ضجّة لم تهدأ بعد.
على أنّ هذه المساعدات العينيّة لم تقتصر على الشاي والأسماك فقط، بل هي تطاول أصنافًا أخرى عديدة. ومن يقرأ التحقيق المنشور على الصفحات 28، 29 و30 من هذا العدد، يكتشف حجم هذه المساعدات خصوصًا في المجال الصحّي، الاستشفائي والدوائي، ومع ذلك استمعنا، قبل أيّام، إلى تصريح لنقيب الأطباء في لبنان، د. شرف أبو شرف، يشكو فيه من عدم وصول أيّ مساعدة للجسم الطبّي، وهو ما أثار تساؤلات عدّة، حتّى أنّ البعض ذهب إلى حدّ القول: كنّا نتّهم أركان الدولة بسرقة المال والمساعدات، فإذا بالدول المانحة تقرّر تسليمها إلى جمعيات موثوق بها. ولكن أين هي هذه المساعدات؟ من تسلّمها؟ من أحصاها؟ ولماذا تجاوز الشفافية المطلوبة أكثر من أيّ بوم مضى؟
كذلك، يسأل كثيرون عن مصير الــ 300 مليون دولار التي تعهّدت بدفعها 15 دولة مشاركة في مؤتمر “دعم لبنان” الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي ماكرون. فأين هي؟ هل وصلت؟ هل تأجّل وصولها، مع أنّها مساعدات إغاثة فوريّة؟ هل تنتظر الدول الـ 15 نجاح المبادرة الفرنسية وتشكيل الحكومة للإفراج عن هذا المبلغ؟ وهنا أيضًا تغيب الشفافية، كي لا نقول يُغيّبها البعض. والله أعلم!
إنّ ما يعرفه سكّان المناطق المتضرّرة أنّ المولجين بإحصاء الأضرار كانوا يدخلون ويسجّلون، والبعض منهم كان يلتقط صُوَرًا تدعيمًا لتقريره. فماذا حلّ بهذه الاحصاءات؟ هل حُفِظت؟ هل أُتلِفت؟ هل هناك أمل بالحصول على المساعدات الماليّة؟
ولا جواب ولا من يجيب، بل تساؤلات وشكوك وصدْماْت متلاحقة وانعدام ثقة بكلّ شيء! حتى أنّ من كان يتريّث في الاقدام على إعادة ترميم ما تهدّم بانتظار بريق أمل ما، للدعم المالي، خاب ظنّه وأسرع في ترتيب أموره ولو من “حواضر” الامكانات، كما يُقال، قبل أن يداهمه مطر الشتاء!
لكن لا يجوز أن نتنكّر لجمعيات ساعدت. كانت تطرق الأبواب، تُحصي وتَعِد بالتنفيذ وتُنفّذ. في الطليعة “جمعية فرح العطاء” التي يتولّى إدارتها منذ إنشائها، نقيب المحامين الحالي ملحم خلف الذي كان دائمًا صادقًا في الكلمة التي يقول وفي الوعد الذي يُطلق. ولولا هذه الجمعية والقليل من أمثالها، لما استطاعت العائلات من العودة إلى المنازل، وبسرعة قياسيّة.
***
في مقاله الأسبوعي في الزميلة “النهار“، وتحت عنوان “حقائق مطمورة” (الجمعة 11 أيلول 2020)، أنهى الدكتور مروان اسكندر مقالته التي تناول فيها الموضوع المالي، بمقطعٍ يمكن أن يكون مقدّمة لإعادة تغذية صندوق المصرف المركزي بالعملات الصعبة. لقد ذكّر الكاتب الرئيس ميشال عون بمبلغ الـ 37 مليون دولار التي حوّلها إلى حسابه الخاص في فرنسا قائلاً، يومها، وفي ردٍّ على ما ورد في كتاب “ذكريات الرئيس الهراوي” الذي نُشرتْ فيه صورة الشيك بالمبلغ المحوّل، أنّ “هذه الأموال توافرت لي، آنذاك، من المتبرّعين الذين كانوا يساندون دعوتي للانتصار على السوريّين الموجودين في لبنان“. أمّا السؤال الذي طرحه الدكتور اسكندر فكان التالي: هل سيتبرّع الرئيس عون للمنكوبين من انفجار المرفأ بقسم ممّا توافر له من معونات، وخاصة أنّ الميزانية الفرنسية، وفق ما أعلن رئيس وزراء فرنسا، آنذاك، بعد عودة الجنرال من باريس، أن تكاليف الإقامة تحمّلتها الميزانية الفرنسية وبلغت 15 مليون يورو أي ما يساوي 18 مليون دولار اليوم؟
السؤال محقّ وجدير بالاهتمام، ولكنّه يحتاج إلى مقطعٍ إضافي لكي يستقيم الطلب ويصبح عامًا وليس خاصًا بشخص رئيس الجمهورية. وهذا المقطع يُفترض أن يكون موجّهًا إلى جميع السياسيّين في لبنان الذين استفادوا من خيرات لبنان على مدى سنوات طويلة، وعندما حلّت النكبة انتقلت أموالهم إلى الخارج. أفلا يجدر بهؤلاء أن يتبرّع كلّ منهم لصندوق مصرف لبنان بمبلغٍ مرموق يساوي عشرين بالمئة ممّا يملك، تشبّهًا بما اصاب ودائع اللبنانيّين عبر الـ Haircut المقنّع؟
إنّ هذه الخطوة المطلوبة، بداية، من رئيس الجمهورية، وفق ما ذكر الدكتور اسكندر، مطلوبة أيضًا من جميع السياسيّين والعديد من رجال الأعمال الذين لم يشتغلوا بالسياسة ولكنّهم استفادوا من هذا النظام الذي سمح لهم بأن يتحوّلوا أثرياء، وأحيانًا بين ليلة وضُحاها! فإذا بادر هؤلاء السياسيّون إلى هذه الخطوة، فإنّهم بذلك ينقذون لبنان ممّا هو واقعٌ فيه، ويعيدون إلى البنك المركزي أموالاً يحتاجها كي تعود عجلة الاقتصاد إلى الدوران، على غرار السابق. وبرأينا أنّ هذا الـ Haircut الذي سيرضى به سياسيّون بالاقتناع لا بالاكراه، سيجنّبهم، وبكلّ تأكيد، ما تسعى إليه فرنسا والاتحاد الأوروبي في حال فشلت المبادرة الفرنسية، وهو تجميد أموالهم في الخارج كعقوبات لما ارتكبوه عن طريق الفساد والسرقات والسمسرات.
بهذه الخطوة لا يعود لبنان بحاجة لا إلى أموال Cèdre ولا إلى مبالغ من صندوق النقد الدولي، بل سيسدّد ديونه ويعيد تحريك اقتصاد البلد من أموال أبنائه الأثرياء، ولن نصفهم بغير هذا النعت، وإلاّ كانت عقوبات تجميد ودائعهم. وعندها يتساوى المواطن العادي الذي يكتوي حاليًا بنار الـ Haircut المُقنّع، مع هؤلاء الاثرياء، أكانوا سياسيّين أو غير سياسيّين، عندما يتّفقون على طرح هذا التدبير بإرادتهم الشخصية وبنسبة لا تقلّ عن 20 بالمئة من أموالهم في الخارج، وبذلك يرفعون عن أعناقهم حبل المشنقة المرتقبة، وفي الوقت نفسه، تُرفع عن عنق لبنان حبل نهاية وجوده!