أركان البريكس الخمسة
بعد الحرب العالمية الثانية، وبفعل اتفاقية «بريتون وودز» التي حوّلته إلى عملة احتياطات دولية بديلاً من الجنيه الإسترليني (البريطاني)، بدأت قوىً جيوسياسية عديدة تعمل منذ فترة، على إضعاف المركز الأول للدولار في التسلسل الهرمي للعملات، وتقود حملة لـ “إلغاء الدولرة من أجل الحد من هيمنة هذه العملة”، بعد عقود طويلة، كان خلالها ولا يزال يتربع على عرش العملات العالمية حتى بات الاقتصاديون يطلقون عليه لقب “عملة الاحتياطي العالمي”، كونه أهم وسيلة للتبادل التجاري العالمي والملاذ الآمن للاحتياطات الأجنبية للمؤسسات المالية والشركات في جميع أنحاء العالم، اذ في العام 2000، تمكّن الدولار من أن يمثّل حوالي 73 في المائة من إجمالي احتياطات النقد الأجنبي العالمي، لكن هذه النسبة بدأت تتقلّص الى أن وصلت، هذه الأيام، الى حوالي 59 في المائة. وعلى رغم من أن الكثير من التجارة الدولية والعديد من المعاملات السلعية لا تزال تُدفع بالدولار، الا أن دولاً كبيرة، بما فيها البرازيل والأرجنتين، أبرمت اتفاقيات ثنائية مع الصين لاستخدام عملة “اليوان” وعملاتها المحلية للتسوية التجارية. وما يُعزّز الحملة ضد العملة الخضراء، هو العقوبات الأميركية التي تمّ فرضها على روسيا، رداً على حربها على أوكرانيا، وكذلك التصعيد المستمر بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما دفع دولاً عدة إلى اتخاذ تدابير وخطوات تستهدف تقليل اعتمادها على الدولار. في وقت انتقدت بكين صراحة هيمنة الدولار ووصفته بأنه «المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار وعدم اليقين في الاقتصاد العالمي»، ملقيةً باللوم مباشرة على رفع سعر الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي، ما تسبّب في اضطرابات في السوق المالية الدولية وانخفاض كبير في قيمة العملات الأخرى.
ومن المتوقع على نطاق واسع أن تُبحث في قمة مجموعة «بريكس» التي تنطلق غداً في الرابع والعشرين من الشهر الحالي في جوهانسبورغ بجنوب أفريقيا، بحضور 67 زعيماً من افريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي، تعميق استخدام العملات المحلية في التجارة بين الدول الأعضاء في التكتل الذي يضمّ كلاً من: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وذلك في محاولة للحد من هيمنة الدولار. وقد أبلغ كبير دبلوماسيي جنوب أفريقيا والمسؤول عن العلاقات مع «بريكس»، أنيل سوكلال، لـ «بلومبرغ» قبل أيام، أن قمة «بريكس» ستناقش تعميق استخدام العملات المحلية في التجارة بين الدول الأعضاء، مضيفاً أن مسألة التداول بالعملات المحلية موضوعة على جدول الأعمال للمناقشة، وأن “بريكس” لا تدعو إلى إلغاء الدولرة. سيظلّ الدولار عملة عالمية رئيسة – وهذه حقيقة واقعة. تابع: “إن المحادثات ستركّز على قضايا، من بينها إنشاء نظام مدفوعات مشترك، كما من المرجح تشكيل لجنة فنية لبدء النظر في عملة مشتركة محتملة”.
أهمية قمة “بريكس” تكمن في تعاملاتها التجارية العالمية، من منطلق أن أعضاءه يمثلون أكثر من 42 في المئة من سكان العالم و23 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و18 في المئة من التجارة. وهذا يعني أن إنشاء أي عملة مشتركة قد يساهم بشكل كبير في تقويض سيطرة العملة الخضراء على الاقتصاد العالمي.
ولكن هل يُمكن “إلغاء الدولار”؟ سؤال أساسي، يطرحه اليوم الخبراء لا في الولايات المتحدة فقط، وانما في العالم أجمع. والجواب عنه هو أن الخبراء ينقسمون حول آفاق حملة «إلغاء الدولار» ومستقبل عملة «بريكس». فبينما يعتقد كثيرون أن الدولار سيظلّ مهيمناً لعدم وجود بديل، يرى آخرون أن العملة التي تبحث فيها «بريكس» قد تُنهي هيمنة العملة الخضراء، ذلك إن السياسة الأميركية لم تعزّز الثقة العالمية بالدولار سيما بعد تجميد الأصول على حيازات الدولار في المصرف المركزي الروسي الذي فرض بعد غزو روسيا لأوكرانيا، ما صدم المستثمرين ومحافظي المصارف المركزية الذين أدركوا أن الدولار قد لا يكون المخزن الآمن للقيمة التي كان عليها من قبل.
