بدايات البرق والرعد والطريق خالية من السيارات والمارة
د. غالب خلايلي
لأن آثار عاصفة البَرَد في شباط (فبراير) الماضي لم تزلْ – بأوجاعها الحادة والمزمنة – في البال، راح الناس منذ الأسبوع الأول من آذار (مارس) الحالي يستطلعون كلّ أخبار الطقس، ويتحسبون لما هو آتٍ مع المنخفض الجوي بين 8 و10 الحالي2024، ويتتبعون آثاره في وسائط التواصل، تلك التي طغت على الأخبار التقليدية، فلا تعدم شريطا محذّراً من هنا وآخر من هناك، كلّ يتفنّن في طريقته التحذيرية للناس، حتى إذا ما أتى يوم الجمعة الثامن قبل أربعة أيام (وقد صادف وقوعه مع حلول يوم المرأة العالمي) حتى خلتُ أن هناك حظرَ تجوّل يشبه كثيراً أيام (كوفيد)، فإذا الشوارع شبه خالية يومي الجمعة والسبت، وإذا بمعظم الناس يسعَون إلى سد الثغرات التي يمكن أن يتسلّل منها المطر، كذلك تخبئة سياراتهم في أماكن يظنّونها أمينة، ومن لم يستطع ذلك راح يغلف تلك السيارات بما استطاع إليه سبيلا، من فرشات وبُسُط وورق مقوى (كرتون) وأشرطة لاصقة، بعضها تغليف بدائي (هات إيدك والحقني، وقد طار مع أول هبة ريح) والآخر تغليف مُحْكَم احترافي لا سيما عند أصحاب معارض السيارات الذين تأذّى بعضهم بشدة في العاصفة الماضية.
1-مصائب قوم.. بعد العاصفة الماضية التي نجم عنها الكثير من الأضرار في الممتلكات والسيارات والمباني وبعض الأرواح أيضاً (ونسأل الله لها الرحمة)، نَشَطَت سوق الصيانة والتصليح في كل مجال، حتى لم تعد تجد موطئ قدم في المنطقة الصناعية، إذ نشأت أضرار عاجلة لا بدّ من إصلاحها، اذ كيف تسير السيارة بلا أضواء أو مرايا أو زجاج أو بمحرّك محترق، وكذلك بأضرار آجلة يمكن أن تنتظر بعض الوقت، مثل تأذّي هيكل السيارة بنعرات صغيرة لكنها متعددة ومشوِّهة، حتى إن إصلاحها يتطّلب ما يعادل آلاف الدولارات، إذ لا بد من فك و(تصويج) السيارة كاملة، ومن ثم دهنها (رشّها) من جديد، وإن نشط سوق التصليح بآلية باردة جديدة دون فك، لكنها هي الأخرى مكلفة أيضاً (نحو ثلاثة آلاف دولار)، وهكذا رحتَ تسمع عن دورٍ لعدة ساعات من أجل شراء مرآة أو لوح زجاج بأسعار مضاعفة (علماً أن السلطات وقفت بالمرصاد لهذا الاستغلال)، فيما صبر كثيرون على سيارات مشوّهة حتى يبرد السوق. كذلك نشط سوق لوحات الإعلانات (الآرمات) التي تكسّرت بسبب العاصفة، وسوق الكهرباء عموما، فصار العثور على كهربائي أو ميكانيكي أو مصلح مواسير أصعب من الحصول على اختصاصي قثطرة شريانية.
ومن المؤكد اليوم أن سوق الأشرطة اللاصقة والحبال والتغليف نشط إلى حد بعيد، فخسارة عشرات الدراهم أو مئاتها أهون من خسارة الآلاف.. ويبرز من بين ركام الكلمات القول المعروف: مصائب قوم عند قوم فوائد.
2-درهم وقاية.. وعمل عائلي مشترك! مع أنني أتتبع أخبار الطقس من غير مصدر، ومنها بعض زبائني المطلعين، إلا أن عدوى التغليف سرت إليّ وزوجتي عندما خرجنا ليلة الخميس الجمعة (7-8 آذار) نتمشى مشيتنا المعهودة، فإذا بجميع من حولنا، إما انتهى من حماية سياراته، أو يقوم بشكل محموم (وقتها) بالتغليف. الجو في الليل رائق صاف جميل معتدل الحرارة، ولا شيء في الأفق يدل على عاصفة قادمة قبل جهجهة ضوء الجمعة. ومع ذلك عدنا نبحث عن أغطية تحمي بعضاً من هياكل سياراتنا، خاصة وأن غطاء الموقف (الباركنج) لم يفد كليا في الزيارة غير المرحب بها للعاصفة الماضية، فقد راحت تخبط يمنة ويسرة إلى أماكن يفترض أنها محمية، وبعد ساعة من “العمل العائلي المشترك” أغلقنا أبوابنا، ونمنا متأخرين بعد الثانية ليلا، حيث شعرت ببضع قطيرات من المطر في حديقة المنزل، فقلت: أول الغيث!..
