غالب خلايلي مع زوجته أمام قصر باكنغهام
الطبيب الأديب غالب خلايلي يتابع الكتابة عن رحلته الى بريطانيا وكندا ومن ثم الى دولة الإمارات حيث يقيم في مدينة العين. وكما في الحلقات الأربع السابقة، ها هو في الحلقة الخامسة يزيدنا متعة باسلوبه الرشيق والمميّز، بانتظار حلقة سادسة فسابعة فثامنة بعدما أبلغنا من دون أن يقول، أن الخامسة قد تكون الأخيرة…
لم أكن أنوي الكتابة عن لندن مرة أخرى، فربما يمتعضُ بعضٌ يعاني ما يعانيه من ابتلاء الزمان، فيرى الكتابة كلَّها رفاهاً ثقيلاً في غير وقته! لكن ماذا يفعل مثلي الذي يتنفّس أوكسجين الكتابة (المجدي روحياً لا مادياً، والمدهش أنه خانق للكثيرين!) علماً أنني مثل كثيرين غير خليّ من الهموم؟
ولولا أنني رأيت ما يستحق الكتابة في عودتنا المؤقتة إلى لندن، حيث هاجت وشرطتها وماجت يومين كاملين، في كرنفالها ذي الجذور العميقة، وتعطلت حركة الطيران بشكل مريب، لما رأيتم الجزء الخامس من هذا النتاج الأدبي.
1-من تورونتو إلى هيثرو.. عاصفةٌ معيقةٌ وثلجٌ تواصلي. وصلنا مطار هيثرو قبل ظهر الجمعة 25 آب 2023 منهكين متأخّرين؛ ذلك أن “الايرباص الكندية” أقلعت في الحادية عشرة ليلاً متأخرة ساعةً وربع الساعة، بسبب عاصفة مطرية غسلت الطائرة من أدران السفر، فراح القبطان، على ما يبدو، “ينتظر أن تجفّ!”
المضيفات مجلّلات بثلج الصمت، ولا صوت لِسوى أطفال صغارٍ من الهنود والأوربيين. وحيث تمّ تدبير مقعد لي في الصف الخامس والأربعين، بعد رجائي الحار للمضيف الأرضي، وشكواي أنني وزوجتي بلا مقاعد حتى اللحظة (مع أن عمر الحجز أكثر من ثلاثة أشهر)، و(استغلال) قصة أنني كنت طبيب الكندية في الرحلة السابقة، فكّرت كيف أقرّب زوجتي وهي في المقعد الثاني والعشرين، إذ حوصرتُ بين سيدة نرويجية شقراء مع زوجها في اليمين ورجل (بريطاني؟) في اليسار، بدا في مثل عمري، صامتاً قانتاً مهيضَ الجناح، لا أدري لأيّ من صروف الدهر، فاستأذنته أن يقبل المبادلة، وما أسرع ما قبِل، فأوصلته بنفسي معاكساً وإياه حركة الركاب باللّطف الممكن.
الوقت طويل وثقيل حيث يجب أن ننام في هذا الوقت، وكان أن استبدّ بنا العطش (الذي أحتمله عادة)، فقمتُ أطلب الماء لزوجتي، فإذا بالمضيفة الآسيوية السمراء الضخمة، إلى حد ما، ترجعني بحدة، مع أنني صرت قربها، والماء مبذول عندها وفي المطار، والعذر “أننا الآن قيد الإقلاع”.
حديث طويل فتحتْه زوجتي مع جارتها النرويجية التي تعمل في عقارات أوسلو الغالية، إذ أن لنا ذكرياتٍ كثيرةً مع بلدها اللطيف (وأشك في أن ضغط المهاجرين غيّر لطفه) في رحلتين قبل عقود، ومع أقارب يعيشون هناك، وذكرت أشياء عن الغلاء وهبوط قيمة الكرون نحو 40% (أهي معضلة أوكرانيا؟)، وغير ذلك من هموم مشتركة بين الشعوب، معاذ الله هنا أن نضع أنفسنا بينها، لأن هموم شعوبنا يكاد لا يدركها ميزان ولا قبّان.