يُذكر أنه من حيث الترتيب، فإن اليورو هو ثاني أكبر عملة احتياطية في العالم، لكنه يمثل 21 في المائة من الاحتياطات الأجنبية مقابل ما يقرب من 60 في المائة للدولار. ووفقاً للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، فإن العوامل الرئيسة التي تحول دون استخدام اليورو على نطاق أوسع هي عدم كفاية الإمدادات من الأصول عالية الجودة المقوّمة باليورو، التي يمكن للمستثمرين الدوليين والمصارف المركزية استخدامها كمخزن للقيمة، بالإضافة إلى أنه لا توجد أصول «آمنة» مدعومة من الحكومة على مستوى منطقة اليورو. وفي ما خصّ الرنمينبي وهو الإسم الرسمي للعملة الصينية، فإنه يمثل جزءاً صغيراً جداً من احتياطات النقد الأجنبي، كما أن سيطرة صانعي السياسة الصينيين على سعر الصرف تجعل من غير المرجح أن تكتسب قوة دفع سريعة.
يبقى الذهب، الذي يُعتبر غير مثالي كوسيلة للتبادل، من هنا يقول الخبراء أن عملة “البريكس” لا تزال افتراضية وقد تجد دول هذا المحور صعوبة في التنسيق عبر المصارف المركزية بعدما تُثبت في النهاية أنها غير مستعدة لتبادل اعتمادها على الدولار الأميركي بعملة متقلبة محتملة قد تكافح من أجل تحقيق تبنٍ أوسع. وبالنظر إلى هذه الظروف، سيكون من الصعب الابتعاد عن النظام المتمّحور حول الدولار. من الممكن تماماً أن تظهر عملات احتياطية رئيسية متعددة، استناداً إلى علاقات تجارية – على سبيل المثال، اليورو في أوروبا، والرنمينبي في آسيا والدولار الأميركي في الأميركتين – ولكن من المحتمل أن يستغرق الأمر عقوداً لتحل محل الأسبقية العالمية للدولار…
يبقى السؤال المهم ماذا عن مجموعة “البريكس”، وما هو موقعها في الإقتصاد العالمي؟
وفقاً لمراكز أبحاث عدة، فإن دول «بريكس» تُعدّ أهم خمسة اقتصادات ناشئة في العالم. وقد صيغ مصطلح Bric في العام 2001 من قبل الاقتصادي في مصرف «غولدمان ساكس» جيم أونيل. وفي عام 2010، تم توسيعه بطلب من الصين، ليشمل جنوب أفريقيا (على رغم أن أونيل لا يوافق على إضافته) ليصبح «بريكس». وبينما تمّ إنشاء الاختصار كمصطلح غير رسمي لهذه الاقتصادات الناشئة، بدأت دول «بريكس» تعقد مؤتمرات قمة سنوية منذ العام 2009، مع مجالات اهتمام مماثلة لمجموعة دول السبع (التي كانت روسيا أيضاً عضواً فيها من 1997 إلى 2014، إلى أن تمّ طردها بعد ضمها شبه جزيرة القرم). وتمثل مجموعة «بريكس» 42 في المئة من سكان العالم، وأكثر من 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و16 في المائة من التجارة العالمية، وفق أرقام مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (Unctad).
يُشار الى أن الاستثمار الأجنبي لعب دوراً مهماً في نمو اقتصادات دول بريكس منذ العام 2001، اذ تضاعفت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر السنوية إلى الكتلة بأكثر من أربعة أضعاف من 2001 إلى عام 2021 (من 84 مليار دولار إلى 355 ملياراً) وساهمت بشكل كبير في تكوين رأس المال الثابت الإجمالي وفق تقرير Unctad عن «الاستثمار في بريكس. كما تشكل «بريكس» مع مجموعة السبع (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) 11 من أكبر 12 اقتصاداً في العالم (مع كوريا الجنوبية).
وفي الآتي بعض الأرقام حول المجموعة وفق بيانات موقع Statica للإحصاءات:
– العدد الإجمالي لسكان دول «بريكس»: أشارت التقديرات إلى أن عدد سكان دول «بريكس» في عام 2021 بلغ 3.24 مليار نسمة، وهو ما يزيد عن 40 في المائة من سكان العالم. تعيش غالبية هؤلاء إما في الصين أو الهند، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 1.4 مليار نسمة لكل منهما، بينما يبلغ عدد سكان البلدان الثلاثة الأخرى أقل بقليل من 420 مليون نسمة.
