د.غالب خلايلي والسيدة عقيلته أمام تمثال الملكة فيكتوريا في هايد بارك
يتابع الأديب طبيب الأطفال د. غالب خلايلي الكتابة في أدب الرحلات بعد زيارة له الى المملكة المتحدة لحضور تخرج كريمته. فبعد مقالَتَيْن روى فيهما تفاصيل عن هذه الرحلة الشاقة ولكن الممتعة، يتناول في المقالة التالية معالم مدينة لندن التي كانت لا تغيب عنها الشمس في ما مضى، ولكنها اليوم باتت تغيب…
لم أكن أدرك بدقّةٍ ماهيّةَ بريطانيا، بلد الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس (لكثرة مستعمراتها في العالم)، على رغم قراءاتي عنها، سواء أفيما درسته في المناهج (بدءاً من تصريح بلفور)، أم اطلعت عليه في الكتب ووسائل الإعلام، وأوله ما انطبع في ذاكرة الطفولة الغضة من المذياع الكبير ذي العين التي تحمرّ عندما يسخن، ليسمع الناس أشهر عبارة تلي دقات “بغ بن” الشهيرة: هنا لندن، تأتي بعدها أخبار ساخنة من كل مكان.
أتذكر، مثلا، سايغون وبنوم بنه (حروب فيتنام وكمبوديا) مع كلّ دقة من دقات الساعة، وما تغيّر قرع الطبول حتى اليوم، مع الأسف، رغم مرور عقود ستة.
تفكيري الأول هو أن الشمس غابت عن جزيرة تبدو صغيرة على الخارطة، خاصة إذا ما قورنت بشموس أميركا وروسيا والصين، والدعاية القوية لأولاها على الخصوص. خريجوها، مثلا، يرى كلّ منهم نفسه بحجم تمثال الحرية، فيما يقف الباقون مندهشين لحظوة نالها غيرهم لمجرد دراستهم في غير بلد.
على أن زيارتي إلى بريطانيا جعلتني أتأكّد من أن الذي لا يعرفها لن يفقه تركيبة كثير من بلدان العالم، خاصة التي تشبهها بالشكل مثل أميركا وكندا وأستراليا وبعض مدن الخليج الكبيرة، فكم من تشابه، مثلاً، بين كندا وبريطانيا في تفاصيل الشوارع والأبنية والأسواق، ناهيك عن أسماء المناطق، التي جلبها الإنكليز معهم، وإن اختلفت تفاصيل حضارية كثيرة، هي لا شك، لصالح بريطانيا، ذات التاريخ العريق والتراكم المعرفي الكبير.
1-من مانشستر في الشمال إلى دورست. انطلق بنا قطار Cross Country من محطة البيكاديلي الضخمة في مانشستر، في رحلة دامت خمس ساعات، اخترق فيها بريطانيا من شمالها إلى جنوبها، مارّاً بمروج جميلة على مد البصر فيها الشجر والثمر والخيل والبقر والمدن الشهيرة (برمنغهام، أكسفورد…)، حيث يقف في كلّ منها وقوفاً لا يتجاوز الدقيقة من أجل إنزال ركاب والصعود بآخرين، بطريقة سلسة، معيداً التنويه بقطارات بريطانيا المنظّمة خير تنظيم، وإن تحدّث بعضهم عن تعثّر قادم نتيجة نضوب الأموال اللازمة للصيانة، وهذا يعني عددا أقلّ من التصليحات في السنوات الخمس المقبلة، وإزالة كميات أقل من الحطام والمخلفات.
ها قد وصلنا أخيرا إلى بورموث Bournemouth في مدينة دورست Dorset الجنوبية الغربية المميزة ببحرها (القنال الإنكليزي، الذي يسميه الفرنسيون بحر المانش، جزء المحيط الأطلسي الذي يفصل بريطانيا عن فرنسا) ومنطقة بول Poole الراقية ذات البحيرة الكبيرة، والطبيعة الساحرة والنوارس المحلقة، فلا عجب إذن أن تتميّز المنطقة بسكانها الأغنياء وسوّاحها المحبين للمناخ المعتدل والشواطئ الرملية والحياة الليلية الشهيرة، عدا الكنائس المبنية وفق النمط الفيكتوري، وقلعة كورف الشهيرة.