الطعام في الطائرة مقبول، عشاء (إما دجاج مع قطع البطاطا، وإما الباستا)، وقطعة جبن، وقطعتا خبز وغاتو، فيما وجبة الإفطار زهيدة تماما: قطعة كرواسان صغيرة أقربُ إلى الجافة، وعلبة لبن صغيرة محلاة بنكهة الفريز، ربما كيلا يضيع علينا الفطور الإنكليزي الغني خارج المطار!.
بعد نحو سبع ساعات (الحادية عشرة قبيل الظهر، بسبب فارق التوقيت) كانت الطائرة (التي يبدو أنها أسرعت قليلا في الجو) رابضةً على أرض مطار هيثرو تنتظر بوابةً للدخول، وبعد التدقيق (ربما العاشر) بالفيزا و(الجواز) العجيب، وجلب الحقائب، رحنا نبحث عن الميترو Underground الذي سيوصلنا إلى لندن، بعدما صرنا أكثر خبرة بهذا المنجز الجميل الهائل الذي تستطيع فيه قراءة الشعب البريطاني وضيوفه على حقيقتهم.
2-اضطراب النوم وفنادق لندنية مثل علب الكبريت. كنا قرٌرنا سلفاً، ولسابق خبرة، أن نجلس أياماً ثلاثة في لندن نُصلح فيها نومنا المضطرب Jet lag، وسببه الرئيس اختلاف التوقيت بين القارات، حيث ينقلب الليل نهاراً، والنهار ليلاً، مسبّباً مصاعبَ في النوم، يتغلّب بعضهم عليها بهرمون الغدة الصنوبرية الميلاتونين، وبعضهم الآخر بالمنوّمات، وكم هي صعبةٌ تلك الحالة المعيقة لبرنامج العمل اليومي للإنسان حتى تعودَ الساعةُ الحيوية إلى نظامها. أذكر أننا، في العام الماضي، وبعد سفر يوم كامل عدنا سُكارى، لنغطّ في نوم عميق كأننا في غيابة الجُبّ، نستيقظ بصعوبة بالغة فنتطوّح، حتى مرّت أيام عُدنا بعدها إلى سواء السبيل.
وفي لندن جلسنا في فندق جميل البناء قريب من إحدى جهات حديقة الهايد بارك شمالاً (وما أكبر الدائرة حولها)، يحمل اسم شاعر الغزل الشهير اللورد بايرون Byron (وكان سكناً للسير وليام ستيرندال بينيت المؤلف والقائد الموسيقي 1816- 1875) وأقل ما يمكن وصف غرفه التي شملها التعديل والتقسيم بلا شك (وغرف أكثر الفنادق اللندنية) بأنها أشباه زنانزين انفرادية أو علب كبريت، ومن ثم يستطيع المرء بالكاد النوم فيها (مع أحلام نصف وردية نتيجة الانضغاط والبرد) أو التقلّب، ولا يعدم أن يقع عن السرير إذا سها أو زلّ، على أن كل شيء آخر في الغرفة والحمّام (دعك الآن من قصة غياب الشطّاف الغريبة في دول الغرب التي تصنعه لنا) متوافر ونظيف وحديث لا ينقصه سوى الاتساع، وأنّى مثل ذلك في لندن، حيث كل شيء بمقدار، وتكاليفه ناريّة بما لا يقاس؟
كان الجو بارداً غزير المطر أحياناً، لكننا حظينا بأوقات جفاف، جُلنا فيها في أماكن جديدة، ومنها قصر بكنغهام الملكي Buckingham الذي يحظى بعدد كبير من الزوار، وإلى جانبه حديقته بالغة الاتساع والجمال، حيث حظينا أيضاً بشمس لطيفة في المروج الخضر، وبرؤية الحراس اللطفاء المعتادين، على ما يبدو على كثرة الزوار.