– الناتج المحلي الإجمالي لدول «بريكس»: تمتلك الصين أكبر ناتج محلي إجمالي بين دول «بريكس»، اذ بلغ 16.86 تريليون دولار في عام 2021، بينما تقل قيمته في الدول المتبقية عن ثلاثة تريليونات. مجتمعة، بلغ إجمالي الناتج المحلي لمجموعة «بريكس» أكثر من 26.03 تريليون دولار في عام 2022، وهو أكثر بقليل من الولايات المتحدة.
– معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في دول «بريكس»: خلال معظم العقدَيْن الماضيَيْن، حقّقت الصين أعلى نمو للناتج المحلي الإجمالي في أي من دول «بريكس»، على رغم تجاوزها من قبل الهند في منتصف عام 2010 التي حققت أعلى نمو في عام 2020. وقد شهدت جميع الدول الخمس انخفاض نمو ناتجها المحلي الإجمالي خلال الأزمة المالية العالمية في العام 2008، ومرة أخرى خلال جائحة «كورونا» في العام 2020. وكانت الصين الاقتصاد الوحيد الذي استمر في النمو خلال كلتا الأزمتين، على رغم نمو اقتصاد الهند أيضاً خلال فترة الركود. وفي العام 2014، شهدت البرازيل ركوداً خاصاً بها بسبب مزيج من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، بينما دخلت روسيا أيضاً في حالة ركود بسبب انخفاض أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية المفروضة بعد ضمّ شبه جزيرة القرم.
يُذكر انه منذ استخدام مصطلح Bric للمرة الأولى قبل 20 عاماً، عزّزت الصين مكانتها كأقوى اقتصادات «بريكس»، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة (من حيث الناتج المحلي الإجمالي). وقد بدأ الازدهار الاقتصادي للصين في أواخر 1970، عندما تخلّت عن العديد من السياسات الانعزالية، وانفتحت على التجارة الدولية وأدخلت إصلاحات السوق الحرة. وشهد التصنيع والتحضّر السريع لأكبر قوة عاملة في العالم أن الصين أصبحت تعرف باسم «مصنع العالم». وشهد تدفق الثروة والاستثمار الأجنب،ي تحسناً كبيراً في مستويات المعيشة وفتح أسواق محلية جديدة.
بالنسبة للبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، كانت التنمية الاقتصادية عملية أبطأ وأحدث، وقد اتبعت بشكل عام التطوّر الديموغرافي. في عام 2010، تفوّقت الهند على الصين باعتبارها الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم، وتشير بعض التقديرات إلى أنها ستتفوق أيضاً على الولايات المتحدة بحلول منتصف القرن. وإلى جانب الصين، تعد الهند أكبر سوق محلية في العالم، ومن المتوقع أن يعكس تطورها الاقتصادي الواسع الصين من نواحٍ كثيرة، على الرغم من أن الدور الذي تلعبه دولياً سيختلف.
وشهدت البرازيل أيضاً نمواً كبيراً في أوائل عام 2010 قبل أن تؤدي الأزمات الاقتصادية والسياسية إلى ركود. لكن بالنسبة لروسيا، فقد اختلفت تنميتها الاقتصادية اختلافاً كبيراً عن دول «بريكس» الأربع الأخرى. وخلال أواخر القرن 20، كان سلف روسيا، الاتحاد السوفياتي، ثاني أكبر اقتصاد في العالم. ومع ذلك، أدى الانحلال السوفياتي إلى تراجع اقتصادي في جميع أنحاء 1990، حتى الانتعاش في 2000 عندما كان يعدُّ آنذاك اقتصاداً نامياً.
وماذا بين “بريكس” و”مجموعة السبع”؟
باتت دول «بريكس» في العقد الماضي منافساً اقتصادياً لمجموعة السبع. وتشمل العديد من مبادراتها إنشاء مصرف عالمي بديل، مع الحوار الجاري لنظام الدفع والعملة الاحتياطية الجديدة.
في ما يلي نظرة على مساهمة كلتا المجموعتين في الاقتصاد العالمي من حيث معدل تعادل القوة الشرائية (وفقاً لأرقام تم تجميعها من صندوق النقد الدولي):
حصة الناتج المحلي الإجمالي العالمي:
-1992 بلغ الناتج المحلي الإجمالي لـ«بريكس» 16،45مقابل 45.80% لمجموعة السبع.
-في العام 2002 وصل الناتج الى 19،34% مقابل 42.34 % لمجموعة السبع.
-عام 2012 ارتفع الناتج المحلي الى 28،28% لـ«بريكس» مقابل 32.82 % لمجموعة السبع.
-وفي العام 2022 وصل الناتج الى 30،67% مقابل 30.31 لمجموعة السبع.
وبحلول عام 2028 يتوقع صندوق النقد الدولي أن تشكّل دول «بريكس» ثلث الاقتصاد العالمي.