الفحص الدقيق والكاشف أمراض الجسم
إعداد باسكال الهبر بجاني
العين في نظر الشاعر نافذة تطل على الروح. أما في نظر الطبيب فهي نافذة تطلّ على خفايا الجسد أيضاً وتتحدّث بلسان فصيح عن أعراض الصحة والمرض في كثير من الأعضاء الحيوية بالجسم، وتبوح بأسرار بعض ما يصيب الإنسان من الآفات البدنية. فالطبيب عندما يكتشف ما في داخل الحدقة أثناء إجرائه كشفاً طبياً شاملاً، فإنه يستطيع رؤية الآثار التراكمية للمرض عند الإنسان.
إن الهدف الذي يرمي اليه الطبيب لا يقتصر فقط على معرفة درجة حدّة الرؤية أو قصورها، (وهذا هو الهدف الأول لإختصاصيي العيون) وإنما أن يكتشف أيضاً ما إذا كانت العينان تتمتّعان بالصحة التركيبية ومدى التأثيرات التي أحدثتها فيهما منظومات الجسم الأخرى. ففحص داخل العين يمكّن الطبيب، مثلاً، من الإطالة على صحة الكبد وكيفية اداء وظائفه وقدرة هذا العضو على استخلاص الفضلات من الدم. وبهذا الفحص يستطيع الطبيب أن يعرف أيضاً ما إذا (البنكرياس) يفرز كفاية الجسم من هورمون الأنسولين، أو ما إذا كانت الأوعية الدموية مصابة بالتضيّق بفعل صفيحات تصلّب الشرايين.
لهذا يبدأ الطبيب النطاسي (الذي بتنا نفتقد اليه هذه الأيام بسبب التكنولوجيا) هو الذي يبدأ بفحص عَيْن المريض ببصره لحظة دخوله غرفة الفحص حتى قبل أن يبدأ بالإستعانة بأدوائه. فهو منذ اللحظة الأولى يتأمل بياض العينَيْن، لرؤية ما إذا كان طاغياً فوق “القزحية” (Iris). فإذا كان كذلك فإنه قد يكون دلالة على بروز لمقلة العين وهو ما يُدعى “الجحوظ” Exophthalmos. ومع أن ذلك البروز قد لا يكون أكثر من حالة وراثية لا ضرر منها، الا على وجود مرض كامن وراءه. فإذا كان الجحوظ ظاهراً في العينَيْن كلتيْهما، فإن ذلك ربما كان ناتجاً عن شذوذ في الجمجمة. أما اذا كان الجحوظ في عين واحدة فقط، فإنه قد يكون راجعاً الى أسباب عدة: التهاب أو ورم في النسيج خلف العين، أو ورم دماغي أو نخاعي شوكي، أو شذوذ في تركيب الأوعية الدموية المؤدية الى العين.
بعذ ذلك قد ينظر الطبيب الى العينين عن جنب ليستقري مقدار نتوئهما عن محجريْهما. ربما كان نتوء العين مجرد خصلة وراثية لا دلالة له. ولكن إذا جاء النتوء بغتة بعد بلوغ مرحلة متأخرة من مراحل العمر، فإنه يكون عادة علاقة دالة على حدوث داء “غريفز” الذي هو عبارة عن اضطراب في أداء الغدة الدرقية.
وإذا كانت المقلتان كلتاهما غائرتَيْن، فقد يفسر ذلك وجود نقص في النسج خلف المحجرَيْن. ويكون ذلك لسببَيْن: إما نقص هائل في وزن الجسم (بسبب حمية مفرطة في الشدة مثلاً) أو بسبب التحفّف. وإذا كانت عين واحدة فقط هي الغائرة، فربما كان ذلك بسبب عدوى أو حادث. إن العينَيْن الغائرَتَيْن قد تكون أيضاً حالة وراثية تثير القلق.
بعدما يفرغ الطبيب من من هذه الملاحظة العابرة الخاطفة، أو “الفحص” البصري، يأخذ بأسباب الفحص الواقعي، اذ يرفع اصعبه أمام عين الشخص ويطلب منه أن يركّز بصره بإصبعه. ثم يأخذ الطبيب برفع اصبعه وخفضه، وهو في أثناء ذلك يرقّب كيفية ملاحقة العين له. فإذا أحدثت الملاحقة الى أسفل مع ثبات الجفنَيْن، صار بإمكان الطبيب أن يرى بياض العين بين الجفن الأعلى والقزحية (الدائرة الملوّنة المحيطة بالبؤبؤ). وهذه الحالة واسمها “تلكؤ الجفن”، (Lid Lag) تُشير أيضاً الى احتمال فرط نشاط الغدة الدرقية.