2-قلعة كورف Corfe التي هدمها والملكية كرومويل. هي قلعة من مئات القلاع ذات المعمار البارع التي تربّعت على عرش بريطانيا في ماضيها العاصف، عندما كانت للملكية اليد العليا، في عهد السيوف والرماح والنبال والتروس. وقد شهدت القلعة حصّتها من المعارك والألغاز والمؤامرات، وكانت خزينة، وحامية عسكرية، وإقامة ملكية، إذ بُنيت في أوائل القرن الثاني عشر للملك هنري الأول، نجل ويليام الفاتح، وما زالت آثارها موجودة على رغم تدمير جيش أوليفر كرومويل لها عام 1646 في الحرب الأهلية الإنكليزية التي هزم بها الملكيين، فأعلن إنكلترا جمهورية، وقاد الكومونويلث الإنكليزي حتى وفاته عام 1658 بالملاريا.
3-آخر المطاف عاصمة العجائب لندن. ها نحن أولئك أخيرا في لندن العجيبة العملاقة بعد مسيرة ساعتين في قطار South Western في آخر يوم من تموز (يوليو) 2023. كان يوماً بارداً ماطراً في صيف لندني عجيب، هو الخامس من نوعه في 150 عاما، لكنه اعتدل في المساء، فخرجنا من مقر إقامتنا في شارع كرومويل وسط حي لندن الغني الراقي (كنسنغتون Kensington)، فإذا نحن في حديقة غناء من حدائقها الضخمة بعد نحو ربع ساعة من المشي: كنسنغتون المتماهية مع الهايد بارك.
4-حديقة الهايد بارك الملكية الشهيرة. وكم كان لافتاً اتساعها وجمالها وكثرة السواح العرب فيها، لا سيما من الإمارات والسعودية والكويت وقطر (بمن فيهم، ويا للمصادفة الجميلة، بعض مرضاي في العين). وفي الحديقة عدد من التماثيل البديعة منها تمثال الملكة فكتوريا أمام قصر وندسور، وتمثال العالم إدوارد جنر، مكتشف لقاح جدري البقر، وكذا بُحيرة كبيرة ونوافير، منها نافورة ديانا التذكارية، ناهيك عن «ركن المتحدثين» الشهير Speakers Corner، في القسمِ الشّمالي الشّرقي من الحديقة، الذي يجتمعُ فيهِ المُتحدثون كل أحد للحديث بِكُلِّ حُريَّة!. وتمثل هايد بارك واحة ضخمة في قلب لندن، 350 فداناً، وبذا تعد من أكبر الحدائق في أوروبا.
5-ساعة بيغ بن Big Ben. وهي الساعة المشهورة بدقّاتها ودقّتها المتناهية، فصارت رمزاً للتوقيت العالمي. وأمام الساعة ميدان ترافالغار Trafalgar، أشهر ساحات لندن، بحديقتها الجميلة وتماثيل رؤساء وزرائها السابقين مثل ونستون تشرسل؛ ولويد جورج. أما بيغ بن فهو اسم جرس الساعة الضخم (12.5 طن) في الطرف الشمالي من قصر وستمنستر (مبنى البرلمان)، بدأ عملها يوم 3 حزيران (يونيو) 1859 م، وغير اسم برج ساعتها عام 2012 إلى برج إليزابيث أثناء الاحتفال باليوبيل الماسي لإليزابيث الثانية. يرجع اسم الساعة إلى بنيامين هول وزير الأشغال البريطاني المشرف على تنفيذها يومذاك، ولما كان ضخم الجسم، لُقّب بيج بن.
6-قصر باكنغهام Buckingham Palace.هو المقر الرسمي لملوك بريطانيا؛ ابتدأ
عام 1703 عندما قرر دوق باكنغهام إنشاء منزل كبير، اشتراه منه الملك جورج الثالث لزوجته عام 1761 ب 21,000 جنيه إسترليني، فعُرف بـ «بيت الملكة»، وولد فيه أربعة عشر من أبناء جورج الثالث الخمسة عشر. وفي عام 1837 اعتلت فيكتوريا العرش، وتزوجت الأمير ألبرت عام 1840 فنظم القصر كما نعرفه اليوم، 775 غرفة، تزينها التحف الفنية التي لا تقدر بثمن.
