المال المهدور في لبنان على البنى التحتية
د. الياس ميشال الشويري
جاء في أسطورة قديمة، حسبما ورد في مقال شيّق للقس سهيل سعود عن اليأس الممنوع، أن الله أرسل ملاكه إلى الشيطان ليبلغه أنه سوف يجرّده من كل أساليبه الملتوية التي يستخدمها للتغلّب على المؤمنين وإخضاعهم وتدميرهم. فتوسّل الشيطان الى الملاك طالباً منه أن يترك له أسلوبا واحدا فقط، قائلا: “دعني أحتفظ باليأس”. وإذ ظنّ الملاك أن هذا الطلب بسيط، أبدى موافقته. عندها هتف الشيطان قائلاً: “بحصولي على هذا الطلب ضمنت كل شيء آخر“.
ممّا لا شك فيه أن الغالبية الساحقة من اللبنانيين واللبنانيات في هذه الأيام الصعبة تعاني اليأس والكآبة والإحباط والشعور بالقرف والذلّ، بسبب الضيقات التي فرضتها الأوضاع السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والانهيارات المتعددة الوجه، التي أوصلنا اليها معظم ما يسمّى بالسياسيين الفاسدين من الشياطين الذين فسدوا وأفسدوا وغطّوا الفساد والفاسدين. فحالة اليأس والإحباط ما هي إلا انهيار أمام عجز صناعة أي انتصار أو تحقيق أي انجاز لبناني كبير. النخب السياسية والتجارية تقاسمت القطاعين العام والخاص في لبنان في ما بينها، ما أوجد نظاما يمكنهم من خلاله جني الريع على أي نشاط اقتصادي تقريبا. يجب أن يحاسب هؤلاء على ما فعلوه لإيصال البلاد إلى مثل هذا الوضع الصعب. حقاً، أننا نعيش سلسلة من الهزائم في كل المجالات الواقعية، في كل حقيقة من حقائق الحاضر التي تقول أننا “متخلّفون” وستقرأنا الأجيال اللاحقة في أرشيف “بؤساء الأمم!”
في حاضرنا اليوم، لا نُقدم للعالم مشهدا واحدا يليق بوجودنا بين البشرية، ولا نبدع إلا في لغة واحدة هي “الانهزامية”. فنحن مهزومون في دواخلنا وفي بيوتنا وفي شوارعنا وفي وطننا، مهزومون في كل شيء. نعم، ماذا قدّمنا كوطن للعالم اليوم؟ قدّمنا الكثير في ما مضى، لوجود رجالات على رأس الدولة؛ أما اليوم، فنحن نقدم في العلم مزيدا من الجهل، وفي السياسة اختلاف، وفي الاجتماع تخلّف، وفي الإنسانية قتلٌ ودمار، وفي الاقتصاد دروسا عالمية في الفساد والهدر، و …
عُراة! نعم إن عملية التعرية قائمة في لبنان على قدمٍ وساق، فعوامل الحت تأكل دواخلنا، وتتركنا رمادا تذروه رياح الإحباط واليأس حتى أصبحنا هياكل جوفاء قائمة بالإسم وبالشكل، وغائبة في الروح والمعنى. فالمضامين باتت فارغة والطموح بات معدوما والمُستقبل مجهولا! ما السبب؟ الأسباب كثيرة! في كل سنة من السنوات الأربعين الماضية البغيضة نجد شماعات نُعلّق عليها كل خيباتنا. لدينا العديد من نظريات التآمر وكل أنواع
التفرقة التي فرضناها على أنفسنا نحن! نعم، نحن كلنا شركاء في الهرولة نحو القاع، القاع الذي لا يمتلئ إلا بنا! نحن المؤامرة، ونحن السبب، ونحن العلاج فقط.
“ما أسخف الصلعاء التي تتباهى بشعر جارتها”. رحم الله من أطلق هذا المثل! كم نتغنى بنماذج شعوب أخرى نهضت واستفاقت وحرّكت عجلة الإصلاح والتنمية، بعدما خرجت من وحل الفساد ومستنقع الظلم، وطبّقت القانون وحققت العدالة، ونسينا أنفسنا كنموذج مُعتل بين الأمم، ونحن المتشدقون الذين صنعناه! ولم نكتف بذلك، بل أصدرنا الاحكام: هؤلاء عملاء، وهؤلاء متآمرون، وهؤلاء كفرة، وهؤلاء خونة، وهؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار وجهنم … ونحن ماذا؟ أترك لكم الإجابة. كيف للعين أن تجّف دموعها وهي ترى الوطن يعصف به الصخب والإعصار، ولم يبق له من بريق تاريخه إلا اليسير … بعدما كان في الخمسينات والستينات قمة ممنوعة، وطودا يعلو شامخاً، ورياضاً لكل العرب، وملاذاً لكل من ينشد العيش الرغيد، ودوحة يستريح عندها كل مسافر!