بعدها يُحرّك الطبيب اصبعه أمام العين يميناً ويساراً وبشكل قطري منحرف، لملاحظة ما اذا كانت العينان تلاحقانه معاً بصورة منسقة. ويقرب الطبيب بعد ذلك اصبعه من جسر الأنف لبتعرف الى كيفية تحرك العينين معاً وملاحظة ما اذا كان البؤبؤان يضيقان وهذا منعكس طبيعي.
ثم يمسك الطبيب مصباحاً كهربائياً بحجم القلم ويبقيه ثابتاً أمام عين الشخص ويطلب منه النظر اليه لبضع ثوان. ويراقب الطبيب كيفية تحديق الشخص لرؤية ما اذا كانت عيناه تثبتان تحديقهما بضوء المصباح أم انها تختلجان اختلاجاً يسيراً من جانب الى آخر. فهذه الحركات الخاطفة المتشنجة تُسمى “رأرأة” (Nystagmus). وعن طريق ملاحظة الطبيب لسرعة هذه الحركات واتجاهها، يصبح بوسعه إحراز فكرة جيدة لمصدر المشكلة. فهذه الرأرأة يمكن ردّ أسبابها الى حالات عدة، بما في ذلك الإضطرابات في الأقنية النصف دائرية (أعضاء التوازن بالأذن)، وردود الفعل الدوائية، ومشاكل في الأعصاب البصرية بالدماغ.
وبعدئذ قد يطلب الطبيب من المريض النظر الى جرم في أقصى غرفة الفحص، بعدما أن يحجب عينيه مرة، ثم النظر الى الجرم بكلا العينين، ثم بالعين الأخرى. وفي أثناء هذا التنقل في الرؤى، يحاول الطبيب أن يرى ما اذا كانت العينان في سائر هذه الأحوال متّخدتَيْن الأوضاع المناسبة من بعضهما بعضاً لدى تثبيت البصر في الجرم المطلوب رؤيته في الغرفة. فالعينان تنحرفان عن وضعهما الطبيعي، وهي حالة تُسمّى “الحوّل” (Strabismus) عندما تُخفف عضلات العين في العمل معاً على الوجه الأكمل. والوجهة التي تنحرف اليها العين، عن الوضع الطبيعي، ومقدار هذا الإنحراف، يدلان على أي العضلات العينية هي المصابة بهذا الشذوذ. وفي الطفولة غالباً تكون هذه الحالة مرتبطة بكسل العين أو “الغمش” (Amblyopia)، وهي حالة تسهل معالجتها اذا كشفت في وقت مبكر، ولكنها قد تسبب عمى العين اذا تأخر العلاج.
أما عند الكبار، فإن حدوث هذا الغمش المستجد يمكن أن يكون نتيجة رضّ أو سكري أو ضربة دماغية صغرى بل وربما حدوث ورم دماغي.
وبعد ان يستكمل الطبيب كل هذه الفحوص أو الإجراءات فإنه يصبح مستعداً للقيام بفحص العينين من مدى قريب. فهو ينظر الى الجفنَيْن ليرى ما اذا كانا منتفختَيْن أو متقشريْن، مما قد يُشير الى إصابة بالتحسّس أو حدوث أخماج. ويضغط الطبيب برفق على قناتَيْ الدمع قرب الزاوية الداخلية (باتجاه الأنف) للعينَيْن لرؤية ما اذا كانت الدموع تنبثق عند ضغطها. فإذا لم ينبثق أي دمع، فقد يكون معنى ذلك أن كيس الدمع مسدود.