3-كرنفال نونتغ هيل الحاشد في لندن: هرمونات فائرة ليست بلا مشاكل! مفاجأة ضخمة يومي الأحد 27 والإثنين 28 آب 2023 لم نسعَ إليها، مع أنها ظاهرة سنوية معروفة منذ 55 سنة، ولم تتوقف إلا عامَي كوفيد.
كنا لاحظنا في شارع Qweensway (منطقة Bayswater) الذي يضجّ بالحيوية (التي تذكر بشارع القصاع في الشام او الحمراء في بيروت)، وكذا في المترو حركة غير اعتيادية لصبايا وشبان سُمر غرباء، مع موسيقى صاخبة وقرع طبول ورقص، فقلنا: إنها لندن، وإنها نهاية الأسبوع!، لكنّ سيدتين سويديتين كانتا على وشك مغادرة فندقنا ليل السبت الأحد أخبرتانا عن (كرنفال ما) يقام الأحد، مما لم يُثِر انتباهنا كثيرا.
ظهر الأحد كنا بصدد الخروج، فإذا طريقنا عجيب غريب حاشد بأصناف البشر، لاسيما الشبان والصبايا الكاريبيين، بألبسة احتفالية جذابة وجريئة جدا تكشف كل التفاصيل (رغم البرد)، وهرج ومرج وزمامير؛ وإذا بالناس زرافاتٍ تُقبل من كل الطرقات باتجاه منطقة نوتينغ هيل Notting Hill، غربي بيزووتر، فيما أعداد لا تحصى من رجال الأمن والشرطة تراقب بصمت وتحمي الناس. على أن كلّ من سوف يدخل تلك المنطقة سيمر بكاشف المعادن؛ ولا تسأل عن الفرح المصاحب للصخب والموسيقى، ولا انتشار أصناف الطعام والشراب والحلوى والشواء والكحوليات والحشيش، في جو من الاستعراضات الراقصة الغريبة المدهشة، والضجيج العالي في شاحنات كبيرة ملوّنة تمشي وئيدة وعلى ظهرها المحتفلون والمعربدون. رافقنا الجماهير نحو ساعتين ثم عدنا، لنفاجأ بأن الاحتفالية متواصلة ليلاً بل إلى اليوم التالي، فالأحد يوم لكل أفراد الأسرة وخاصة الأطفال، والاثنين للجميع، وهو يصادف يوم عطلة عامّا يدعى يوم البنوك، وفوجئنا هنا أيضا أن الشرطة ساهرة مع الساهرين، لتبدأ خشيتنا من ألا نصل إلى مطار هيثرو في الصباح مع زحمة الطرق وتعطل كثير منها.
4-إرهاصات “ثورة” الكرنفال والتأكيد على التنوّع والحرّية.. تساءلت في نفسي: أيعقل أن مهرجاناً صاخباً جداً يلوّن وجه لندن ويبهجها ويوقف شرطتها على قدم واحدة يومين (ناهيك عن سابق الاستعدادات) بلا جذور؟ مستحيل. ورحت أبحث، وإليكم القصة:
“بعد الحرب العالمية الثانية، أدّى نقص العمالة في بريطانيا إلى استقدام الأقليات العرقية من منطقة الكاريبي (نحو 7000 جزيرة بين قارتي أميركا، أغلب سكانها أفارقة أرقّاء، شكلوا نحو 40% من العبيد المنقولين بحراً إلى الأميركيتين، وتتبع معظمها الدول المستعمرة الكبرى المعروفة) فعاشوا في فقرٍ مدقع في الشوارع الضيقة والأحياء المكتظة شمال كنسينغتون البريطانية، بلا ماء ساخن ولا كهرباء، لتصبح نوتنج هيل وبريكستون مناطق المهاجرين الهنود الغربيين (الأفارقة الكاريبيين من جامايكا وترينيداد وهاييتي والدومينيكان…) وبعض اليهود والأيرلنديين والإسبان وغيرهم. الأصعب الذي واجهه هؤلاء كان التمييز العنصري بقيادة السياسي السير أوزوالد موسلي (مؤسس الاتحاد الفاشي البريطاني، وزعيم حركة القمصان السود الذي حضر هتلر زفافه الثاني) بتهم أنهم استولوا على الوظائف، وتزوجوا النساء المحليات، وانطلقت موسيقاهم الصاخبة المزعجة من شبابيك بيوتهم حتى الصباح، ناهيك عن مشاكل أخرى كالقتل.