على أي حال، يذكر اللاهوتي الألماني المعاصر، يورغن مولتمان Moltmann Jürgen، “أن هناك علاقة لا تنفصل بين الإيمان والرجاء. الإيمان يربط الإنسان بالله في الحاضر، أما الرجاء فهو يطلق الإنسان نحو المستقبل؛ الإيمان يضع الإنسان على الطريق نحو الله، والرجاء يحفظ الإنسان في الطريق؛ الرجاء يمنح الإنسان المؤمن البصيرة الروحية لكي يرى ما لا يستطيع ان يراه بالعين المجردة؛ الرجاء لا يستسلم للحاضر المرئي بل يتمرّد على الحاضر ويشقّ طريقه وسط صعوبات الحاضر ليتطلّع إلى مستقبل أفضل تحت رعاية الله؛ الرجاء لا يقبل بالأمور كما هي، بل يراها تتغيّر، تتحرّك، تتطوّر؛ الرجاء يرى إمكانات جديدة للتغيير”. لهذا، فإنه إستنادا الى هذين المبدأين الأساسيين: الأول، الإيمان بالله القادر على كل شيء، والثاني، الرجاء بالتغيير والمشاركة في بناء وطن أفضل، اليأس ممنوع!
باختصار، أسباب اليأس – لبنانياً – اليوم أكثر من أسباب التفاؤل والأمل، ولكن الاستسلام لهذا التوصيف القاسي يعني هزيمة ساحقة، قد لا ننهض منها عقودا وقرونا، وهو ما يتطلب تراكماً تنظيرياً في صيرورة الأمل. وكما تقول أستاذة الأنثروبولوجيا، شيريل ماتينجلي ( Cheryl Mattingly )، الأمل يؤثر في بناء التوقّعات وتصوراتها. المؤسف حقاً أننا نعيش على قطعة أرض تتحكّم بها “بوطة” أقل ما يقال عنها فاسدة ومجرمة بحق الإنسان والوطن! يطبّق على هذه السلطة مبدأ الكلِيبتوقراطية، مصطلح يرد تفسيره في معجم العلوم السياسية، بكونه تعبيراً عن نظام حكم جوهره الفساد واللصوصية، أو نهب الثروات العامة.
تقوم سلطة الفساد، كما هو حالنا مع وحدة متماسكة بين سلطة سياسية حقيرة، بكل ما للكلمة من معنى، وسلطة مافيات لصوصية تسطو على الثروة العامة بوسائل عديدة يتم شرعنتها، بآليات عمل حكومية رسمية عبر برامج مشروعات وهمية وأشكال من التَسَتُّر من قبيل إحالة ما يُفتضح من أمور للجان تحقيقية تنهض بمهمة تمييع القضايا وسط تراكمها وكثرتها، وضخامة ما فيها، وفوضى ما ينثر حولها.
ان ما يؤدي للفساد بشكل حتمي هو اجتماع الدكتاتورية السياسية الفاسدة مع الجشع الاقتصادي في نظام الحكم؛ للأسف، هذه هي الحالة المسيطرة على لبناننا. وعلى رغم أن لبنان غني بالموارد، إلا أن هذه الثنائية أدت إلى تراكم ثروات هذه البلاد في أيدي قلة قليلة من الحثالة المتنفذين، والجشعين الحقيرين. هذه الثروات المكّدسة لا يتمّ استخدامها في غالبيتها الساحقة لدفع أي عملية تنموية في البلاد، بل يكون مصيرها، إما التهريب لتوضع في بنوك خارجية بأسماء وهمية حتى لا ينكشف أمرها، تماما كما فعل اللصوص وتجار الهيكل بأموال المودعين وجنى عمرهم، أو يتم دفعها لنيل رضا وقبول “ضباع العالم” لضمان دعمهم في البقاء والاستمرار في السلطة، أو يتم إهدارها ليلا ونهارا بشكل مستفز ومثير للاشمئزاز أمام أعين الشعب المسحوق.
في هذه الحالة يصبح انتشار الفساد حتميا كالمرض المعدي – من رأس السلطة نزولا إلى كافة أعضاء الجسم السياسي والإداري والقضائي والاقتصادي والاداري والمالي والقضائي والامني … للدولة. فالنظام الفاسد لا يُمكن أن يحوط نفسه بأشخاص ليسوا فاسدين، وهؤلاء بدورهم لا بد من أن يحوطوا أنفسهم بدائرة من المعاونين الفاسدين. وبهذه الطريقة تماما تتوالى دوائر الفساد وتتشعب وصولا إلى أدنى المراتب.
في الصين، على سبيل المثال لا الحصر، فقد أعلن الرئيس شي جين بينغ في العام 2012 الحرب على الفساد، والتي استهدفت كل من “النمور والذباب” في إشارة إلى كبار المسؤولين وإلى الموظفين ذوي الرتب المتدنية. وكانت هذه الحرب أكبر جهد منظم لمكافحة الكسب غير المشروع في تاريخ الحكم الشيوعي في الصين. نتيجة لذلك، يقبع العديد من السياسيين والبيروقراطيين الصينيين الأقوياء – الذين كان لا يمكن المساس بهم في السابق – الآن في السجن بسبب الفساد. نأمل أن يتحقّق هذا الشيء في لبنان المتألم من أفعال الساسة الفاسدين الذين شوهوا كل شيء!
في النهاية، كل ما نرى في لبنان من فساد وارتباك وفوضى وتدهور وانهزام وانتصارات وهمية نشأ من عدم شعور الساسة الحقيرين بالواجب. بشكل عام، أهم عناصر قوة أي بلد تكمن بجودة تعليمها، ونزاهة قضائها، وحسن اختيار قادتها، ومحاربة الفساد على كلّ مستوى. بشكل خاص، بدون مؤسسات رقابية قوية، يصبح الإفلات من العقاب هو الأساس الذي تُبنى عليه أنظمة الفساد، وإذا لم يتم القضاء على الإفلات من العقاب، فإن كل الجهود المبذولة لوضع حد للفساد ستذهب سدى.