لوحة العيادة بالقرب من مستشفى شهير
قصة منشأة بسيطة متواضعة ربّما لا تهمّ غير صاحبها، لكنّ رسمَها لمعالمَ من تطوّر المهنة الطبية، قد يثير شهوة القراءة.
د. غالب خلايلي
قد يظنّ القارئ للوهلة الأولى، أنني أخطأتُ العنوان، ومعه كلّ الحق، فياء “عيادتي” تدلّ لغوياً على المُلكية، فكيف صرتُ إذن أملكها بعد هذا الزمن الطويل؟
على أن لهذه (الأحجية) تاريخاً طويلاً ابتدأ منذ أن ابتدأتُ عملي الوظيفي مغترباً بصفة (اختصاصي في طُبّ الأطفال)، في عَشريّة صعبة (1988-1998)، إذ كان المستشفى الذي أعمل به أحد مستشفيَيْن كبيرَيْن يخدمان المدينة، وكان جلّ الضغط على “مستشفاي”، زادته ندرةُ العيادات والمستشفيات الخاصة صعوبةً، حتى بتّ أخشى – والعوذ بالله – أن تشرقَ شمسُ يوم جديد، لأن همومَ البارحة وما قبلها ما زالت تطاردني، وتطارد عائلةً أفرادها كزغب القطا، عاشوا معي حياة الاستنفار وقلّة النوم، وما قد يرافق ذلك من نَزَق، هذا مع اعترافي بفضل عملي مادّياً وطبياً، إذ كان مثمراً إلى حدّ كبير، لا سيما مع دخول كلية الطب والعلوم الصحية FMHS مرحلتها التدريبية لأول دفعةٍ من الطلاب (تقاعد بعضهم اليوم)، بوجود أستاذ عظيم الشأن (البروفيسور جورج ماكسويل) مما كان له أكبر الأثر في الكُليّة وفينا عندما أضفى (وفريقه) الصفة الأكاديمية الراقية على عملنا.
كانت فكرةُ الاستقالة تقوى يوماً بعد يوم مع غياب أيّ أملٍ في الراحة أو الترقّي أو حتى تغيير المسار كلّه في غير مستشفىً أو بلد. تزكية أستاذي السويدي في البحث العلمي (بو لندبلاد) لم تؤتِ أكلها حتى في جلب فيزا، وكذا تزكية أستاذي (سامي القباني) للاختصاص في طب قلب الأطفال. الفكرة الأقرب إلى التحقيق هي افتتاح عيادة خاصة، ومع ذلك تريّثت لغياب أدنى خبرةٍ لي في العمل الخاص (الذي صار اسمه “بزنس” اليوم). أذكر أنني رفضتُ وقتَها فكرةَ التشارك ومؤسّسة تجارية مهمة، بعد جلوسي مع مجلس إدارتها على طاولة ضخمة، بناء على تصميم رئيس المجلس. أحسستُ بينهم باليُتم، فقرّرتُ السيرَ وحدي، حيث يبقى نجاحي (إن تمّ) لي لا يقاسمني فيه أحد، فيما ليس للفشل سوى أبٍ واحد (أنا) ونهايته معروفة.
ولما كان الفشل غير مسموح به لأنه بمثابة ضربة قاضية، فقد أخذتْ فكرتي وقتاً طويلاً من المناقشة والتقليب والتشاور مع ناصحين أمناء، منهم والد زوجتي الأديب (وليد مدفعي) ذو الرؤية البعيدة. ولما نضجت رحتُ أفتّش عمّن يكفلني. كانت فكرة (الكفيل) في دول الخليج وقتها أمراً حيوياً، فيما عملية البحث مضنيةٌ لأمثالي ممّن يتحسّبون لأي شأن ولو يسير، وهي تكاد تقاربُ – لمن لا يعرفها، أو أتعسَه زمانُه فذاق مرارتها – فكرةَ الزواج، فكما هو اختيار قرينٍ أمرٌ صعبٌ يحتاج إلى تروٍّ، فإن اختيارَ كفيلٍ بصفاتٍ خاصة أمرٌ ليس سهلاً، لأن كلا الأمرين قد ينتهي بالفشل في حال سوء الطالع أو الطمع، وما أدراك ما الفشل، وما المتاعب القانونية لإحدى الجهتين أو كليهما!.
على أن حيرتي لم تدم طويلاً بعد سنوات من معرفتي بالناس الطيبين. فبعد أن تراجع كفيلٌ (توسوس لسببٍ لا أدريه)، جاء الكفيل الثاني كالسّمن على العسل، فدامت العلاقة الإنسانية بيننا نحو عقدين، ولو لم يحتجْ هو إلى الفكاك لما احتجتُ إلى البحث عن غيره، مما ظننته سهلاً في البدء، لطول مقامي ومعرفتي بالناس في عقودٍ ثلاثةٍ كبر معها أولاد من كنتُ أعالجهم صغاراً، وصار بعضهم زبائني.