لكن مع حلول نهاية 1958، اتخذت إجراءات لتخفيف التوتر العرقي، ومنها أن الحزب الشيوعي البريطاني نظم احتجاجات مناهضة للعنصرية، وزارت شخصيات عامة مثل نورمان مانلي (رئيس الوزراء الأبيض لجامايكا البريطانية) المنطقة لإلقاء خطابات تشجيعية.
أما الفكرة البكر فقد جاءت من المناضلة الترينيدادية، المرحّلة من أميركا، ومؤسسة أول صحيفة للسود في بريطانيا كلوديا جونز (1915- 1964) وهي فكرة جمع الناس على جانبي الحاجز معًا باحتفالية مختلطة ترمم الاختلافات الثقافية وتؤكد على مسألتي التنوّع العرقي والحرية”.
بدأ المهرجان 1959 بداية متواضعة في قاعة «سانت بانكراس»؛ وكانت الاحتفالية الأولى في مكان مغلق، وتميزت بالموسيقى الكاريبية، وعُدّت نجاحاً كبيراً، على رغم أن الحضور من طبائع مختلفة.
وفي عام 1964 انتقل المهرجان إلى الشارع، ليتحوّل بعدها إلى احتفال صاخب يشارك فيه الناس من كل الأعمار والأعراق والفئات الاجتماعية، ويقام على مدى يومين، في شوارع غرب لندن مرة كل عام، ليعّد اليوم أكبر كرنفالات الشوارع في أوروبا، والثاني في العالم بعد مهرجان ريو دي جانيرو في البرازيل، ويستقطب أكثر من مليوني زائر، ولهذا هو أكثر الأحداث فوضوية وألوانًا، إذ يحضر السواح من أكثر من 40 بلدا، فالمهرجان هو الوقت من العام الذي تجتمع فيه لندن بأكملها وتحتضن الوحدة والتنوّع الثقافي، بغض النظر عن العمر أو العرق أو البلد أو الثقافة.
ولما كان الإنكليز فائقي الجدّ والبرودة (كما يشاع عنهم)؛ فإنهم يجدونها فرصة للفرح والترفيه والهزل في الزمن القاسي، عدا ما يأتي إلى البلد من دخل، ولهذا ترى الدولة هيأت الطرق وأضافت حتى حمّامات عامة، وترى رجال الشرطة يتغاضون عن بعض الممنوعات، لكنهم، بالأعين المفتوحة، لا يتهاونون بأمر الفوضى، علما أن كثيرا من الناس يشتكون الضجيج والقذارة التي تتركها الحشود، وأن حوادث مؤلمة تقع لبعض الناس ورجال الشرطة بسبب تعاطي المخدرات والعنف واستخدام السلاح الأبيض؛ وقد أشارت الشرطة البريطانية إلى أنه خلال يومي الكرنفال اعتقل 275 شخصا بتهم مختلفة، بما في ذلك حيازة أسلحة ومخدرات واعتداء على ضباط الشرطة وجرائم جنسية.
