جبران مسعود مستعيداً ذكريات الـ 94 عاماً
من الصعب أن لا تُكمل قراءة كتاب “غضب الأنين” للمعلم والأديب والمؤرخ والقصصي والشاعر (رغم قلّة أشعاره) جبران مسعود، الذي صدر قبل أيام عن دار “هاشيت أنطوان” بعدد من الصفحات قارب المئة. صحيح أن الكتاب يُدوّن الخطوط العريضة، روائياً، لسيرة حياته وقد دخل الرابعة والتسعين من العمر، الاّ أن في الكتاب ما تشاء من صُوَر ومشاهد مكتوبة بحبرٍ مجبول بالحب والألم، وما تشاء أيضاً من أحداث سياسية واجتماعية وطلابية وعادات وتقاليد وثورات “مهذّبة” من الصميم على الإستعمار بأشكاله وأنواعه، الذي جعل لغة الضاد غريبة مستوحشة في بعض مدارس ذاك الزمان الذي أعادنا اليه جبران مسعود بتفاصيله الدقيقة، لعلّ من يعرفها يستعيدها ومن يجهلها يتعرّف اليها.
“الأستاذ مازن” هو الإسم الذي تبنّاه جبران مسعود ليكون “بديله” في رواية القصة، لا لشيء الا لأنه “يتجنّب” ما استطاع استعمال صيغة المتكلّم، صيغة الـ “أنا”، لذلك “سميّتُني في هذه المسيرة مازناً”، كما جاء في الصفحة الخامسة، مع أن هذا التوضيح، كما استعارة الإسم، “لا يقدمان ولا يُؤخران”، كما يُقال، لأن قارئ “غضب الأنين” يكتشف سريعاً أن مازناً ليس سوى جبران مسعود واضع معجم “الرائد” والكثير من المؤلفات الأدبية والتاريخية.
كلّ ما تقدّم يستوقفك، وقد تقرأ الصفحة مرتَيْن وثلاثاً وربما أكثر، مستلذّاً باستعادة صُور “زواريب” الأشرفية والوسط التجاري وركوب الترامواي وبائع الكعك والحامل “المطبقيات” المعلّقة على عصاً طويلة وفيها من الطعام ما يُهدئ “صفير” البطون الجائعة. لكنّ ما يشدّك أكثر الى القراءة والمتابعة هو هذه البلاغة الأدبية، وهذا الرُقيْ في الكتابة اللذان فقدناهما مع “اجتياح” الـ Junk Food والموبايل والذكاء الإصطناعي، وكلّ ما هو اصطناعي!
جبران مسعود في “غضب الأنين” يُدمع عيْنَيْك ويُبكيك، كما بكى زوجته حنان (الأديبة جوزفين مسعود) التي انطفأت بلمح الخاطر عندما كانت تتعالج في كندا ودُفنت في حفرة من قبر أُعدّت لإستقبالها وهيل عليها التراب. يومها صاح مازن صيحةً يقول أن “صداها تردّد في أرجاء مملكة الأموات”، كما كتب في الصفحة 55. ومنذ تلك الفاجعة، راح يُردّد من أعماق قلبه كلما لاح له طيف زوجه، بيتاً من الشعر لأبي تمام في رثاء ابنٍ له:
كان الذي خُفتُ أن يكونَ
إنّا الى الله راجعون
وتكتشف وأنت تقرأ آخر كتابٍ أصدره وقرّر اعتزال الكتابة من بعده، كما أبلغنا في حديث سابق، أن جبران مسعود، وإن لم يُشر الى ذلك يوماً في مقابلاته الصحفية، شاعر رقيق وأنيق في نظم قصائد الغزل وقد نشر بعض تلك القصائد وبينها واحدة غزلية رقيقة العواطف والكلمات، لو اطلع عليها كبار الملّحنين العرب لتنافسوا على تلحينها. أما مطلع هذه القصيدة فهو:
من وحيها أبكي اذا الهجران زاد بي البليّة
وأظلّ ليلي ساهراً إن طيفُها حمل التحية
وأُناشد الآمال في دنيايَ أن تبقى وفيّة
قلبي يُعذّب غير أني صابرٌ أرضى الأذية
مهما اشتهت لا أنثني عن رغبةٍ منها شهيّة
أضع النجوم اذا أرادت في غدائرها بهية
من وحيها أخشى الحصون ولا أُبالي بالمنية
في “غضب الأنين”، يكشف جبران مسعود جوانب من شخصيته، عندما كان تلميذاً وطالباً وأستاذاً وعاشقاً.
-كان نجيباً، سريع الحفظ، حاضر البديهة، وكان أسبوعياً تتزيّن صدره بـ 3 أوسمة: عن جهد بالعربية وآخر بالفرنسية وعن حُسن السلوك، باستثناء مرة واحدة لم يخجل من ذكرها: عندما انحنى تحت المقعد في الصف بحجّة البحث عن قلم رماه، وكان هدفه أن يرى ما تحت المريول الأسود الذي كانت ترتديه زميلته وداد، فكان أن خسر وسام السلوك عندما ضبطته المعلمة بالجرم “المشهود”.