7-كنيسة القديس بطرس في وستمنستر . في بريطانيا نحو أربعين ألف كنيسة، أغلقت عشرة آلاف منها أبوابها منذ العام 1960. وتعد كنيسة القديس بطرس من أشهرها، وهي معروفة شعبيًا باسم دير وستمنستر Westminster Abbey وتقع غرب قصر وستمنستر، وكانت مقر تتويج 40 ملكًا إنكليزيًا وبريطانيًا، ودفن 18 ملكًا، ومكان 16 حفل زفاف ملكي. بنيت بين 960 و 970 وكرست باسم القديس بطرس في أواخر 1065، وهي من طراز العمارة القوطية Gothic (التي يقال إنها وكثير من الكنائس الأوربية لاسيما نوتردام) مستوحاة من كنيسة قلب اللوزة السورية المبنية في القرن الخامس الميلادي.
8-متاحف لندن ثروة فنية معرفية معظمها مجاني. يحتاج موضوع المتاحف في بريطانيا إلى بحث خاص، لكثرتها (2500، منها 192 في لندن) وغناها بالمحتويات المجلوبة من أنحاء العالم، لا سيما المستعمرات، ومجانية الدخول إلى معظمها؛ فكان لا بد أن تعود ذاكرتي إلى متاحف بلادنا التي نُهب كثير منها وهُرّب، أو دُمّر بأيد إرهابية عابثة، لا تريد لنا حتى الاستئناس بتاريخنا.
ونذكر من متاحف لندن: متحف فكتوريا وألبرت: أسس عام 1852، وفيه أربعة ملايين من المقتنيات النادرة. متحف التاريخ الطبيعي: وفيه 80 مليون قطعة تستعرض جوانب مختلفة من حياة المخلوقات على وجه الأرض، ومن أشهرها الهيكل العظمي لديناصور الديبلودوكس الأكبر الذي اكتشف عام 1899. متحف تيت بريطانيا لندن: مصدر ثقافي لا غنى عنه، يجمع الأعمال والمقتنيات الفنية القيّمة، ويعمل على تثقيف الجمهور بالأعمال الفنية. متحف الشمع (مدام توسو Madame Tussauds): ويضم الكثير من التماثيل والمجسمات التي تعود لشخصيات معروفة على مستوى العالم. المتحف البريطاني المهتم بالتاريخ البريطاني من إنسان ما قبل التاريخ حتى اليوم، إضافة إلى مصر القديمة واليونان وروما. ومتحف العلوم.
9-متجر هارودز الشهير. بريطانيا هي خامس أقوى اقتصاد في العالم، وفيها أكبر المتاجر، لاسيما هارودز، المتجر الضخم جدا المثير للعجب، لما فيه من محتويات فخمة لها زبائنها المنعمون الذين لا يمكنك أن تتوقع أشكالهم أو تحصي أنواعهم. أسسه تشارلز هنري هارود 1849م، ليكون متجر أغذية في البدء. انتقلت ملكيته للمصري محمد الفايد ثم لجهاز قطر للاستثمار، وهو اليوم من أكبر المراكز التجارية العالمية، في سبعة طوابق، و 300 قسم، و 30 مطعم بخلاف المقاهي، ويعمل به نحو 5 آلاف عامل.
10-المكتبات والجامعات والصحة والأمن الاجتماعي. أشرنا في مقالنا السابق إلى روعة المكتبات في بريطانيا؛ ونشير اليوم إلى أهم جامعاتها؛ حيث حلّت جامعة كامبريدج في المرتبة الرابعة عالميا، وأكسفورد في المرتبة الخامسة، فيما كانت 93 جامعة بريطانية في المراتب الـ 2000 الأولى، هذا مع العلم أن الدراسة الجامعية في بريطانيا غير مجانية خلافا للدراسة دونها.
11-من الناحية الصحية، تحظى الفئات الأغنى بالخدمات الخاصة الممتازة (مثل أكثر البلدان)، فيما تعاني بريطانيا من تصاعد حاد لأزمة قطاع الصحة العام، الذي يئن تحت ضغط الإضرابات، وعجز المستشفيات عن استيعاب الحالات المرضية. اضطر مثلا عشرات آلاف المرضى للانتظار أكثر من 12 ساعة قبل أن يتلقوا الرعاية في أقسام الطوارئ. ومن عوامل الأزمة زيادة الطلب على الرعاية بعد تخفيف قيود كورونا، وطفرة الإنفلونزا والفيروسات الشتوية بعد عامي الإغلاق، ونقص العاملين، وشح العمالة الأوروبية عقب البريكست، وتداعيات الحرب الأوكرانية، وظاهرة شيخوخة المجتمع التي تستنزف قطاع الرعاية الصحية.