5-صديقاً لجهاز كشف المعادن وتعطّل الجو البريطاني يوم السفر . بعد عشاء وداعي لوجبة السمك والبطاطا الشعبية الشهيرة، باعنا إياها بريطاني سوري الأصل أشقر ضحوك ضخم؛ كان يتأمل أثناء عمله مشاغبات النساء في الكرنفال، حضّرنا كل ما هو مطلوب للصباح بحيث نغادر بسرعة، ورجونا أن ينام المحتفلون بعد أن ينهكهم التعب، وهذا بالفعل ما حدث في وقت متأخر. انطلقنا صباح الإثنين بأربع حقائب متوسطة مشياً سريعاً من الفندق نحو محطة المترو القريبة (800 يارد) هروباً من الزحمة، وكم تيسّر الأمر بشوارع شبه خالية وغير ممطرة لم يستيقظ أكثر ناسها بعد، عدا بعض جامايكيات فاتنات في طريقهن إلى الاستعراض، لننطلق من محطة بيزووتر، فمحطة بادنغتون الرائعة، ومن بهوها الواسع إلى عربة من عربات القطار في خط إليزابيث الأروع والأسرع، والتي تنفتح مباشرة في البهو المذكور. نصف ساعة تمضي بيسر، فإذا نحن في مطار هيثرو؛ وإذا أنا وجهاً لوجه مع مفتّشات المطار الصارمات في جهاز يشبه جهاز التصوير الطبقي؛ بعد أن صار جهاز كشف المعادن الدقيقة يستحي مني إذ يرنّ كل مرة، مستنفراً السلطات، ليسقط في أيديهم عندما يعلمون آسفين أن معدني النبيل ما هو إلا الشريط اللولبي الذي خاط به جراح القلب الدكتور غوبال عظم القص قبل سنتين بالتمام والكمال في مستشفى كليفلاند أبو ظبي؛ وكم كان سارّاً أن أعلم بوجوده قربي زائراً في لندن بعد كتابة رسالة الامتنان السنوية له.
ها نحن أولئك أخيراً أمام البوابة السابعة المخصّصة لطيران الإمارات التي تنفتح على قاعة فسيحة مضيئة تطل على المطار، لندخل بكل راحة إلى الإيرباص الحديثة العملاقة. ترتيب الطائرة وجمال مضيفاتها لا يخفيان، والصف الثاني والثمانون مريح جدا مع أنه في الدرجة الاقتصادية، خلافا لطيران يكاد يجعلك كالفروج المسحّب أو الجدي المكتّف، ويضنّ عليك بكل شيء، حتى رقم المقعد ما لم تدفع مبالغ إضافية.
جاء موعد الإقلاع في الثانية والثلث ظهرا، لكن الطائرة بقيت تعنّ بعد ذلك دون أن تنطلق؛ والمذيع يخبرنا بين الفينة والفينة أن جهاز ال ATS معطل قليلا وسيخبرنا بالتطورات أولا بأول. بعد الإعلان الثالث (دخل الفأر في عبّي) وقررت البحث عن معنى المصطلح؛ ويا لهول المفاجأة: المواقع تضج بتعطل الحركة الجوية فوق بريطانيا (عطل في الحاسب بمركز بريستويك في اسكتلندا أدى إلى وقف كل رحلات الطيران من بريطانيا فوق الأطلسي) فلا هبوط ولا إقلاع، وقد يأخذ الأمر اثنتي عشرة ساعة أو أكثر! وفي أحسن الأحوال يمكن العودة إلى نظام الملاحة اليدوي.