-لقد جاهر جبران مسعود بعشقه لغة الضاد الذي عبّى منها حتى الإرتواء وادّخر من عصارة شعرها ونثرها ومن معين حضارتها، ما أرثى فيه القناعة بأن هذه اللغة هي القادرة على حشد اللبنانيين الى الراية، وعلى ضمّ الناطقين بها في الجغرافيا القريبة والبعيدة في الحاضنة القومية الشاملة.
-كان يرى أن أي وجود أجنبي فيه أضرار بكرامة الوطن، بلغته وثقافته، وأن الفائدة التي يحملها المستعمر معه لا سيما ثقافياً، هي ذريعة لبقاء نفوذه اذا ما أذن وقت رحيله.
-يقول: اتُهمت بأنني يساري النزعة وعندما سُئلت أجبت السائل: “اذا كان مفهوم اليسار عطفاً على اليتيم والسائل واليتيم والجائع والعريان، فأنا من اليسار”.
-كان والده (أبونا مسعود) رجل دين مؤمناً حقاً ولا يعرف التعصّب الطائفي. وكان يُقيم الصلاة في معابد بيروت وفي منزله في حي فرن الحايك في الأشرفية وكان مأخوذاً بتلاوات قرآنية كريمة تأتيه من إحدى الإذاعات، فيُشارك بصوته في آيات يحفظها. وكان لا يفوته سماع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ مصطفى اسماعيل. وكان يُردّد دائماً أمام أولاده: الصالحون من المسلمين ومن أبناء الملل الأخرى، هم اخوة لكم مثل الصالحين من أبناء ملّتكم، فكلنا أبناء الله نُدعى. وعندما استُضيف في المغرب منتدبأ من الجامعة الأميركية في بيروت في مهمّة تعليمية، دارت مناقشات حول الشعر الجاهلي وشعر الحقبة الإسلامية وتناول الحديث أعلام النهضة العربية من شعراء وأدباء مسيحيين ومسلمين ودروز، وخصّ بالذكر الشعراء والأدباء اللبنانيين في المهجر. فجأة علا صوت طالب مغربي اسمه صالح محتجاً: “عرب مسيحييون يا أستاذ، ما صار يا أستاذ ما صار”. لكنّ مازن سارع الى الردّ قائلاً: وأنا أيضاً مسيحي عربي. وتوضيحاً، تكلّم على تاريخ المسيحيين العرب في الجاهلية وفي الإسلام. ويقول جبران مسعود في هذا الصدد أن اعتراض صالح البريء لم يكُن ليُفسد نقاوة الجو الذي عاشه مع فريق المدّرسين شهراً كاملاً. أكثر من ذلك، انقضّ صالح عليه تقبيلاً وعناقاً وهو يُغادر المغرب قائلاً له: “السماح يا أستاذ السماح ما كنّا نعرف”. فأخذه مازن بين يديه وضمّه الى صدره وفي عينيه طلائع دمعَتَيْن وفي قلبه تهليلٌ للإنسانية التي انعقدت بينهما.
اذا كان “أنين الغضب” هو كتاب عن الناس خلال أحداث لبنان وفيه سُردت حكايات كثيرة عن مواطنين لفظتهم دوامات العنف التي فتكت بلبنان، فإن “غضب الأنين” سيرة روائية لأديب سيترك بعد عمر طويل بصمات في الأدب العربي وفي التاريخ وفي الرواية وحتى في الشعر.
هو حالياً يجلس في شرفته في منزله الكائن في الأشرفية مقابل المنزل الذي وُلد فيه وجمع منه ذكريات وذكريات. وفيما هو يستعيد المزيد من الماضي، ينتبه الى حالة بلاده المترديّة فيُفكّر بالأمر حزيناً مردّداً مع الشاعر العربي الذي نظم بيتاً من الشعر يُردّده جبران مسعود دائماً هو:
وطن يُباع ويُشترى ونقول فليحيَ الوطن
كذلك يُردّد ما قاله الشاعر فوزي معلوف عن وطنه لبنان:
الناس نحو الترقي سيرُها خبَبٌ ونحن نحو التلاشي سيرنا خبَبٌ
وفي آخر صفحة من الكتاب يقول:
-أمس استذكرتُ الأموات: جدّتي ووالدي وزوجي وشقيقي الأصغر أنطوان الذي فارقنا من ثلاثة أشهر. ثم صلى كعادته وفي عينيه دمعتان عصّيتان. وبصوت عالٍ ابتهل الى الله أن يرحم أبناءه الصالحين، هو المؤمن بخالق السماء والأرض وكلّ ما يُرى وما لا يُرى وبربّ العالمين الرحمن الرحيم. لقد بات حبّه الله يُلامس عشق الشاعرة الصوفية رابعة العدوية التي قالت مناجية ربّها:
أحبك حبّين حبّ الهوى وحباً لأنك أهلُ لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ له فكشفك عن الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمدُ في ذا وذاك