12-من ناحية الضمان الاجتماعي: أنشئ أول برنامج للضمان في أوائل القرن العشرين، في زمن كان فيه أغلبية البريطانيين يتوفون في أواخر أربعينات أعمارهم. وسع البرنامج بعد الحرب العالمية الثانية عام 1948، عندما بدأت بريطانيا بالنهوض. ومن ميزاته الرعاية الصحية الوطنية NHS المجانية للجميع، ونظام التأمين الوطني NIS، برنامج المعاشات التقاعدية الحكومية الذي يقدم مساعدات للفقراء والمرضى. ومع ذلك يبلغ معدل البطالة 3,6% ويعيش نحو 15 مليون بريطاني في فقر مدقع، بسبب التضخم وتكاليف الطاقة (ما يفسر كثرة الإضرابات).
13-من ناحية الأمن بأنواعه: يجد الزائر للندن أطيافا من البشر والجنسيات، من قمة النعيم الذي تخدشه النسمات إلى جحيم التشرد الذي لا طعام له ولا مأوى، ومثل أي بلد لا يخلو من العنف والسرقة والجرائم، لكن يكفي – حسب مؤشر المدن الآمنة لعام 2021 الصادر عن The Economist – احتلال لندن مرتبة “عالية جدًا” بين دول العالم في فئات الأمن الخمس (الأمن الرقمي، والصحي، والبنية التحتية، والأمن الشخصي، والأمن البيئي).
14-تنوع النط المعماري اللندني وفخامته. في لندن أروع أنماط الهندسة المعمارية القديمة والحديثة، وقد هيمنت ثلاثة أنماط: الجورجية والفيكتورية والإدواردية (تبعا لعهود ملوكها).
العمارة الجورجية: في عهود جورج الأول حتى الرابع بين 1714 و 1830 في معظم البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية. وهو نمط متغير جدا لكنه يتميز بالتناظر والتناسب على أساس العمارة الكلاسيكية اليونانية والرومانية.
العمارة الفيكتورية: في عهد فيكتوريا (1837–1901)، وهي طراز معقد ومزدحم بالزخارف، وأسلوب عمارته تشبه الكنائس وساعة بل بن.
1بعد الحرب العالمية الثانية سادت أنماط تجاوزت التقليدية إلى مواد أخف توفر المساحات (العمارات الطابقية) من أجل استيعاب عدد أكبر من السكان.
يبلغ متوسط سعر منزل في لندن 700 ألف جنيه، لكن نوع العقار وحجمه يختلفان بشكل كبير تبعا لمكانه في العاصمة. اما الإيجارات فأغلاها في العاصمة، ومتوسط إيجار عقار بغرفة واحدة نحو 750 جنيه.
ورغم مصاعب العيش، وجحيم اللجوء، تجد جيشاً من تاركي بلدانهم هناك، وكثير منهم ذوو كفاءات لم تجد موطئ قدم أو احترام أو أمن في مواطنها، فراحت تجرب حظها لعل النجاح يحالفها، ويا لحظ بلدان تقطف عنبنا الغالي.
15-في الختام مطار هيثرو.. والعم غوغل. توجهنا ظهر الجمعة الرابع من آب (اغسطس) 2023 إلى هيثرو عبر مترو لندن، القابع عميقا تحت الأرض، وذي الأجر المعقول، والحركة النشطة. مطار هيثرو عملاق كبير متقدم، وفيه نقاط تقاطع كثيرة ومطارات الإمارات المتقدمة، مع ترجيحي الأخيرة. التفتيش دقيق متقدم، لا تخلع فيه الأحذية، لكنه يكشف كل ما معك بدقة. أضعت مع الأسف مقصّ الحلاقة لأن طوله فوق ستة سنتمترات، لكني كسبتُ دماثة العاملات في المطار (ومنهن عربيات). ممرات طويلة جدا، ودرج متحرك يهبط ستة طوابق يكاد ينقلب معها الدماغ، لتعاود المشي ثم المشي وصولا بعد ٤٥ دقيقة إلى البوابة المطلوبة، قبل أن تنتبه إلى وجود مصاعد تخفف بعض العبء.
وبعد..
فهذه هي جولتي السياحية الاستقصائية لبلد كبير عريق، حاولت فيها قدر استطاعتي تقديم ما يفيد. لكن، كم فوجئت في الختام بالعم غوغل يرسل لي رسالة تصف أدق تفاصيل رحلتي، شكر الله سعيه ودقته. دمتم بخير.
د. غالب خلايلي
تورونتو، كندا
11 آب 2023