مرّت ساعة ونصف الساعة بشّرنا بعدها القبطان بإمكانية الطيران، ولا أدري إن كان قد أعطي الأولوية. كان هذا ظني. أما ما بقيت أفكر به فهو سرّ العطل، خاصة أننا سمعنا في اليوم التالي تعطّل كلّ مصانع تويوتا في اليابان. ألا يستدعي ذلك وقفة؟
كان معظم جيراننا في الطائرة من الأستراليين العاديين الذين يستطيعون السفر بكل حرية، وسيتابعون الطيران إلى أستراليا ستّ عشرة ساعة فوق الثماني الأولى إلى دبي، فأكلنا همّهم، وهم بدورهم أكلوا همّنا عندما عرفوا درجة الحمّى الخمسينية المقبلين عليها. كان معظمهم في سن الشباب، أحدهم نجار وسيم مع أخيه، والثاني رسام ضخم الجثة مع زوجته موظفة البنك الناعمة وطفلتهما الرضيعة التي بكت كثيرا في الرحلة (رغم العناية المثلى لوالديها)، فكان لا بد أن أتطوّع بخبرتي الطبية كي تسكت.
مطبات كثيرة واجهتنا في الطريق لكنها لم تمنعنا من الاستمتاع بكل ما تقدّمه (الإمارات)، مع جرعات قليلة من النوم بين وقت وآخر.
6-دبي تتلألأ في الليل.. ثم إلى البيت الساخن في العين.. ها هي ذي دبي تتلألأ في الواحدة والنصف ليلاً حيث بدأ القبطان يهبط منذ وقت. مطارها الفسيح جميل؛ وقاعات الاستقبال أكبر وأجمل. وها نحن أولئك (بعد رحلة الأختام وتسلّم الحقائب) في السيارة البيضاء (ذات المقود اليساري هذه المرة) التي ستقلّنا إلى العين، والتي يقودها (ويا لعجائب القدر) صديقنا الذي استقبلنا أول الرحلة في مانشستر.
واكتملت الدائرة، وصرنا بعد ساعة ونصف في بيتنا المهجور في العين في الثالثة والنصف من فجر الثلاثاء التاسع والعشرين من آب.
غبارٌ كثيف في المداخل وفوق السيارة، وأزاهير الحديقة يابسةٌ تماماً مع غياب يدٍ حانية تضفي طراوة على قسوة الشمس. البيت يشعّ حمّىً، ونحن نشعّ إرهاقاً ونعساً، وما من خيارٍ سوى الاستسلام للنوم في غرفة لن تبردَ قبل اثنتي عشرة ساعة على الأقل رغم التكييف (وواخجلاه من إخوةٍ يكابدون همّ الكهرباء)، والتكييف ههنا ضرورةٌ لا رفاه، مثل أمورٍ كثيرة كالسيارة مثلاً. هي ضرورةٌ ترافقها من غير بدّ عودةُ الشعور بعضلات الظهر والعنق وغيرها نتيجة متلازمة (الحرّ – التعرّق – القرّ على التوالي).
أكتب إليكم وأنا أتصبّبُ عرقاً حارّاً يبلّل ملابسي خلافاً لعرق لندن البارد، لاسيما صباحَ الركض إلى المطار. أكتب وأنا أتأمّل مدينتي الخضراء الجميلة (مدينة النخيل) المُتخمة تخمةً (نوعية ولا نوعية) بالأطباء والمنشآت الطبية، ودعايات هؤلاء الضخمة التي استقبلتنا ليلاً في الشوارع (وللأسف لم أعرف أحداً منهم)، مما لم نلاحظ مثلها في بريطانيا وكندا! هذه مشكلتهما، ما علينا.
أكتب وأنا أفكّر (في موسم مرضيّ يبدو مستعجلا وثقيلاً، حمى الله جميعكم) بمرضاي المخلصين الذين انتظروني طويلاً، ووجدتْ لي طيبتُهم عذرَ الغياب، كما أفكّر بالآتي من المهامّ التي تراكمت، لكن ليس بالمستحيل على من شاب شعرُه في عبور الجسور زحزحتُها، وفي الختام أفكّر بالسؤال التقليدي لبعضهم بعد العودة؛ لكنني لن أسأله ولن أردّ عليه؛ لأن ما كتبتُه كافٍ جداً للجواب على أي سؤال.
دمتم بخير.
د. غالب خلايلي
العين في 3 أيلول 2023