بعدئذ يجذب الطبيب الى أسفل جذباً رفيقاً، الجلد تحت العين لكي يكشف باطن الجفن السفلي فيمكنه ذلك من إلقاء نظرة أوضح على بياض العين أو الصُلبة. فإذا كانت الصلبتان صفراوين فإنه يقيس بنظره كيفية توزّع اللون الأصفر الموزّع توزّعاً متساوياً على امتداد مساحة الصُلبة، هو عادة يتخذّ اشارة الى إصابة الشخص باليرقان الذي كثيراً ما يكون مصاحباً لإلتهاب الكبد أو تشمّع الكبد أو الحصيات المرارية. وهذا اللون الأصفر سببه مادة “بليروبين” (Bilirubin)، وهي مادة تنتج عن التحول اليومي للخلايا الحمر القديمة، وهي عادة يمتصها الكبد. وعند حدوث مرض كبدي، يحدث تراكم لمادة البليروبين في الدم ويتم امتصاصها من قبل نسج الجسم، بما في ذلك نسيج صلبة العين. إن الأشخاص الذي يتناولون مقادير كبير من الخضر الصفراء قد يُصابون باصفرار جلدي، غير أن الإصفرار لا يصيب صلبة العين التي تبقى بيضاء اللون.
واحتقان العين واحمرارها يُنشآن عن حدوث توسّع في الأوعية الدموية الدقيقة بالملتحمة، وهي النسيج الشفاف الذي يكسو الجفنَيْن من الداخل ويُغطي سطح العين. بما يُشبه غطاء بلاستيكياً. وتلوّن الملتحمة باللون الأحمر أو الوردي يُمكن أن يكون علاقة دالة على تعب العين أو تعرضها لإصابة أو عدوى أو على حدوث ردود فعل تحسسية. واحمرار العين يُمكن أن ينتقل من المصاب الى السليم.
ثم يوجه الطبيب شعاع مصاحه القلمي بصورة منحرفة الى قرنية العين (النافذة الشفافة عند مقدم العين)، لإضاءة أي خدش أو ندبة يمكن أن تكون عليها. يبحث الطبيب عن أي قروح قرنية، ربما تكون ناشئة عن خمج سببه وضع عدسة لاصقة غير معقمة تعقيماً كافياً. والقرنية السليمة ينبغي أن تكون شفافيتها متساوية التوزّع. فإذا بدت باهتة أو متغيمة فقد يكون الشخص مصاباً بالتهاب القرنية (Keratitis) وسببه التهاب ناشئ عن خدوش مصابة بالخمج أو بسبب أمراض مثل الحلأ أو الزهري أو التلف العصبي.
بعدئذ يطلب الطبيب من مريضه النظر الى الجرم الموجود في الغرفة، ويقوم بتوجيه شعاع المصباح مباشرة على كل عين لملاحظة مقدار تضيّق البؤبؤ كرد فعل على سقوط النور عليه. وتضيّق البؤبؤ سببه تقلّص العضلات الدائرية في القزحية. ومقدار هذا التضيّق تنظّمه كمية الضوء المتسّرب الى داخل العين، ومدى صحة الأعصاب البصرية على امتداد مسالك الأبصار، وكذلك على صحة الدماغ. فإذا لم يتقلص البؤبؤ فإن عدم تقلصه قد يتخذ إشارة دالة على العضلات نفسها أو الأعصاب البصرية أو الدماغ ربما كانت مصابة بأذى بسبب ورم أو ضربة دماغية أو اضطراب آخر.
إن تركيز البصر بجرم بعيد يتيح للطبيب أن يتفحص أيضاً عدسة العين الواقعة تحت القرنية والقزحية داخل المقلة. فالعدسة، شأنها شأن القرنية، هي جسم شفاف في حالتها الطبيعية، ولكن عندما يهرم الإنسان، تأخذ عدسة عينه في التغيّم. وعندما يتفحص الطبيب عدسة العين ف‘نه إنما يفتّش عن أثر ينبئ بتشّكل مادة زرقاء على مناطق من العدسة الشفافة، الى درجة تجعل العدسة جسماً غائماً مانعاً للرؤية. كما أن الطبيب يصبح بإمكانه أن يرى ما إذا كانت العدسة موجودة في مكانها الصحيح وراء بؤبؤ العين. اذ أن من المحتمل أحياناً أن تنزاح عدسة العين من مكانها الطبيعي بنتيجة ضربة عنيفة تسبب تقطع الأربطة التي تثبّتها في مكانها، أو أن تحدث انزياحها عن مكانها بنتيجة مرض “مارفان”، وهو مرض وراثي يضعف نسيج ملحمة العين.