وفي الصباح استيقظنا على شمس مشرقة، دون أي دليل على المطر، عدا عن هواء أزاح غطاء النايلون كاملا عن سيارة تقف مقابل منزلنا.
وفي ليلة الجمعة السبت، تمشينا مرة أخرى بعد يوم هادئ تماماً، وكان الجو في غاية الروعة: برد جميل ونسمات عليلة، وبعض غيوم في الأفق. أين أنت أيها المنخفض؟
3-مساء عاصفٌ السبت.. وعطلة للعيادة! عطلتي الرسمية هي يوم الجمعة، ونظام الدولة يسمح بتحديد العطلة حسب المتطلبات عند كل شخص ومؤسسة. وحتى المؤسسات الكبيرة (كالمدارس وغيرها) يتوافر لها قدرٌ كبير من المرونة، إذ يمكن تحويل العمل إلى البعد (Online) مع توافّر شبكات تواصل قويّة ومأمونة. هذا – من جملة أمور- أمرٌ ممتاز يعطي المرء حرية التصرف حسبما يرى، فيما تنصح السلطات باتخاذ التدابير المناسبة عندما ترى ضرورة لذلك.
استيقظت باكراً مُضَعْضعاً صباح السبت، وفي ذهني أن عاصفةً حلّت أو ستحلّ، فعدت إلى النوم بعد تناول كأس من عصير الليمون، ولما عاودت الاستيقاظ بعد ساعتين، كان الجو هادئاً فتناولت إفطاري الذي أحرص عليه (مما لم أكن أفعله خطأ أيام الصبا والشباب)، وقلت: أذهب إلى عيادتي. كانت الطرق شبه خالية، فلم يأتِ أحد حتى ممّن اتصل بي يوم الجمعة، فعدت أدراجي إلى البيت. وبعد الغداء، استيقظت عصراً على صوت الرعد الهادر والمطر الشديد الذي غمر بعض الساحات تماماً، رغم اتخاذ الاحتياطات كافة، إذ يحرك الهواء التراب وأوراق الشجر ويسدّ بعض الأقنية. والحال هذه، قررت البقاء في البيت خاصة مع توارد أنباء عن سيول قوية في أماكن مختلفة من الدولة وجوارها.
وفي الليل ذهبت وزوجتي في جولة تحت رذاذ المطر الناعم في جو بارد يذكّر ببلاد البرد والضباب. ذهبنا بلباس واقٍ متلفّحَيْن، ومحتمَيْن بمظلة واقية من المطر، باتجاه حديقة الوادي الكبيرة بحذاء مدرسة الأولاد القديمة (الظفرة)، حديقة كنا سبرنا طرقها الجميلة آلاف المرات لأكثر من ربع قرن، وكم كان منظراً مدهشاً ذلك الجريان النادر في الوادي (النهر) لماء دافق غزير يأتي من الشرق (من أفلاج عمان المجاورة للعين) باتجاه الغرب. وصلنا آخر الحديقة شبه المعتمة والتي خلت تماما من الزوار، حتى تبللّت ملابسنا إلى حد محتمل، فعدنا أدراجنا إلى البيت، في طريق نمتْ على أطرافه عشبة الخبيزة بغزارة غير مألوفة، مثلما نبتت أعشاب كست التربة بلون أخضر جميل، وهي التي سرعان ما تجفّ في الجو المشمس الحار.
4-أحد مشرق.. ورمضان على الأبواب.. أشرقت شمس الأحد صافية جميلة وكأن شيئاً لم يكن. بدأ الناس في نزع الأغلفة عن سياراتهم، وامتلأت الشوارع بالناس يتدبرون أمورهم وأمور الشهر الكريم الذي يدقّ الأبواب. زارني بعض المرضى في العيادة في الصباح، لأفاجأ في المساء بإعلان دخول الشهر الكريم علينا بدءأ من الإثنين، وكنّا نظنه الثلاثاء.
لا يبقى إذن بعد انقشاع الغيوم، وشروق هلال رمضان الكريم، إلا الرجاء لكل العباد أن تنقشع غيوم همومهم، وتشرق آمالهم، وتتهلّل وجوههم، وما ذلك على الله بعزيز.
كل عام أنتم بخير.
العين 10 آذار 2024