إلى قبرص دُرّ
بقلم فضلو هدايا
هجرة ثانية للمؤسّسات اللبنانيّة إلى قبرص، وربّما إلى أبعدٍ منها. لماذا؟ السؤال لا يحتاج إلى جواب، لأنّ الجواب معروف من الجميع: لبنان بات عصيًّا على الإصلاح والتطوّر والخروج من نَفَقِه المظلم، وقد لا تقوم له قائمة!
وهذا الجواب أردّده ملطّفًا، إذ أنّ هناك الكثير ممّا نخجل قوله، “كي لا نكون كمن يشرب من بئر ثمّ يرمي فيه حجرةً”، وفق المثل الشّائع. في النهاية، فلبنان هو البلد الذي وُلِدنا فيه وحَضَنَنَا وأمضينا عمرنا في ربوعه، ولو أنّ ثلاثة أرباع هذا العمر قضيناها مشرّدين بين منطقة شرقيّة ومنطقة غربيّة، بحسب “بورصة” حِمَم القذائف وراجمات الصّواريخ، ما عدا إقامتنا الطّويلة في الملاجئ ومرّاتٍ في الجبال، في السّيارات، هربًا من القصف ومن قنّاصة يتربّصون بنا ليردونا قتلى، أو تفاديًا لحاجزٍ طيّار يخطف على الهوية!
مع ذلك، ومع كلّ هذه المآسي التي يعرفها من عايش فترة حرب السنتَيْن وما بعدهما، أجدني اليوم أقول: ما أحلاها أيّامًا إذا ما قورِنت بواقعنا الحالي. لماذا؟ لسببٍ بسيط هو أنّنا في ذلك الزمان، كان ثمّة أمل، مخفيٌّ ربّما، ولكنّ اعتقادنا الرّاسخ أنّ فجره سَيَبْزُغ لا مُحال! أمّا الآن فلا أمل ولا كوّة في أفقنا المسدود، والجدار الذي يفصل بيننا وبين الخروج من العتمة إلى النّور، سميكٌ جدًّا جدًّا، ولا قدرة ذاتيّة على هدمه!
في هاتيك الأيّام، كان الميسورون، وجميعنا كان ميسورًا إلى حدٍّ بعيد، يتمتّعون بقدرة الانتقال من بيروت إلى دمشق أو من بيروت إلى ليماسول. كانت الليرة اللبنانيّة معزّزة مكرّمة تحترمها شعوب العالم قاطبةً ويسرّون بها متى شاهدوها. في هاتيك الأيّام، كان من لديه المال الفائض أن يُغادر إلى باريس أو لندن أو أثينا ويستمتع ببهجة الحياة. أمّا اليوم فأنت في سجن كبير وأنت خارج المنزل، وفي سجن صغير وأنت في داخله، ولا خيار آخر مُتاحٌ لك!
كلّ اللبنانيّين يترحّمون اليوم على الماضي على رغم مآسيه وقسوته وعذاباته. يترحّمون ليس لأنّه كان الجنّة التي يحلو لك البقاء فيها، ولكنّه كان، في أبسط الأحوال، أفضل من جهنّم الذي نحن فيه اليوم!
لقد أصبحنا، تشبيهًا، كإبنٍ يحاول إنقاذ والده وهو يحتضر في لحظة حَشْرَجة الموت. يستغيثك. ينظر إليك بعينَيْن زائغتَيْن تطلبان منك المساعدة، فيما أنت شاخص أمامه. عاجز حتّى عن الكلام، فكيف إنقاذه وقد رفع الأطبّاء أيديهم عنه وسلّموا قدره للمجهول؟
مسكينٌ لبنان الذي كنّا نقول عنه: “نيّال من له مرقد عنزة فيه”. فحتّى العنزة هربت والمرقد تفحّم والهواء صار مُشبعًا بنيترات الأمونيوم!
قبل أشهر، و في زاوية “رَصْد” التي كانت تحرّرها زميلتنا كريستين حداد التي “هَشَلَتْ” بدورها من لبنان واستقرّت في قطر، كَتَبَتْ مقالاً يحاكي الواقع المأزوم. يومها، سمحتُ لنفسي أن أضع له عنوانًا أثار استغراب ودهشة كلّ من قرأه بمن فيهم زميلتنا العزيزة. كتبتُ معنونًا: “لبنان يحتضر.. لكم من بعده طول البقاء!”
نحن اليوم، يا سادة، نحيي ذكرى موته السنويّة على رجاء القيامة. لكن أيُّ رجاء وأيُّ قيامة؟!
ما قلته في الأسطر السابقة لم يكن، في الحقيقة، ما أردت التعبير عنه. لكنّ إحساسي بالإحباط جعلني أسترسل و”أفَضْفِضْ” وأبكي على الأطلال، لعلّ راحةً نفسيّةً أشعر بها فتُقلِب الطاولة على الأحزان! ولكن حتّى هذه الرّاحة باتت دواءً فَقَدَ فعاليّته. فَقَدَ القدرة على الشفاء!
ما كنتُ أودّ الغوص فيه هو الهجرة الثانية للمؤسّسات اللبنانية. فبالأمس أبلغنا روجيه زكار، أحد أركان The Commercial، أن شركته وَضَعَت قدمًا لها في قبرص. وقبل أسابيع، أسرّ إلينا فادي الشرقاوي (Platinum) أنّ الدراسات في طور الاكتمال لنَقْلَة توسعيّة، إمّا إلى دبي أو الدوحة. وقبل أشهرٍ أعلمنا جورج بيطار أن شركة Premium France افتتحت فرعًا لها وشقيقة لـ Premium Broking House في قبرص.
ولكن لماذا هذه الهجرة الثانية التي، على ما يبدو، لم تتمّ فصولاً بعد؟ فلسببٍ بسيط جدًّا: انقطاع لبنان عن العالم وتحوّله دولة مارقة، بعدما كان صلة وصل بين الغرب والشرق، وها هي قبرص الآن تعود إلى لعب هذا الدور إلى جانب دبي والدوحة وحتّى أربيل في كردستان!
ألا يستحقّ الوضع الذي وصلنا إليه أن نقرأ الفاتحة على لبنان؟!