بعد كل هذا يصير الطبيب مستعداً للتوغل ببصره في داخل الحدقة. ومن أجل هذا التوغل يكون في حاجة الى استخدام “منظار العين” (opthalmoscope) وهو أداة يدوية شبيهة بالمهجر، تنير وتضخم التركيبات في داخل العين. وعندما يضيء الطبيب نور المنظار ويوجهه عبر بؤبؤ العين نحو الشبكية، فإنه يرى لونها البرتقالي الضارب الى الحمرة.
ثم يقوم الطبيب بتصحيح منظار العين للحصول على صورة أدق للشبكية. اذ أن للشبكية الطبيعية عدداً من الخصائص المتميّزة، احداها “القرص البصري” (optic Disk)، وهو جسم أبيض بيضاوي يُشكل . والجزء المرئي من العصب البصري يتلقى مقداراً غير كافٍ من الأكسجين، وقد يكون هذا النقص ناشئاً عن الضغاط العصب بفعل خراج دماغي أو بسبب إصابته بالتهاب في وقت أبكر.
وإذا بدا القرص البصري مرتفعاً قليلاً، فإن ذلك يعني أن الغمد الذي يُغلق القرص محتقن بالسوائل. ولهذا الإرتفاع أو الإنتفاخ أسباب مختلفة دالة على أمراض عدة. وقد ينشأ هذا الإنتفاخ أيضاً عن تراكم ضغط السائل النخاعي الشوكي بسبب خراج أو نزف في الدماغ.
كما ينظر الطبيب أثناء هذا الفحص بمنظار العين الى علامة شبكية أخرى وهي “البقعة الشبكية” (Macula)، والبقعة هي أشد مناطق الشبكية حاسية، وهي ذات أهمية بالغة بالنسبة للألوان المرئية ولحدة الأبصار المركزي. والمنطقة البقعية المغطاة بنقط حمراء صغيرة محددة وهي التي تمثّل النزف، كثيراً ما تكون إشارة دالة على الداء السكري. واذا ما تقدم هذا الداء، فإن البقعة الشبكية قد تكون أيضاً محاطة بدائرة مقطعة من نقط صفراء أو بيضاء شمعية القوام، ما يدل على وجود تسرب مجهري من الأوعية الدموية بالشبكية.
كذلك فإن ارتفاع ضغط الدم ينم عن نفسه في الشبكية اذ قد تبدو آثاره بحدوث نثار لنقط بيضاء زغبة الشكل في شبكية العين، ان هذه النقط المنتثرة هي في الحقيقة أليف عصبية منتفخة. ويمكن أيضاً أن يكون ارتفاع ضغط الدم سبباً بحدوث تمزقات صغيرة ترى إما بشكل بقع حمراء غائمة أو بصورة تخطط أحمر، تدعى نزفاً متشظيّاُ أو متوهجاً.
العينان لا تكذبان: ان العينين هما المكان الأوحد في الجسم الذي يستطيع الطبيب أن يحصل منه على منظر غير محجوب للشرايين والأوردة. فهو بوسعه أن يرى الشرايين والأوردة وهي تنبض لدى عبورها العصب البصري. وجدران الشرايين هي في الأحوال الطبيعية شفافة تماماً ولهذا فإنها لا ترى. غير أن جدار الشريان اذا تكاثف وغلظ بفعل صفيحات تصلب الشرايين، فإنه يظهر بصورة أنبوب أبيض اللون محتو على خيط أحمر دقيق.
وأخيراً يبحث الطبيب عن نتوءات صغيرة على الشبكية فإذا عثر على مثل هذه النتوءات الهضمية الشكل ذات الحوافي، فإنه يأخذ في تلمّس مناطق تكون الشبكية فيها قد انفصلت عن مؤخرة العين، وربما قد طويت تحتها أو تغضنت. إن إصابات تحدث للعين أو نزفاً أو أوراماً خلف الشبكية بمكن أن تسبب انفصالها عن مكانها. كذلك فإن انجراراً من المادة الهلامية أمام الشبكية قد يُسبب انفصالها بفعل الداء السكري، وهو من الأسباب الشائعة لضعف قوة الأبصار في هذا الداء.
ليست الفحوص الطبية الشاملة تتطلب جميعاً فحص عيني تام. ومن جهة أحرى فإن نظرة تفصيلية الى قسم معين من أقسام العين يُمكن أن تمد الطبيب الفاحص بفيض من المعلومات التي يرغب في الحصول عليها عن الحالة الصحية للمريض.