لكنّ الأمر لم يكن بالسهولة المُتخيّلة! كان ذلك قبل عام كوفيد، حيث بدأت الأجواء تغيم، لأكتشف أن الدنيا تغيّرت خلال عقديّ (عيادتي)، ولهذا فشلتُ في العثور على كفيلٍ من نحو خمسةٍ توسّمتُ بهم القبول، وكذا غيرهم ممّن اقترحهم أصدقاء، وكنتُ أنا الرافض لأسباب عمليّة لا داعي لإتعاب دماغ القارئ بها.
حقاً إن رفض الأحبّاء فاجأني، لكن إلى وقت قصير، لأن للكفالة مسؤولياتها وتبعاتها التي لا يستطيعها كل شخص (وربما كنتُ أنا واحداً منهم)، فكم من كفيلٍ طيبٍ أعطى ثقته لمكفولٍ فبات مديناً للبنوك، بسبب خيانة الأمانة والفرار! أما ما أحزنني بعض الوقت فخسارةُ بعض هؤلاء زبائنَ لي، ربّما استحياء، وإن بات بعض التقلّب مألوفاً مع تقلّب (السوق) وكثرة الخيارات التي انفتحت استثمارياً على أمور متعددة، بما فيها المستشفيات الخاصة الكثيرة متلألئة النجوم، والمراكز الطبية والتجميلية التي لا تكاد تحصى.
ومع ذلك وفّقتُ بأمرين، رغم قسوة الظروف في زمن كوفيد وما بعده: أولهما: تكرّم من يكفلني بطيب خاطر ومحبة دون أن يتخوّف كلانا من أيّ أمر سيئ. وثانيهما: قدرة عيادتي على التجديف في بحر لجّي متلاطم الأمواج، في شواطئه الكثير من المغريات التي لا أملكها، وأهمها التعاقد مع التأمين.
وللتأمين في النفس شجون. هو الذي هرول إليه كثيرون لكثرة منافعه يومَ وُلِد خديجاً بغواً، فما احتجتُه وهو مقبلٌ، وعيادتي في قمّة عطائها، وعندما انتشر كالنار في الهشيم وأنا مُدبرٌ، كنتُ الرافضَ أيضاً، فما لي وطول الطوابير والتشكّك وضياع الوقت (بالرفض والمراجعة) وأنا الحرّ السعيد مع مرضاه المختارين أو الذين لا يجدون غير ملاذ، أتباسط وإياهم كأننا أهلٌ. لم أشأ في حياتي – مثل نفرٍ قليل شوه المهنة – أن أعبث بالقيم الطبية كي أستفيدَ على حساب المرضى والتأمين، ولو شئت لفعلتُ بيُسر، فما بين الطبيب ومريضه غير ضميره وربٌّ عليم.
وهأنذا، بعد ربع قرن من افتتاح العيادة، “أجدّفُ” بحمد الله مرتاح الضمير، فيما رستْ قوارب معظم من أعرفهم، مع الهرم وصعوبة التجديف المتزايدة، اتجاهاً نحو مثاليةٍ قصوى مكلفة جداً، لينضويَ عدد من الزملاء في مراكز ومستشفيات، قيدَ واجباتٍ وشروط، ويغادرَ نفرٌ إلى موطنه تاركاً وراء ظهره كل همّ.
والذي استجدّ، بعد ربع قرن، أن من يكفلني اضطرّ إلى التوقّف، خاصة وأن القانون تطوّر فسمح بكفالة المرء لنفسه، وما عاد لها ذلك الوهج إن كان بإمكان المرء أن يقيمَ أودَه. وهكذا رحتُ أعملُ على نقل عيادتي إلى اسمي، لتضافَ في النهاية بضعةُ أحرف إلى اسمها دالّة على صفتها الجديدة، وهذا أخذ من الزمن نحو شهرٍ كبيسٍ من الواجبات، لكنني، للمرة الأولى، قمتُ بكل ما يلزم وحدي دون مكاتب وسيطة. ولمن لا يعلم، ليس ذلك سهلاً أبداً، لولا معرفتي الكتابية، وتوفّر معلومات وافية في المواقع، والأهم وجود أصدقاء طيبين في المفاصل الحيوية.

أكتب لكم بعد أسبوعين من نجاحي، لأنني بعد أي معاملة أدخل في “نقاهة” مثل من خاض معركة حامية الوطيس، وخرج لاستعادة العافية. والجميل في هذه المرة أنّ مناعتي لم تضعف، ولم أصبْ بمرض يطول أمده عادةً في كل معاملة، ربما لأنني استغنيت عن رحلات الذهاب والإياب إلى وسيط مُعِلّ.
وهكذا، وإن لم يتغير شيءٌ بتاتاً عن قبل، ابتدأ عملي بصفته الجديدة في سنته السادسة والعشرين (وأنا ابن أربعة وستين)، لأذكرَ هنا بمحبّةٍ خالصةٍ جميلَ كلّ من كفلني ما حييت، إذ كان في قمّة الكرم الإنساني والعطاء دون انتظار المقابل (مما يصعب وجوده في غير مكان)، وكذا أذكر جميلَ مرضاي الذين ما خذلوني في الأوقات الصعبة، فبقيت عيادتي (التي أكافح مادياً ومعنوياً لاستمرارها، مع صعوبة الخيارات البديلة) صادقةً وصامدةً في وجه التغيّرات والمغريات.




العين في 29 شباط 2024